سوريا: الدماء..والدموع..والحرية

حسام مقلد *

[email protected]

فرحت الشعوب العربية كثيرا بل كادت أن تطير من الفرح!! فها هو الجيش العربي السوري البطل يحرك دباباته ومدافعه وعرباته المصفحة، وها هي حشود أبطاله المغاوير تنطلق مدججة بكافة أنواع الأسلحة، فلابد أنهم بعد هذا الصمت الطويل متجهون لتحرير الجولان، ومن بعدها القدس الشريف، لابد أن قادة سوريا البواسل وزعمائها الأشاوس قد اشتاقوا للصلاة في المسجد الأقصى المبارك، نعم لابد أنهم قد سئموا حياة المهانة بخضوع جزء من ترابهم الوطني ومقدسات أمتهم الإسلامية تحت دنس ورجس الاحتلال الصهيوني، أجل لقد تغيرت الظروف، فكيف يرضى حكام سوريا المتدفقين حيوية وشبابا باستمرار احتلال مرتفعات الجولان بعد مرور كل هذه السنوات الطويلة؟! وكيف يستمرئون السكوت على التعديات الصهيونية المستمرة على كرامة سوريا وانتهاكاتها المتكررة لمجالها الجوي وتوجيه بعض الضربات الجوية لمواقعها بين الفينة والأخرى؟!  أجل لابد أنهم قد عزموا أمرهم بجد هذه المرة بعد أن استكملوا قوتهم الضاربة؛ لأنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وباعتبار أن سوريا هي زعيمة معسكر المقاومة العربية الباسلة فلا بد أنها تريد أن تنعش مناخ الحرية والعزة والكرامة في العالم العربي بجرعات مكثفة من البطولات والانتصارات والأمجاد، لاسيما بعد نجاح الثورات العربية  المظفرة التي قامت بها شعوب معسكر التخاذل والاستسلام، فخلعت حكامها المفرطين في حقوق الأمة السالبين لحريتها وكرامتها!!  وحقَّ لهذه الشعوب الأبية أن تخلع هؤلاء الحكام الخونة الجبناء المضيعين لاستقلال بلدانهم بخنوعهم الذليل لأمريكا وإسرائيل، كما أن هؤلاء البائسين لم يتعلموا درس النظام السوري الأبي المقاوم المناضل الشجاع، واستعذبوا الذل والامتهان، ورضوا بالازدراء والاحتقار في كافة المحافل الدولية، وكان نصيبهم الفشل الدائم والخيبة المتكررة في ميادين النضال والمقاومة ودهاليز السياسة وساحات الاقتصاد وفي سائر مجالات الحياة!! وفي غمرة مشاعر الفرح والبهجة لم يتمالك عربي طيب نفسه أن أوصى الكثيرين من أصدقائه وزملائه بالحرص على مشاهدة قنوات التلفزة العربية والعالمية ومتابعتها باهتمام هذه الأيام فسوف تبث عما قريب خبرا عاجلا يثلج صدورنا ويسعدنا جميعا حين نرى ونسمع ونقرأ على الشاشات: (خبر عاجل: نجحت القوات المسلحة العربية السورية الباسلة في تحرير مرتفعات الجولان المحتلة من دنس الاحتلال الصهيوني، وأفاد شهود العيان بتوجه أرتال الدبابات وقطع المدفعية السورية صوب فلسطين الحبيبة لتحريرها من دنس العدو الصهيوني).

لكن مع الأسف الشديد في عز فرحة الجماهير العربية وابتهاجها بهذه المشاعر التي غابت عنا منذ سنوات وسنوات انتاب الجميع شعور مدمر بالحسرة والخذلان، وانفجرت في أعماقنا موجات من الألم والحزن العنيف!! فلم تكن أرتال الدبابات وقطع المدفعية السورية تلك ذاهبة لتحرير الجولان ولا لاستنقاذ الأقصى...، بل كان النظام السوري يوجهها لمحاصرة المدن والبلدات السورية!! في البداية لم تصدق الجماهير العربية ما يحدث!! صرخ الجميع رافضا لهذه الأخبار الملفقة، هتف بعض الشباب العربي السوري: بالروح بالدم نفديك يا بشار!! وسمع صوتا هادرا يقول: لا تصدقوا هذه الإشاعات المغرضة والأكاذيب الملفقة؛ فلا يمكن لرئيسنا المثقف وخطيبنا المفوه الدكتور بشار الأسد أن يقتل أبناء سورية الحبيبة بيديه، كلا كلا... لا تصدقوا هذه الخرافات والأوهام، إنها محض هراء... مجرد مزاعم باطلة وافتراءات كاذبة!!

هدأت الجموع العربية قليلا، وفجأة قال أحدنا: لكننا رأينا أرتال الدبابات وقطع المدفعية السورية تزحف فعلا نحو المدن والبلدات السورية!! فماذا عساها أن تفعل هناك؟! وهنا أتانا صوت رجل حكيم من أهل الحكم والسلطة في سوريا وأجابنا بوقار وهدوء قائلا: "لا تقلقوا يا رفاق!! أيها الأبناء... أيها الأشقاء... إن هذه المدافع والدبابات ذاهبة للقضاء على بعض المندسين الأفَّاقين الذين يريدون تخريب سوريا لوقف مقاومتها الباسلة للعدو الصهيوني، وإجهاض وإفشال نهضتها التقنية والاقتصادية التي تعد مفخرة للعرب قاطبة في كل زمان ومكان" عندئذ تنفسنا جميعا الصعداء وقلنا من حق الرفاق في سوريا الأبية أن يحموا مكتسباتهم من هؤلاء المندسين المفسدين المخربين!!

وفجأة صاح أحد الشباب قائلا: لكننا لم نرَ أيَّ مندسين في شوارع سوريا!! بل شاهدنا أناسا طيبين وجموعا من المصلين المؤمنين خارجة من المساجد بعد صلوات الجمع تنادي بالحرية والكرامة، فكيف يقتلهم الجيش السوري بهذا الشكل البشع المروع بلا شفقة ولا رحمة؟! وهنا أتانا صوت رجل حكيم آخر من حكام سوريا البواسل قال مبتسما: كلا.. كلا، لا تخافوا ولا تقلقوا بشأن إخوانكم السوريين فهم محل عناية حكومتهم وفي أعين حكامهم!! وإنما هذه فئة ضالة... شرذمة قليلون من السلفيين الراديكاليين الرجعيين المتشددين... يريدون إرجاع سوريا إلى عصور الجهل والظلام والتخلف، ومن فرط حقدهم عليها يتمنون زوال مجدها وعزتها؛ وكان لزاما على قادة سوريا وحكامها الأمناء على مصالح شعبها الأبي أن يطارد فلول هؤلاء السلفيين بكل حزم وشدة، وذلك طبعا حفاظاً منهم على سوريا ومستقبلها، وحمايةً لها من ضلال هؤلاء وأفكارهم الرجعية المتشددة!!

لكننا في الحقيقة لم نقتنع بكلامه، ولم نصدقه؛ إذ لم يستوعب أحد من السوريين ولا العرب فضلا عن العجم كيف جاء هؤلاء السلفيون إلى سوريا فجأة وبهذه الكثافة التي تبرر محاصرة القوات المسلحة السورية للشعب السوري الأعزل بهذا الحجم الضخم وهذا الكم الهائل من الدبابات والمدافع والأسلحة الفتاكة المدمرة؟!! ولم يفهم أحد كيف هبط هؤلاء السلفيون على سوريا بهذه السرعة؟!! ولم يتخيل شخص واحد فقط كيف تمكنوا من الإفلات بهذه البساطة من قبضة جحافل الأمن السوري؟!

وما هي إلا لحظات حتى سأل سائل: كيف تمكن هؤلاء السلفيون من تكوين تنظيم خطير كهذا يضم كل هذه الألوف المؤلفة من المواطنين السوريين؟! ثم إن الناس الذين نراهم يتظاهرون في كل المدن والقرى السورية من أبناء الشعب السوري البسيط المسالم، ونرى فيهم العلوي والدرزي والسني والمسيحي، وكلهم يطالبون بالحرية لجميع السوريين، وهنا أمَّن الجميع على الكلام قائلين: نعم إننا  لم نرَ بين الشباب السوري الثائر أي سلفيين، حتى لم نشاهد نساء منقبات، بل إن أغلب الشباب والنساء والأطفال الذين نراهم هم أبعد ما يكون عن أصحاب الفكر السلفي وسمتهم وزيهم المعروف، والمؤكد لكل منصف وعاقل في أي مكان من هذا العالم أن هذه الجموع المسالمة الثائرة في سوريا ما هي إلا أبناء سوريا وشبابها الطيبين المسالمين الذين يطالبون بالحرية!! فكيف يقتلهم النظام السوري بكل هذا الفُجْرِ والوحشية؟! وكيف سوَّلت لحكام سوريا  أنفسُهم ارتكابَ كل هذه الجرائم بحق مواطنيهم الأبرياء وفيهم النساء والأطفال والعجزة والمسنين؟! وكيف يسكت العرب والمسلمون وكل أحرار العالم على ارتكاب هذه المجازر البشعة بحق شعب عربي أعزل عقابا له من حكامه لمجرد أنه طالب بالإصلاح والحرية والكرامة؟!! 

أجل إن أبناء الشعب السوري العظيم لا يطالبون سوى بالحرية والكرامة، ويقفون بصدورهم العارية أمام آلة القمع المتوحشة التي يغرس النظام السوري أنيابها في أجسادهم البريئة، ويقتل منهم بدم بارد العشرات كل يوم، ويعتقل الآلاف ويعذبهم بأساليب وحشية، ويحاصر المدن والقرى، ويجوِّع سكانها ويقطع عنهم إمدادات الماء والكهرباء والطعام والدواء، حتى حليب الأطفال لا يجدونه لصغارهم، بل يمنعهم حتى من الفرار من جحيم الحصار، ويسحلهم في الشوارع، ويذيقهم أبشع ألوان التعذيب والإهانة ليحيل حياتهم إلى جحيم لا يطاق حتى يذعنوا ويستسلموا وينسوا فكرة الحرية هذه ويزيحوها تماما من عقولهم وإلى غير رجعة، إن الكثيرين من الأحرار والمنصفين في هذا العالم يؤكدون أن النظام السوري يشن على شعبه الأعزل ما يشبه حملة للموت البطيء، وهو ما يعده الحقوقيون ورجال العدالة جرائم ضد الإنسانية تقع تحت طائلة القوانين الدولية التي تكافح حروب الإبادة الجماعية والحملات العسكرية التي تقوم  بها قوات حربية منظمة ضد مدنيين عزَّل أبرياء، فهذا هو عين ما يفعله النظام السوري بشعبه، والعالم يقف ويتفرج ويستمتع بمشاهدة حمام الدم!!

إن الشعب السوري العظيم بحاجة ماسة لدعم إخوانه العرب والمسلمين وكافة أحرار الدنيا، ويصرخ بأعلى صوته؛ كي يستنقذه العالم من بطش وتنكيل هذا النظام الغاشم الذي أدمن إذلال شعبه وتحقيره وإهانته وقهر إرادته، لكن الزمن قد تغير والإنسان العربي السوري الحر الأبي لن يرضى بعد الآن أن يعيش مهدور الكرامة مكبوت الحرية، لن يرضى أن يظل إنسانا عاجزا مسلوب الإرادة مشلول القدرة، لقد تغير العالم وعلى النظام السوري أن يكفَّ فورا عن غيه وضلاله وظلمه، ويثوب إلى رشده، ويعجِّل بمسيرة الحرية والإصلاح، وإلا فعليه أن يرحل بهدوء ويفسح المجال واسعاً أمام كل سوري حر كريم لينطلق ويفكر ويبدع ويمارس دوره في صنع غد جديد ومستقبل أفضل له ولأولاده وللأجيال القادمة في سوريا العظيمة الناهضة.

وإذا كانت الحرية لا تُوهَب ولا تُمنَح للناس هكذا بكل بساطة دون تضحيات جسام وضريبة يدفعونها من أرواحهم ودمائهم وأعصابهم وراحتهم، فالشعب السوري البطل الأبي قد حدد خياره، وقرر بكل شجاعة أن يحصل على الحرية والكرامة مهما كان الثمن الباهظ الذي سيدفعه، وسوف يستمر في نضاله ومسيراته السلمية حتى يحقق هدفه ويصل إلى غايته، مهما كان حجم  التضحيات الكبيرة التي يبذلها الرجال والشباب والنساء والفتيات السوريات وكل من تتوق نفوسهم على أرض سوريا الحبيبة للحياة الحرة الكريمة دون إذلال أو مهانة؟! وما أروع قول أمير الشعراء أحمد شوقي: 

وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ                بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ

هكذا هي الحرية دائما لها ثمن غالٍ لا بد أن تدفعه الشعوب من دماء أبنائها وأرواحهم؛ لتحصل على حريتها وكرامتها، وقد قرر السوريون أنهم لن يتراجعوا عن مطلب الحرية مهما كانت الدماء والدموع والآلام، فتوكلوا على الله أيها الأبطال الأبرار، واعلموا أن النصر في النهاية يكون دائما بإذن الله تعالى حليفا للشعوب، فاتقوا الله وانصروه لينصركم"إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" [محمد:7] نعم توكلوا على الله أيها الأبطال الأبرار واثبتوا واصبروا وصابروا "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [آل عمران:200] "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [يوسف:21].

                

 * كاتب إسلامي مصري