الصمت الخليجي – السعودي المريب
دعم ثورات الشعوب ليس بمستنكر ولا مستغرب ، لأن هذا الموقف هو الواجب الشرعي والإنساني لكن ما يدعو للعجب والدهشة ، هو التباين البالغ حد التناقض في المواقف بين ثورة وأخرى ، وهو ما ينطبق على مواقف دول مجلس التعاون الخليجي العربية من كلٍّ من ثورتي ليبيا وسوريا ، فهي إذ تؤكد "عدم شرعية " نظام الزعيم الليبي معمر القذافي ، وتدين " الجرائم المرتكبة ضد المدنيين ، باستخدام الأسلحة الثقيلة والرصاص الحي ، وما نتج عن ذلك من سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين الأبرياء " وتعتبر أن تلك الجرائم " تشكل انتهاكاً خطيراً لحقوق الإنسان ، والقانون الإنساني الدولي " ، بل تجاوز الدعم الخليجي حد الكلام إلى الدعم الفعال للثورة الليبية بالمال والسلاح ومشاركة بعض الدول مثل قطر والإمارات في تطبيق قرارات مجلس الأمن !. لكن موقف هذه الدول ذاتها من الحالة السورية مختلف جداً ، رغم وحشية النظام السوري التي تفوق وحشية القذافي ، ورغم جرائمه الفظيعة المرتكبة ضد المدنيين باستخدام الأسلحة الثقيلة والرصاص الحي ، وما نتج عن ذلك من سقوط ما يقارب ألف شهيد وآلاف الجرحى والمعتقلين ،.مع فارقٍ أساسي له اعتباره ووزنه ، يجعل من الحالة السورية أشد مأساوية وأدعى إلى التضامن معها ، وهو أن الاحتجاجات فيها سلمية بخلاف الثورة الليبية المسلحة ، وما تزال تحاول جهدها في الحفاظ على سلميتها ، رغم محاولات النظام القمعي دفعها إلى العنف دفعاً ، من خلال ارتكاب أبشع المجازر في حق شعب أعزل ، لا ذنب له إلا أنه خرج في مظاهرات مشروعة بحسب تصريح النظام السوري نفسه ، ليطالب بإصلاحات مشروعة أيضاً باعتراف النظام ورأسه !. وعليه خرج السوريون الذين صبروا أربعين سنة على الضيم والتهميش والخنق ، خرجوا بصدور عارية ، يطالبون بحريتهم وكرامتهم ، فهل هذا المطلب مشروع لليبيين حرام على السوريين ؟. أليس من حق السوريين أن يعيشوا حياة حرة كريمة لائقة بالآدميين وأن ينعموا بالأمن والاستقرار ، وأن يحقِّق الشعب السوري ما يصبو إليه من رخاء وازدهار ؟!. فلماذا هذا الصمت الخليجي – السعودي المريب ؟. وبماذا نفسره ؟. وكيف نبرره ؟. أليس هذا هو الكيل بمكيالين ؟. ألا يدل ذلك على أن دموع السعودية ودول الخليج التي ذرفوها على الليبيين هي دموع تماسيح ! وأن المصالح النفعية الآنية لا الطويلة المدى ، والروح الأنانية الضيقة لا الأخلاق العربية الأصيلة ولا المبادئ الإنسانية ولا الأخوة الإسلامية ، هي التي تحكم السياسة السعودية خاصة والخليجية عامة !؟. وإلا فكيف نقرأ صمتها عن وحشية آل الأسد وشبيحتهم التي فاقت وحشية القذافي ومرتزقته ؟. ألا يستحق الشعب السوري من قادة مجلس التعاون الخليجي في قمتهم الأخيرة بياناً على الأقل تستنكر أو تندد فيه بالجرائم الفظيعة التي يقترفها النظام السوري المستبد تجاه مواطنين مسالمين برءاء !؟. لكن المؤسف حقاً أن الدول العربية ودول الخليج خاصة لم تسكت فقط عن حمامات الدم في مدن وقرى سوريا ، بل اعتبرت ما يجري شاناً داخلياً ، وكأنها تعطي للنظام ضوءاً أخضر ، ليواصل قتل شعبه ومواطنيه بالمئات لا بالآحاد والعشرات ، بل سبق وأن أرسل – ويا للعار - كثيرٌ من حكامها وأمرائها رسائل تأييد ووقوف إلى جانب النظام القمعي !.
ألم يسمع ( خادم الحرمين ومعه هيئة كبار العلماء وشيوخ الحرم ! ) بمجازر درعا والصنمين ودوما وبانياس والبيضا وحمص وسواها من قرى سوريا الذبيحة ومدنها !؟. ألم ير كيف أذلوا الرجال في البيضا ، وداسوا على شواربهم ولحاهم ؟. ألم يسمع الأنباء المروعة عن قتل النساء والشيوخ والأطفال والعمال ؟. أوما رأيت – يا جلالة الملك - الدبابات تصول وتجول بين البيوت ؟. أليس من الواجب التدخل والسعي لإيقاف هذه المجزرة ؟. أم يستمتع جلالته بمتابعة هذا المسلسل اليومي من العنف الدموي كما استمتع من قبل في حصار بغداد ومجازر الفلوجة وغزة !؟. إنكم ميتون ، وإنكم لموقوفون ومحاسبون ، ولسوف تسألون عن الدماء الزكية وعن دموع الأطفال وأنات الثكالى وزفرات الأرامل !.
ثم لو نحينا لغة الأخلاق والمبادئ جانباً ، وحتى لغة العاطفة لأنه لا مكان لها – كما زعموا - في عالم السياسة الذي تحكمه لغة المصالح ، أقول : لو سلمنا جدلاً بصحة هذه المقولة ، وتكلمنا بلغة المصالح ؛ فهل من مصلحة دول الخليج بقاء هذا النظام واستمراره ؟. أليس هذا النظام هو أداة طيعة في يد إيران ورأس حربة ، تطعن بها في الجسد العربي هنا وهناك ؟. ألم يحتل ما يسمى ( حزب الله ) بيروت في ساعات بدعم هذا النظام ومساندته !؟.
ألا يعلمون أن سقوط هذا النظام هو إجهاض للحلم الفارسي وإفشالٌ لمشروعها التوسعي العدواني في المنطقة العربية والخليج خاصة بعد سقوط العراق ومصرع زعيمه صدام حسين يوم النحر الأكبر ؟!. إذا انهار النظام – وسينهار حتماً لا محالة ولا ريب - فستخسر إيران حليفاً قوياً لها وجسراً يربطها مع حزب الله ، فكيف يغفل حكام الخليج أو يتغافلون عنه ، وكيف يضيعون هذه الفرصة التاريخية التي إن ضاعت فإنها لن تتكرر من قريب ، وستتعاظم عندئذٍ قوة إيران الضاربة ، وتقترب من تحقيق حلمها القديم المتجدد في ابتلاع الخليج ونفطه وثرواته لا البحرين فقط ، وعندئذٍ يعض الخليجيون على أيديهم من الندم ، ولات حين مندم !. هل سيفيق الخليج ويتدارك ما فاته أم سيكرر أخطاءه القاتلة عندما حاصر العراق وعمل على إسقاطه ، ليترك البوابة الشرقية مفتوحة على مصراعيها ، ليدخل منها أعداؤها المتربصون بها أفواجاً ؟. فالذين يرسمون تلك السياسات لا ينظرون أبعد من أنوفهم على ما يبدو، ويصدق فيهم وصف بشار لهم " بأشباه الرجال !"
هذا ومن المحير حقاً أن يؤيد ملك السعودية بشار ضد " المؤامرة الخارجية " التي هي الانتفاضة الشعبية طبعاً مع التذكير بأن أصابع الاتهام أول ما توجهت إلى بندر بن سلطان ومستر جيفري فيلتمان للإطاحة بنظام الرئيس السوري بشار الأسد ؟! .
يقال أن زواجاً غير شرعي تم بشكل مفاجئ ومريب ، أيد فيه بشار الأسد دخول درع الجزيرة ، لإخماد ثورة البحرين ، مقابل شراء تأييدٍ خليجي لإجراءات النظام السوري ضد شعبه !. ويرى بعض المحللين أن الخوف من أن تسري نار الثورات الشعبية في هشيم تلك الأنظمة الهشة كان وراء موقف الخليجي !. ربما يكون ذلك صحيحاً إلى حد ما لكنه غير كافٍ والصحيح هو أن السياسة الخليجية والسعودية تابعة للسياسة الأمريكية ، وبتعبير أصح للإملاءات الأمريكية ، ومعلوم أن السياسة الأمريكية ما تزال تعاني من تردد وتباطؤ في الوقوف إلى جانب الثورة الشعبية السورية ، بسبب مخاوفها من المجهول الذي سيعقب نجاحها وعقدة وصول الإسلاميين إلى السلطة ، وهذا التباطؤ أو حتى التواطؤ مع النظام السوري في رأي كثير من المراقبين انعكس على موقف الخليجي ، ولو أن إدارة أوباما تجاوزت مخاوفها وغيرت موقفها ، وحذت حذو الأتراك الذين بدأوا يعتقدون بدنو رحيل النظام ، فإن الخليجي أيضاً سيغير سياسته ومواقفه تجاه النظام السوري !.