العمائم البيض في ميدان التحرير

العمائم البيض في ميدان التحرير

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

كان من المشاهد التي أسعدتني في مظاهرات الثورة بميدان التحرير ، وجود العمائم البيضاء التي تمثل الأزهريين الذين حضروا بزيهم التقليدي بين المتظاهرين والمعتصمين ؛ للمشاركة مع جموع الشعب المصري في المطالبة بإسقاط النظام الفاسد ، وتخليص البلاد من حكم الطغيان والإجرام   ، فقد أعادوا سيرة الأزهر المعمور يوم كان يقود الثورة ضد الطغاة والغزاة ، وظل كذلك حتى جرده الفراعنة المحدثون من دوره ، وحرموه من طبيعته ، وحولوه إلى مجرد أداة فارغة لا وجود لها ، كل مهمتها إصدار الفتاوى التي ترضي الفرعون ، وتؤيد تنازلاته المشينة للعدو ، وتفتح أبواب الأزهر الطاهر للغزاة الأنجاس ، وتحلل الربا ، وتناصر الغرب الصليبي في استئصاله للإسلام على أرض أوربة ، شكلا ومضمونا ..

العمائم البيض في ميدان التحرير كانت عودة طيبة لعقل الإسلام كي يقود الأمة الإسلامية مرة أخرى ، ويبعث نهضتها العلمية والفكرية والثقافية من جديد ، ويعالج الأمراض التي لحقت بالفكر الإسلامي ، والشوائب التي لحقت به ، على أيدي المفْرطين والمفرّطين .

كان ظهور العمائم البيض تعويضا عن غياب العمائم السود التي خضعت لإرادة التمرد الطائفي ، وآثرت أن تتحالف مع النظام الفاسد من أجل مكاسب حرام غير مشروعة على حساب القانون والمواطنة والعدل ، ومع أن الكنيسة المتمردة حاولت أن تخضع رعاياها الروحيين لهذه الإرادة الانتهازية فإن كثيرا من هؤلاء الرعايا رفضوا الانصياع ، ونزلوا إلى الميدان مع شركاء الوطن ، ورأوا أن التحالف الأثيم بين النظام والكنيسة جريمة كبرى لا يمكن قبولها ، فهتفوا مع الهاتفين بسقوط النظام ، وضحوا ببعض أفرادهم في مواجهة الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع وسيارات الدهس الأميركية ، وأثبتوا أنهم جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع المصري !

عودة العمائم البيض لممارسة دورها التاريخي يبشر بعصر جديد للأزهر في حياة الأمة ، تمسك فيه هذه المؤسسة العلمية بناصية العلم الشرعي وعلوم اللغة وموقف النخوة الإسلامية مرة أخرى ، حيث تصير جزءا من حياة المجتمع ، ومرشدا له نحو صحيح الدين ، وموجها نحو المواقف السليمة في أمور الدنيا والآخرة .. ثم إن المجتمع سوف يصغي لها ويستمع لأقوالها وإرشاداتها ،  لأنه  يجد فيها حاضنا للهوية ودرعا يحمي روح الأمة ويدفع بها إلى الوثوب والانطلاق الذي حرمت منه طويلا .

وأعتقد أن ظهور العمائم البيض رافقته ظاهرة طيبة ،وهي مشاركة الجماعات الإسلامية الأخرى ، ربما لأول مرة ، فقد شاركت في الثورة الجماعات السلفية والجهاد والجماعة الإسلامية إلى جانب الإخوان المسلمين ، وغيرها من الجماعات والجمعيات التي أضافت إلى وحدة المجتمع ، وأظهرت روح الإسلام في التوحد من أجل هدف أكبر يفيد الأمة ، ويحررها من الطغاة الذين حاربوا الدين ، وفتنوا الناس عن إسلامهم ، وأقصوا كل من يجاهر بالشهادتين عن مرافق الحركة والنشاط في المجتمع ، وأبعدوا كل من ينتسب إلى التدين عن مؤسسات العمل والتوظيف ، وعاثوا في الأرض فسادا ، لا يمنعهم مانع ، ولا يردعهم رادع ..

كان حضور ألوان الطيف المختلفة للحركة الإسلامية في ثورة يناير بشيرا بعصر جديد تنطلق فيه الحركة الإسلامية إلى العمل والدعوة وفقا لصحيح الدين ، والتكامل فيما بين فصائل هذه الحركة في تحقيق أهداف الإسلام العليا من ترقية للمجتمع ، وتوحيد للأمة ، وبث لروح الجهاد الأكبر من أجل خدمة الجمهور ، وخاصة الطبقات الفقيرة ، والمشاركة الفعالة في قضايا الأمة وفق منهج ذكي يركز على الأولويات ، ويرجئ الهامشيات ، والخلافات حولها ، ويتبنى مشروعات يحسها الناس ويستشعرونها ويتأثرون بها ويفيدون منها . 

إن الخلافات التي تنشب بين هذه الجماعة أو تلك ، ينبغي ألا تكون حائلا دون اتفاق على الأسس الرئيسة ، والقضايا المشتركة ، والهموم العامة ، لأن خصوم الإسلام لا يفرقون بين هذه الجماعة أو تلك . وليكن شعار الإمام محمد رشيد رضا : " نلتقي حول ما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا حوله " حاضرا في أذهان كل الجماعات ، فهذا هو الشعار الذي تبناه الإمام الشهيد حسن البنا فيما بعد .

إن الحركة الإسلامية يجب أن تقدر الطبيعة البشرية في اختلافها ، وتنوعها ، وأن هذا الاختلاف وذلك التنوع يمكن أن يكونا عنصرا إضافة وليس عنصرا خصم من الحركة الإسلامية ، فلكل جماعة أن تتبنى الطرق والوسائل التي تناسبها وتتفق مع ظروفها ، ولكن جميع الفصائل يجب ألا تنسى أن خصوم الإسلام لا يفرقون بين إخواني أو سلفي أو سني أو صوفي أو جهادي أو منتم للجماعة الإسلامية .. فخصوم الإسلام هدفهم واضح ، وهو تشويه الإسلام والمنتسبين إليه ، إن لم يستطيعوا القضاء عليه ، وهم خصوم مدربون على الكذب والتدليس واصطياد التصرفات الصغيرة هنا وهناك ، لجعلها عنوانا على الإسلام والمسلمين ، والانطلاق منها لتسديد ضرباتهم وتوجيه سهامهم .

وينقسم خصوم الإسلام إلى فريقين ، الأول لا أمل فيه لأنه مأجور ومدرب على الكيد للعقيدة الإسلامية وأهلها ، وهذا الفريق ينتعش في ظل الاستبداد والطغيان والديكتاتورية ، فيسعى للهيمنة على الإعلام والتعليم والثقافة والصحافة ليخاطب من خلالها جماهير الناس بما يدلس به ويضلل ، ويستخدم المصطلحات المراوغة التي تحمل أكثر من دلالة ، أملا في لفت الأنظار عن القضايا المهمة ، وتوريط المجتمع في حوارات ونقاشات غير مثمرة حول أمور سطحية لا تفيد المجتمع ، ولا تخدم الناس ، ولكنها تستنزف العقل الإسلامي وتهدر جهده فيما لا يفيد .

الفريق الآخر يتحرك عن جهل بأحكام الدين وتشريعاته ، وهو ما ينبغي أن تبذل جميع الفصائل الإسلامية جهودا كبيرة ، لتقديم مفاهيم الإسلام الصحيحة وشرحها في أسلوب ملائم ، يتناسب مع العصر وتطوراته وطرائقه ، ومخاطبة الجاهلين بالإسلام بالرفق  واللين ، والشرح والتوضيح ، لأن هؤلاء عندما يرون المفاهيم الصحيحة للإسلام ، سيقتنعون ويشاركون المجتمع الإسلامي أفكاره وقيمه.

وأرى أن ذلك الأمر يفرض على الحركة الإسلامية أن تهتم بالمشروع التربوي التعليمي ؛ بحيث يكون له الأولوية على كل ما عداه ، بمعنى أن الخطاب الإسلامي يجب أن يركز في حركته اليومية العامة داخل المساجد والمؤسسات المختلفة ، على الناحية التربوية التعليمية بالحكمة والموعظة الحسنة ، ثم بلورة ذلك في إنشاء المدارس والجامعات الإسلامية على امتداد الوطن وفي كل بقعة ممكنة حتى يمكن الارتقاء بالمستوى التعليمي من ناحية ، وترسيخ قيم الإسلام ومفاهيمه في نفوس الأجيال الجديدة من ناحية أخرى .

ثم إن المشاركة في العمل العام والنزول إلى الشارع من جانب بعض الفصائل الإسلامية ؛ بات أمرا ضروريا ، حيث لم يعد مقبولا اعتزال المجتمع ، أو الانكفاء على الذات في حدود الجماعة ، فالمسلم عنصر فاعل في الحياة ومجالاتها المختلفة ، لا يعتزل الناس ، ولا يخاصمهم ، ولا يعاديهم ..وهو في كل الأحوال داعية للدين بسلوكه وتصرفاته ونشاطاته التي تجعل الآخرين يلتفتون إليه ويقدرونه ، وخدمته للناس هي عمل مأجور عليه من الله ( إن أجري  إلا على الله ) .

أيضا فإن المجال الإعلامي والثقافي والصحفي مجال مهم لا يمكن تجاهله ، لأنه وسيلة الاتصال الناعمة بين الحركة الإسلامية ، وجموع الناس . لقد حرم النظام البائد الحركة الإسلامية من هذه الوسيلة ، فصادر صحفهم ومكتباتهم ، ومنعهم الظهور في التلفزة ، والمشاركة في الإذاعات والنشاطات الثقافية ، مما أتاح للنظام البائد وخصوم الإسلام فرصة التشويه والتشهير ؛ حتى باتت بعض المصطلحات الإجرامية لصيقة بالإسلام والمسلمين مثل : الإرهاب والتطرف والتشدد والظلام والظلامية والإظلام والأصولية والتخلف وغيرها !

حضور العمائم البيض إلى ساحة التحرير بشارة انطلاق إسلامية لتقديم الإسلام برحابته وغناه وسخائه ، وأعتقد أن الأزهر الجديد سيكون بوتقة تجمع الحركة الإسلامية على الاعتصام بحبل الله جميعا ، والارتقاء إلى هدف أكبر هو خدمة الدين ، ومعالجة بعض الأمراض البشرية التي تصنعها النزعات الأنانية أو النرجسية أو تضخم الذات أو الرغبة في كسب الشهرة وحب الظهور أو بعض المنافع الدنيوية الزائلة .

إن الدعوة إلى الله ارتقاء نحو مرضاة الله ، وخدمة الإسلام والمسلمين ، وتأليف للقلوب من أجل مجتمع أفضل .