بعد ثلاثين سنة.. أرواح الشهداء تطارد القتلة

بعد ثلاثين سنة.. أرواح الشهداء تطارد القتلة!

طارق أبو جابر

 بعد نحو ثلاثين سنة على المجازر التي ارتكبها حافظ أسد ، وأركان نظامه ، تنبعث اليوم أرواح الشهداء في درعا ، وما أدراك ما درعا ، ودمشق ، وما أدراك ما دمشق ، وحماة وما أدراك ثم ما أدراك ما حماة وحلب وتدمر وبانياس واللاذقية وحمص وإدلب ودير الزور والرقة والقامشلي .. وفي كل بقعة من وطننا الحبيب ، تنبعث أرواح الشهداء وتنتصب سيوفا مصلتة على الرقاب المثقلة بجرائم القتل والتعذيب والتنكيل ..الذين استنفروا من جديد كل غرائز الإجرام في النفوس الفاجرة ، وكل أباليس الأنس المخادعة المتواطئة الماكرة ، وهرعوا إلى الدبابات والمصفحات ، وجهزوا الطائرات ، ليخمدوا الأرواح المستبشرة ، التي هبت تطاردهم في كل مكان ، وتثير الرعب والخور، من جديد، في النفوس المعطوبة بفعل الفسق والفجور والانحلال ، فأنى لهم ، ثم أنى لهم !

 لقد ظن المجرمون أن الأرض همدت ، وأن الأرواح سكنت ، وأن الدماء جفت ، وأن السماء أقلعت .. فازدادوا فجورا وغطرسة وتكبرا وتجبرا.. وذلك ظنهم الذي أرداهم .

 كم من دعوة وجهها ناصحون حريصون مشفقون مكلومون متناسين الجراح .. لطي صفحة الماضي ، وفتح صفحة جديدة ، عنوانها الإصلاح ، وإنهاء الاستبداد ، ومحاربة الفساد ، ورفع الظلم ، وإقامة العدل ، وتحقيق المواطنة الحقة ، وإعطاء الفرص المتكافئة لأبناء الشعب ، دون تمييز حاقد ، وتصنيف ظالم ، ليعيشوا أحرارا كراما على أرضهم ، كباقي خلق الله ، ويسهموا في بناء وطنهم ، ورفعته وعزته .. ولكنهم أبوا، وأصروا إصرارا، واستكبروا استكبارا ، وأعلنوها صريحة : هم الوطن ، وهم الشعب ، وهم سورية ، وهم الأمة ، وهم أهل الولاية والدراية ، والقادة (الرب) إلى الأبد ، ومن شاء أن يرضى فله الرضى ، ومن شاء أن يسخط فله السخط والأذى ، وليمت من شاء أن يموت خارج الوطن حسرة وحزنا ، أو فليمت داخل الوطن قهرا وقمعا وسحقا ..

 وتتالت الدعوات الشفوقة على الوطن والشعب من العلماء المخلصين ، والزعماء الوطنيين ، والأدباء والمفكرين والمثقفين والسياسيين .. لرفع الكابوس الثقيل عن صدر الشعب ، وإخراج سوريا من محنتها المستفحلة ، وليلها الدامس ، وسجنها المرير ..عبر الأصدقاء والوسطاء والأخيار الحريصين على سورية ، الذين يؤمنون أن في قوة شعب سوريا قوة للأمة ، وفي وحدة شعب سوريا الوطنية وحدة للأمة ، والذين يريدون الخير لسورية ، لأنه خير للأمة .. وأحسنوا الظن ، وعقدوا العزم ، وبذلوا الجهد تلو الجهد ، وسلكوا كل السبل ، ليعودوا بخفي حنين ، أو حتى بدون خف !

 ثم تتواصل الدعوات والحوارات ،عبر الشاشات ، والصحف ، ومختلف وسائل الإعلام ، وعلى مسمع العالم ، ليكون شاهدا على حماقة هذا النظام ، وتحكم من لا يبصرون إلا مصالحهم ونزوات نفوسهم ، وينطلقون من أحقادهم ، ويعتزون ببطشهم وقمعهم .. وكم حذر المحذرون من أن لصبر هذا الشعب الكريم ، ولكل صبر حدود ، وأن انفجار الأوضاع المتأزمة القادم لا محالة ، سيصيب الجميع ، والخاسر الأول هو الشعب والوطن ، ثم حذروا ونبهوا ووعظوا .. حتى لامهم اللائمون ، وأشفق عليهم المشفقون ، وظن بعضهم بمن يأمل استجابة أو خيرا من هذا النظام الظنون .. وكلما زاد اللوم كانوا يستحضرون قول الله تعالى : (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [ الأعراف الآية 164]

 وكان القوم في غيهم سادرون ، وبدل أن يستمع هذا النظام للمخلصين الصادقين المشفقين ، ويمد إليهم اليد ، صار يمد يده لأشرار الناس وتوافههم من المنافقين والحاقدين والموتورين ، وجعلهم يتحدثون باسم سوريا ، ويخططون لها وينظرون ، ويرسمون التوجهات لقطع كل رأس يشمخ في هذا الوطن ، وقطع كل لسان يلهج بحب هذا الوطن ، وقطع كل يد ، وكل رجل ، تحمل عبء هذا الوطن .. وسحق وسجن كل من يحرص على هذا الوطن .. حتى وصل الحال إلى ما نحن فيه ، وسالت دماء أبناء شعب سوريا الأحرار ، ومزقت الأجساد إلى أشلاء ، وطحنت الرؤوس والعظام ، ومنع الناس حتى من دفن قتلاهم ، أليس من المعيب ، لو كان هذا النظام يفقه معنى العيب ، أن يجعل له جنائز ، يشيعها بالاحترام والتقدير ، على حين أن شهداء باقي أبناء الشعب ، شهداء الحرية والكرامة ، يمثل بجثثهم .. وتسحل بالشوارع ، ويمنع دفنهم .. أما جرحى الشعب ، فيتركون ينزفون ، ويمنع عنهم الإسعاف حتى الموت .. أما أطفال هذا الشعب فيقطع عنهم الماء والخبز والكهرباء .. حتى ضج العالم من هول ما يرى ، وتداعت الأمم لتضع حدا لهذا النظام المتوحش ، الذي لن يقف إجرامه عند حد ..؟!

 ومازال الأباليس يزينون لهذا النظام جرائمه ، ويحثونه على المزيد ، وهو سادر في غيه ، ماض في صلفه وتجبره وإجرامه .. ولا يملك المرء أمام هذه المشاهد التي تنفطر لها القلوب إلا أن يسأل : أ هذا هو النظام الذي كنتم ترجون له إصلاحا أيها القوم ؟ أ هذا هو النظام الذي كنتم تأملون منه عدلا وإنصافا ، وأن يعطي الشعب حقه من الحرية والأمن والأمان والكرامة ، أ هذا هو النظام الذي كنتم تمجدونه ، وتهيلون عليه الأوصاف والألقاب ؟ لقد بات على من ظن بهذا النظام خيرا في يوم من الأيام ، أن يسترجع و يتوب إلى الله ، ويعيد النظر في قدراته العقلية والنفسية ، لأن هذا الإجرام اليوم ،هو نفسه ، ذاك الإجرام بالأمس ، قبل ثلاثين سنة ، وهذه الأرواح البريئة التي تزهق اليوم ، هي من تلك الأرواح التي أزهقت بالأمس ، قبل ثلاثين عاما ، وستبقى تطارد المجرمين ، وتقض مضاجعهم ، حتى يكونوا عبرة لكل مجرم متكبر متجبر. فلا حل مع هذا النظام هذه المرة ، ولا خيار أمامه ، مهما كابر وعاند وأجرم .. إلا السقوط والزوال ..فالثبات الثبات ، والعزيمة العزيمة .. وكان الله في عونكم ، ورحم الله الشهداء الفائزين ، وأعان الله أهلهم وذويهم الصابرين ، وربط الله على قلوبهم .. وإنا لندعو الله تعالى أن ينزلهم منازل الشهداء الأبرار، ويفرج عن هذا الشعب المقهور على مدى عقود ..ويعيد لسوريا مجدها وعزها ووحدتها ولحمتها الوطنية التي مزقها هذا النظام شر ممزق ، وجعلها لعبة يتلهى بها ، ورقص على جراح أهلها وآلامهم ، ليبقى متربعا على صدر هذا الشعب الحر الأبي المنتفض حتى النصر الأكيد بعون الله.