دبابيس
دبابيس
د. كمال أحمد غنيم
الصرّاف الآلي و"حمار" الشغل!
قال مبتسماً: لستُ صرّافاً آلياً! فقال له بابتسامة أكثر اتساعاً: ولستُ حمار شغل!! كان الجوّ مشحوناً بالتوتر، والطرفان يعتقدان أن كلا منهما على حق. الموضوع يتعلق بعمل خير، لكن إدارة الموضوع أخذت طابع المشكلة. الذكاء الاجتماعي مطلوب من أجل إنجاح كل خطوة باتجاه خدمة المجتمع.
البعض يظن أن خدمة المجتمع تقوم على توفير الطعام واللوازم الشرائية في مجتمع الحصار والحرب، ولا شكّ في أهمية ذلك! والبعض يعتقد أننا مجتمع بشري يحتاج إلى متطلبات تعليميّة وصحيّة تطلّ برأسها بين ركام من الخلاف والاستنكاف وضيق الحال، ولا شكّ في أهمية ذلك! والبعض يؤمن أن الخبز وحده لا يحقق الحياة الكريمة للإنسان، والمجتمع بحاجة إلى البعد الثقافي كي تكتمل لديه دائرة الحياة، وهناك على صعيد التطبيق شكٌّ في ذلك!!
حكاية الصرّاف غير الآلي و"إنسان الشغل" لا حماره هي حكاية تحديد الصلاحيات والموازنات، فالصراف غير الآلي يريد أن يضع بصمته على كل شيء ويتدخل في تفاصيل الأمور التي يُعدّ الناس -وفق رؤية النبوّة- أعلم بها، خلافا للحكمة القائلة: "أرسِلْ حكيماً، ولا توصه"! فالمطلوب هو وضع السياسات العامة وتحديد نسبة إنفاق، تتوازن مع أولويات الحال، ولا تهمل أية مفردة من مفردات الحياة اليومية المادية والمعنوية. فالثقافة توازي الخبز أهمية حتى لا نكون ماديين، تحركنا بطن "أشعب" وتتعبنا جمجمة الخليل بن أحمد!
و"إنسان الشغل لا حماره" مطلوب، لأن الإنسان يشغّل عقله، أما الحمار فليس له إلا عضلاته وفكّاه الطاحنان وقدماه الرافستان! فالعمل الثقافي بشكل خاص والإنساني بشكل عام رأس ماله العقل! فإذا طلبنا من "إنسان الشغل" إلغاء عقله؛ فقدنا الكثير من طاقات العمل الكامنة والعطاء الممكن دون حدود.
إذا ألغى "إنسان الشغل لا حماره" إمكانات عطائه بإرادته ينبغي أن يحاسبه "الصراف غير الآلي" طالما كان هو المسئول عن متابعته، لكن أن يتفوق "إنسان الشغل" على ذاته، ويبادر للعطاء غير المحدود، فيمنعه الصراف غير الآلي فتلك هي المصيبة الكبرى.
نريد عاملين في كل ميدان يفجّرون طاقاتهم، ونريد صرّافين آليين أو غير آليين، يواكبون تلك الطاقات، وفق معادلة التوازن النسبيّ بين حاجات الناس!
أحد المدرسين الثقاة تحدث عن مشكلته مع مدير مدرسته في إحدى السنوات الماضية، قال: كلفني المدير بإدارة مكتبة المدرسة مقابل ستّ حصص من عبئي المدرسي، ولما استلمت المكتبة، منعني من إعارة الكتب للتلاميذ بحجّة أن الكتب عهدة، ولا بد من المحافظة عليها من الضياع! ولمّا كانت المدرسة دون غرفة مخصصة للمكتبة كان لا مجال من تخصيص حصص لزيارتها! وخضت معركة طويلة من أجل فتح مجال الإعارة! ولم أنجح في ذلك إلا عندما حصل أحد المدرسين من تخصصي على إجازة مرضيّة طويلة، فطلب مني المدير التبرع بأربع حصص، فوافقت على شرط أن يسمح لي بإعارة التلاميذ كتباً! ولم يجد أمامه خيارا إلا أن يوافق مكرهاً!
يقول المدرّس: كان تعبي متعة، وأحسست بتوفيق الله لمّا جاء تكليف من الوزارة بتخصيص مبلغ مالي ضخم لشراء كتب جديدة، أذكر أنني اشتريت بناءً عليه كتباً يوازي عددها ما في خزانات كتب المدرسة سابقاً!
هل كان صاحبنا حمار شغل؟! وهل كان مدير المدرسة صرّافاً آليّاً! البعض يعتقد أن الصرف هو نقود فقط. الصرف هو حسن إدارة الموجودات. والموجودات أموال وإمكانات ومقدرات. المدير صرّاف آلي غير مبرمج برمجة جيدة، لذلك كان فاشلاً. والمدرس كان حمار شغل بالمفهوم البلدي، لكنه كان إنسان شغل، يدرك معنى الأمانة. التي قد تقبل بها الجبال والحمير التي لا تمتلك العقول، بل قد تخاصم الناس من أجلها!
يا صديقي الصرّاف، كن آلياً أو بشرياً، لكن كن صاحب حكمة! اعرف من أين تُؤكل الكتف، وكيف تُورد الإبل، لأن أمانتك تجاه "حمير الشغل" غير العاملة عظيمة! ويا صديقي "حمار الشغل" احمل ما شئت من الأسماء، لكنك في نظرنا ونظر مجتمعنا سيّدٌ كبير، فسيد القوم خادمهم! واصدح بصوتك وفعلك، وأنفق من مالك وجهدك، ينفق الله عليك مالاً وصحةً وتوفيقاً وسداداً، فمثلك حمار شغل، تنهض به الأوطان والأمم! ولك مني كل التحية، والمعذرة، فالمصطلح مصطلحك! ولستَ حماراً، كما أن خالقك ليس ماكراً، لمّا قال: "وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"(الأنفال:30).
والسلام،،،