مصالحة مع مصر "الجديدة"
مصالحة مع مصر "الجديدة"
مخلص برزق*
[email protected]
في خضم الانشغال العربي والدولي بما يجري من أحداث ومتغيرات
طالت العديد من دول المنطقة على تتابعت كهزات ارتدادية للزلزال التونسي، وفيما
الأنظار تتجه شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، بعيداً عن الساحة الفلسطينية، فاجأت
حركتا حماس وفتح الجميع بالإعلان عن مصالحة طال انتظارها وظن البعض أنها باتت أصعب
من التوصل لحل عادل للقضية الفلسطينية!
شكلت هذه الخطوة طفرة في نوعية الأخبار والأحداث التي تصدرت
–وما تزال- العناوين الرئيسة لتغطية الفضائيات، والتي شهدت غياباً شبه تام لفلسطين
بعدما كانت تتصدر نشرات الأخبار. وقد كان الملفت للأنظار حقاً عدم وجود أية مقدمات
لخبر المصالحة، كما أنه لم تسبقه أية تكهنات بحدوثه، بل إن مراكز البحوث الصهيونية
رجحت كفة عدم تهيؤ الظروف لإتمامه، ما زاد العبء على الصهاينة والأمريكان الذين
عبروا عن صدمتهم سابقاً بما جرى في تونس ومصر وفشل أجهزة استخباراتهم فشلاً ذريعاً
في توقع الأحداث الدراماتيكية التي قلبت المشهد الحالي وما كان يمكن أن ينتج عنه من
تباينات وتقاطعات مع السياسة الأميركية في المنطقة وأثره على استقرار الكيان
الصهيوني.
في زمن مضى كانت تطرق أبواب دول عديدة لأجل المصالحة، وتعقد
اجتماعات مضنية ولقاءات مكوكية مرهقة، وتستنفر لها دول وشخصيات، وتطرح لأجلها
مبادرات، وتعقد لأجلها ندوات ومؤتمرات، لم يتوقف خلالها الشارع الفلسطيني لحظة عن
المطالبة بسرعة إنجازها. كل ذلك كان يتحطم على صخرة التدخلات الخارجية، التي تمثلت
بشكل صارخ وفج بالضغوط والتهديدات الأمريكية والصهيونية، إضافة إلى عدم نزاهة
الراعي لتلك المصالحة وممارسته هواية البلطجة السياسية بحق حركة حماس –الطرف الأضعف
بنظره- حتى إذا أفل نجمه وزال سلطانه، وتغيرت الأحوال وتبدلت، وبات سجن طرة مأوى
لرموزه البائدة، والتبرؤ من سياساته لدى كافة القوى السياسية هي السمة السائدة، لزم
عندها التعامل مع ملف المصالحة بإقدام ورباطة جأش تحاكي إقدام ثوار ميدان التحرير
ورباطة جأشهم.
إنه زمن الثورة التي تنبض شباباً وتفيض يقيناً وإصراراً على
تغيير ما أفسدته الزعامات القديمة، وهو دورها الآن لتصحيح السياسات المعوجّة التي
أباحت حصار غزة والوقوف إلى جانب العدو الصهيوني في وجه الشعب الفلسطيني الأعزل
ومقاومته المشروعة للاحتلال. إنه زمن الانقلاب على حقبة مظلمة اختزلت دور مصر
وقزّمته إقليمياً وعربياً ودولياً، ليقتصر على سياسات وبرامج محددة رسمتها الولايات
المتحدة ليس للقيادة المصرية أن تتعداها قيد أنملة، ما جعل رئيسها المخلوع كنزاً
استراتيجياً بحق للمشروع الصهيوني.
من هنا كان على حركة حماس أن تقرأ المرحلة قراءة مغايرة لما قبل
الحادي عشر من فبراير، هناك قيادة جديدة تختلف عن سابقتها ويفترض أن يتم التعاطي
معها بطريقة تشجعها على المضي قدماً في التمايز عن القيادة السابقة والحقبة
البائدة. كان لزاماً على قيادة حماس استشراف مرحلة دقيقة لا تتعجل معها قطف الثمار،
فخلال المرحلة الانتقالية التي أعقبت الثورة المصرية العتيدة، لم يكن مقبولاً
الاسترخاء للتحليلات التي جزمت بأن الخاسر الأكبر للإطاحة بحسني مبارك ونظامه كان
الكيان الصهيوني بالدرجة الأولى، ومن بعده مباشرة محمود عباس وحركة فتح.. وأن حماس
وفصائل المقاومة الأخرى كانوا –وبجدارة- أكبر الرابحين.. ذلك أن المراهنة على
تغييرات جذرية لسياسات مصر الخارجية في يوم وليلة، وصدور أفعال وتصريحات على أرض
الواقع بناءً على ذلك، قد يتسبب في حدوث ردود أفعال مغايرة يمكن لها أن تقلب
المعادلة برمتها..
من هنا جاء الإعلان عن المصالحة بين حركتي حماس وفتح في القاهرة
رسالة بليغة جداً وفي وقت مدروس جيداً بأن الحركة باتت تتعامل مع راعٍ مؤتمن لتلك
المصالحة، وأن الحركة تثق بالدور المصري والضمانات التي يمكن أن يقدمها. وأنها
مستعدة لتقديم تنازلات جوهرية لأجله، وهو ما يفسر ما ذكرته وكالات الأنباء من توقيع
حماس على الورقة المصرية القديمة دون أي تعديل لها رغم تمنعها بشدة سابقاً للإقدام
على هذه الخطوة. وما ذلك إلا لأن النظام المصري الساقط كان يبيّت غدراً بالمقاومة
ويتربص بها الدوائر.
أما وقد زال، وزالت وجوهه المتجهّمة، ففي ظل القيادة الجديدة
والأجواء الشعبية المهيمنة على القرار السياسي في مصر، فمن المؤكد أن ورقةً مصريةً
-ولو كانت بشروط أقسى على حماس- سوف تكون مقبولة كونها لا تتضمن عصاً مصرية غليظة
تقبع خلفها، ولا يترتب عليها ابتزاز فاضح للمواقف. إن أي ورقة تصدر عن قيادة تخضع
لضغط الشارع المصري الثائر، لا تحركها أجندات أميركية أو صهيونية لاشك بأنها لن
تجحف حق المقاومة ولن تنحاز إلى جانب المفرطين المستسلمين بأي حال من الأحوال..
كان من المهم ألا تتمنع حماس عن الدعوات المصرية الجادة باحتضان
المصالحة، لأن ذلك كان سيفسر على أنه عدم ثقة بالقيادة الجديدة، واستهانة بها
وبدورها، والظهور بمظهر الانتهازي الذي يتقوى بثورة شعب لمّا تستقر الأمور له بشكل
تام.. وكان ذلك كفيل بأن يحدث انتكاسة في العلاقات بين حماس ومصر "الجديدة".
كانت ورقة مهمة جداً منحتها حماس للقيادة الجديدة كأحد أهم
الإنجازات التي افتتحت بها عهدها السياسي، ورقة حاولت القيادة البائدة انتزاعها من
حماس بشتى السبل والوسائل دون جدوى، وصلت في إحدى مراحلها إلى إعطاء الضوء الأخضر
للكيان الصهيوني بشن حرب همجية وحشية على غزة عقاباً لها على تمردها على بيت الطاعة
الذي شيده نظام كامب ديفيد الهالك للفصائل الفلسطينية.
لن تخسر حركة حماس شيئاً بتوقيعها على الورقة المصرية في ظل
المتغيرات الجديدة، وهو ما سيرسخ علاقة مميزة مع القيادة المصرية الحالية يمكن
استثماره إيجابياً لصالح شعبنا ولمصلحة نهج المقاومة، وما قد يفسره البعض تنازلاً
ورضوخاً ستبدي له الأيام أنه كان يصب في خانة المصلحة العليا للشعب الفلسطيني على
حساب الحزبية الضيقة. وفي الوقت ذاته فإن الطرف الآخر -المتمثل بحركة فتح- سيكون
ملزماً بمواجهة الضغوط الصهيونية والأميركية التي كان يخضع لها سابقاً ويعطّل
لأجلها قطار المصالحة، كي يثبت أنه صادق في توجهاته وأنه مستقل بقراراته.. وهو
سيخوض اختباراً عسيراً جداً أمام شعبه من جهة، وأمام القيادة المصرية الجديدة من
جهة أخرى، وهي لن تقبل بنكث ما تم التوافق عليه كما حصل مع اتفاق صنعاء سابقاً..
حركة حماس خطت خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح لأجل شعبها وتجاه
الشقيقة الكبرى مصر الثورة العظيمة، ولكن عليها أن تراقب بعناية كل ما يصدر عن
قيادة فتح وتوضيحه وتبيينه للشعب الفلسطيني، وإحاطة القيادة المصرية الجديدة بكافة
أبعاده، فلا يعقل أن يتم التوقيع بالحروف الأولى على اتفاق المصالحة بين حركتي حماس
وفتح يوم الأربعاء، ثم يطلع علينا محمود عباس يوم الخميس ليلمح إلى (أن المحادثات
ما زالت ممكنة مع "إسرائيل" بعد المصالحة).. فمثل هذه المواقف ستتكرر وتكثر في
العلن ومن وراء الكواليس بغية امتصاص ردود الفعل الساخطة صهيو أمريكياً..
لم يعد مقبولاً أبداً مقايضة المصالحة الوطنية بمفاوضات هزيلة
أثبتت أنها كانت الوسيلة الأنجع للكيان الصهيوني لاقتطاع المزيد من الأراضي والتوسع
الاستيطاني اللامحدود والتضييق على حركات المقاومة وفرض واقع بائس على شعبنا ينخفض
معه سقف الحقوق التي يطالب بها إلى أدنى المستويات. فهل تستطيع حركة فتح في قادم
الأيام دفع الفاتورة المستحقة عليها ثمناً لتلك المصالحة؟ وأيهما ستختار: شراكة مع
نتنياهو وليبرمان في مفاوضات عقيمة واستجابة للإملاءات الأميركية، أم المضي قدماً
لتحقيق مطالب شعبنا بتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام برعاية مصرية جديدة وجديرة
بالثقة؟
* كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.