الثّورة تحت الحصار
صلاح حميدة
بدأت الصّورة تتّضح لكل مراقب للمواقف الرّسمية العربية، والمواقف الدّولية، ومواقف وتصرّفات الحكّام العرب المستبدّين تجاه الثّورة العربية المعاصرة. فبعد زلزال الثّورتين التّونسية والمصريّة، استعادت قوى الظّلام العربية والدّولية زمام أمورها جزئياً، ففي ليبيا يتم الآن إطالة المعركة إلى أطول فترة ممكنة، مع تواطؤ واضح مع القذّافي، ودعم مطلق له من دول عربية وعالمية، ولولا الدّعم والتّواطؤ لما بقي هذا المستبدّ المجرم يقتل الليبيين حتى اليوم.
و يتضح يومياً كمّ التّنسيق بين الأنظمة الاستبدادية العربية التي أصبح لديها قناعة بوحدة المصير، بعد أن رأت ما حلّ ويحل بإخوانهم من طغمة الفساد والإجرام في مصر وتونس، ولذلك تتضافر جهود هؤلاء جميعاً لحصار الثّورة العربية المعاصرة والانقضاض عليها.
إقليمياً، يوجد ثلاثة دول رئيسية لها مشاريع في المنطقة، الدّولة العبرية المصطنعة على أرض فلسطين، وهي من ألدّ أعداء الثّورة العربية المعاصرة، وتبين بالدّليل وقوفها لجانب بن علي ومبارك والقذّافي، وهي تعلن صراحةً أنّها لا ترغب بتغيرات لصالح الشّعوب العربية، حتى لو كان النّظام ممانعاً، أي ( واحد بتعرفه أفضل من واحد ما بتعرفه) وهي تدرك مدى تداعيات الثّورة العربية على وجودها ومصيرها ومستقبلها، وهذا الرّعب الإسرائيلي من الثّورة العربية، يظهر إلى أي مدى كانت تلك الأنظمة حارساً أميناً على أكبر سرقة لوطن في التاريخ الحديث.
أما تركيا، فقد أفرحتنا جميعاً بمواقفها الإعلامية والخيرية التي وقفتها من القضية الفلسطينية وبعض القضايا العربية الأخرى، وكان الرّأي والفعل العربي الشّعبي متجاوباً وداعماً بسخاء لهذا الموقف، بطريقة فاقت التّوقعات الرّسمية والشعبية التركية نفسها. بعد ثورتي تونس ومصر سارع السّاسة الأتراك لتأييد الحراك الشّعبي في هاتين الدّولتين، وخاصّة في مصر، وهذا كان عائداً بشكل رئيسي لعداء النّظام المصري للدور التركي ولحزب العدالة والتنمية التركي بدرجة أساسية. أمّا في الحالة الليبية فقد كان موقفهم مخزياً ومتآمراً على الشّعب المقتول، بل لا نبالغ إن قلنا أنّ موقف تركيا أعطى النّظام الليبي الاستبدادي حقنة الحياة وأعطاه قدرة واسعة على المناورة واستثمار الوقت لقتل أكبر عدد من الليبيين. وأخيراً في سوريا كان الموقف، ولا يزال ضبابياً، مع أنّ القتل يتمّ هناك بالجملة. يستنتج من هذه المواقف التركية، أنّ هؤلاء يبحثون عن سوق للمنتجات والسّياسات، ولا يبحثون عن أنظمة تقودها شعوب تمتلك إرادتها، ولا أستطيع إحسان الظّن بالمطلق في سياساتهم بعد الآن.
إيران هي اللاعب الرّئيسي الإقليمي الثالث في المنطقة، ودعمت المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وكان ولا يزال موقفها هذا جيداً ومشكوراً، وقد رحّبت إيران بشدّة بنتائج الثّورتين التّونسية والمصرية لعدائها المستحكم مع النّظامين، وفي اليمن زاد ترحيبها بالثّورة على النّظام، لانّ لها ثأراً معه، وفي البحرين أعلنت دعمها المطلق للحراك الشّعبي هناك، والتي لا يمكن إنكار أنّ له مطالب محقّة، ولا يمكن أن يخرج كل هؤلاء النّاس بلا شعور بالمظلومية، وإذا كانت دول الخليج العربية تريد تهدئة الوضع في البحرين، فعليها أن تجد طريقة لإنصاف مواطني البحرين من الطّائفة الشّيعية، بعيداً عن العصا الأمنية.
موقف إيران الدّاعم للثّورات العربية السّابقة، ناقضه بشكل سافر موقفها من المطالب المحقّة للشّعب السّوري من نظام الإستبداد والفساد. ولكون مصالح إيران الإستراتيجية والسّياسية والطّائفية ترتبط بشكل جوهري مع النّظام الفاسد المستبد في دمشق، كانت المواقف الإيرانية داعمة للنّظام للتعامل بوحشية مع الحراك الشّعبي السّلمي.
وكان واضحاً أنّ النّظام السّوري هو النّظام العربي الأوفر حظاً، فهو نظام لا يريد سقوطه أحد، من يحبّونه ومن يبغضونه، ولذلك شعرت نخبة الإستبداد والفساد في دمشق أنّها بحاجة لاختلاق ذريعة لإبادة الاحتجاج الشّعبي، وبناءً على دراسة عثرات من سبقوهم من المستبدّين العرب، ومنعاً للجيش من نصرة الشّعب، فقد تم تنظيم عمليات تقتيل وتمثيل منظّمة لضبّاط وجنود في الجيش السّوري من أوّل أيام الاحتجاجات- ولا زالت مستمرّة- و يتم هذا التقتيل بشكل احترافي ومخطّط للجيش وللمتظاهرين وبالعشرات، وتمّ استخدام قناع المندسّين والمتطرفين والارهابيين والسّلفيين، وهذه الأقنعة قامت بالدّور المطلوب منها بجدارة، وبهذا تمّ حسم غالبية الجيش لصالح النّظام في المعركة ضدّ الشّعب.
الحماسة المنقطعة النّظير لحلفاء سوريا في لبنان كانت لافتة، في دعمهم ودعوتهم المطلقة للنّظام الإستبدادي في دمشق لإبادة الشعب السّوري المطالب بالحرية، ولتبنّيهم المطلق لما يصدر من فبركات إعلامية مضحكة عن الجماعات الارهابية و السّلفية، في مسرحيات هزلية لا تقنع أحداً- فضلاً عن مطلقيها- بل زاد غلو بعض هؤلاء لاختراع أحداث ومكالمات بين الشّيخ القرضاوي وإمام المسجد العمري في درعا، وعن غرف عمليات في قطر وبيروت وواشنطن لتفتيت سوريا ونصرة إسرائيل، ولا ينسى كل هؤلاء اتهام القرضاوي وأمير قطر والجزيرة بانّهم متآمرون لصالح أعداء العرب والمسلمين، الغريب أنّ هؤلاء كانوا من أشد حلفاء وأصدقاء قطر والجزيرة والقرضاوي، وكانوا يغنّون لهم الاغاني والأشعار، وكانوا ضيوفاً دائمين على الدّوحة واستوديوهات الجزيرة، والسّؤال الموجّه لهم، إذا كنتم تعلمون كل هذه المعلومات عن قطر والجزيرة والقرضاوي منذ ما يقارب العشرين سنة، فلماذا ظللتم تتمرّغون في أحضانهم حتى قبل شهر؟ وهل الجزيرة كانت قائدة المناضلين ضد عملاء أمريكا عندما كانت تنقل جرائم النّظامين المصري والتّونسي ضد شعبيهما، والآن لأنّها تنقل جزءاً من جرائم النّظام السّوري ضدّ شعبه فهي خائنة؟!.
فقدان الاتزان هذا يعكس قلقاً عميقاً من قبل حلفاء سوريا اللبنانيين، ولكن بدلاً من الإندفاع لمناصرة النّظام السّوري على الباطل الذي يفعله، وبدلاً من تشجيعه على حصار وإبادة مهد الثّورة الحضارية السّورية، (درعا) التي احتضنت اللبنانيين في حرب تمّوز 2006م، كان الأجدر نصح الرّئيس السّوري بأن لا يخضع لحماقات أخيه الذي يطمح لإبادة وتدمير درعا لأنّ بعض أهلها حطّموا صنم والده، بل وجب على هؤلاء نصح الرّئيس بقيادة الإصلاح لا المماطلة ومحاولة الضّحك على السّوريين، فالفذلكات الكلامية عن المؤامرات، أو إلغاء قانون واستحداث آخر أسوأ منه، فكل لبناني وعربي يعرف مدى القمع والإجرام والفساد المتفشّي في سوريا. كما أن الطّرف المقاوم في لبنان - حزب الله تحديداً - ينظر له الشّعب السّوري باحترام وتقدير، ولذلك لن يكون الشّعب السّوري الذي يتمتع بحرّيته وكرامته عدوّاً له، بل سيدعمه أكثر من نظام الأسد، لأن الشّعب السّوري الحر له قضية مركزية، وهي تحرير الجولان ودعم اللبنانيين والفلسطينيين لتحرير أراضيهم، ولذلك كان الأفضل عدم الوقوع في هذا الخطأ القاتل في وضع كل البيض في سلّة نظام فاسد مستبد. نظام دعم المقاومة، وهذا يحسب له، ولكن هذا لا يمنحه ترخيصاً لقتل وإبادة شعبه وسلبه حرّيته وكرامته وثروته. وإن كان لا مجال للنّصيحة، فالأفضل هو السّكوت.
وقوع الثّورات العربية الشّعبية في حالة استعصاء تحت الحصار لا يعني إنّه قد تمّ إجهاضها، بل ما يتمّ الآن يزيد الضّغط على الشّعوب العربية لكي تستخلص العبر من السّلوك الاستبدادي - التآمري، المحلّي والإقليمي، وكذلك السّلوك التآمري الدّولي الّذي يلبس قناع المتعاطف مع الحراك الشّعبي، هادفاً لتشويهه وإسهاماً في تبرير حصاره من المستبدّين، وأملاً بإجهاضه بعد حين.
حالة الحصار الحالية ناتجة عن تكتّل كل القوى المعادية لامتلاك الشّعوب العربية لقرارها، ولهذه القوى أجندات خاصّة بها، وهي وإن اتفقت في مراحل معيّنة مع الثّورة في بلد عربي ما، فهي تقف في عداء سافر لها في أماكن أخرى، ولكن أهم ما يميّز مواقف تلك الأطراف المحلية والإقليمية والعالمية، بأنّها تتضافر كلّها حالياً لإحكام الحصار على الثّورة العربية. هذه المؤامرات والمجازر لن تجدي نفعاً في مواجهة شعوب ذاقت طعم الحرّية، وهي على استعداد لدفع ثمنها، متّخذةً لها شعاراً من قول الشّاعر أحمد شوقي :- ( وللحريّة الحمراء باب...بكل يد مضرّجة يدق).