كم كيلو ديمقراطية تتحمل الشعوب العربية؟
معتز فيصل / ألمانيا
بدأ الشعب التونسي ثورات الديمقراطية والتحرر في الوطن العربي، تبعه الشعب المصري، ثم تتالت الثورات والتحركات في جميع أنحاء هذا الوطن الذي أثبت أنه رغم كل الدكتاتوريات والتغييب المنظم منذ ما يزيد عن خمسين عاماً، مازال شعباً واحداً يُحس بعضه بمشاعر بعضه الآخر، ويفرح لفرحه ويحزن لحزنه ويتحرك معه وينصره ويسانده. شعارات سابقة أطلقها حكام العرب لتفريق هذه الأمة وإنهاء وحدتها، مثل الآردن أولاً أو مصر أولاً أو أي اسم لدولة تتبعها كلمة أولاً، كل هذه الشعارات لم تُسمن ولم تُغن من جوع، بل أثبتت على العكس فشلها الذريع وباءت بالخزي ورجعت على من أطلقها صفعة على وجهه القبيح.
قامت بعد مصر اليمن وليبيا والبحرين وحصل ما يحصل والذي مازلنا نتابعه إلى هذه الساعة في البلدان الثلاث، حصل قمع وقتل وإرهاب على مستوى لم نره في تونس ولا في مصر، حتى تحول في ليبيا إلى حرب حقيقية واستدعى في البحرين تدخل قوات الخليج، وأودى في اليمن بحياة خمسين شهيداً في يوم الجمعة في صنعاء وحدها. أثبت حكام العرب أنهم يعتبرون أنفسهم أنصاف آلهة بل بعضهم يعتبر نفسه إلهاً كاملاً، لا يريدون أن يرحلوا حتى ولو رحل الشعب كله، فهم مستعدون لاستجلاب شعب آخر من أي مكان في الأرض ليحكموه وليبقوا في السلطة إلى الأبد ثم ليسلموها لآولادهم وأحفادهم من بعدهم. وهم يملكون من القوة العسكرية ومن المال الذي جمعوه على مر سني حكمهم الشيء الكثير الذي يبيح لهم، بزعمهم، هذا الذي يريدونه!
أثبت هؤلاء الحكام أنهم لا يتحملون من الديقراطية والحرية إلا ما يسمح ببقائهم إلى الأبد على عروشهم وأثبتت الشعوب العربية الحرة أنها لا تقبل بأقل من الحرية الكاملة والديمقراطية الكاملة وحق تقرير مصيرها بشكل كامل لا مفاوضات ولا أنصاف حلول ولا بقاء لهؤلاء الحكام مهما تراجعوا الآن ومهما وزعوا من أموال وقرارات واصلاحات يشترون بها إرادة الشعوب وحريتها.
اللافت في النظر، حالة البحرين وهي فعلاً حالة تستدعي الدراسة لأنها تشكل انعطافاً حقيقياً في حالة الثورة العربية الراهنة، فهناك أغلبية شيعية تثور، وهناك أقلية سنية تحكم، وهنا لا بد لنا من تسمية الأشياء بمسمياتها ولا يجوز اللف و الدوران والنظر بعين واحدة ولا يحق لنا أن نداري ولا أن نكنس المشاكل تحت بساط الحفاظ على وحدة الأمة. هناك إذا ثورة حقيقية تقوم بها أكثرية شيعية في وسط بلد سني فماذا نفعل؟ بمنطق الثورات في بقية البلدان العربية يجب أن تحكم الأكثرية، ويجب أن تقبل الأقلية مع المحافظة على كل حقوقها وواجباتها، هكذا تقول الديمقراطية التي ننادي بها جميعاً ونتمناها جميعا ونصبو إليها جميعاً. وهنا يظهر الإشكال، هل سنتخلى عن الديمقراطية عندما تصل نارها إلى بيوتنا؟ أم سنقيس بمقياسين ونكيل بمكيالين كما يفعل الغرب بديمقراطيته التي نعاني من آثارها في العراق والسودان والصومال؟
لكي نحاول إيجاد حل يجب أن ندرس المشكلة من أساسها. المشكلة أن هذه الأكثرية التي تريد أن تسيطر على البلد بحكم كونها أكثرية، تُتهم بأن لها برنامجاً انفصالياً تابعا لإيران ولمرجعية شيعية، لها أهدافها المعلنة والخفية في الخليج وفي العالم العربي وفي العالم كله حتى. يقابلها أكثرية سنية في جميع دول العالم الإسلامي تترصد هذه الأهداف وتخشاها وتقاومها تارة بالعلن وتارة بالسر لأنها تخشى منها على وجودها حكومات وشعوباً. هذه الاتهامات لم تأت من فراغ ولن ينفع القائمين على الثورة الآن أن يؤكدوا أنهم بريؤون منها، فقد شاهدنا من الأيام الأولى لافتات وصور تؤكد هذا الكلام، قد تكون مندسة وقد تكون غير معبرة عن رأي الأكثرية ولكنها ظهرت على السطح وشوهت الثورة، كما أن الثورة لم تنجح في استقطاب أهل السنة المعارضين للحكم في البحرين، فالحكم هناك ليس بريئاً وليس مثالياً وهناك الكثير من المعارضين والكثير من الراغبين في إصلاحات وتغييرات، ولكنهم اضطروا للابتعاد عن الثورة بسبب ظهور الصبغة الطائفية لها.
نحن عندنا تجربة مشابهة في كردستان العراق، ورأينا كيف قُسم العراق إلى شمال وجنوب بشكل عملي وإن كان نظرياً ما يزال دولة واحدة، ولكن هذا الشكل النظري لا يقنع أحداً وكل عراقي وغير عراقي يعبر كردستان يعلم علم اليقين أن العراق مقسم. الأمر في العراق مشابه لما يحصل في البحرين من جهةٍ، وهي إرادة الانفصال، ومخالف له من جهة أخرى وهي وجود إيران والبرنامج الإيراني، لذلك فإن الوضع في البحرين أخطر بكثير وأدعى للدراسات العميقة والجادة والواعية، فهو في النهاية استكمال لمشروع بدأ في العراق ولبنان ويُستكمل في سوريا وتصل جذوره إلى كل أفريقيا، بغياب برنامج إسلامي سني واضح يواجه هذا التمدد الإيراني سياسياً وليس عسكرياً، وفكرياً وعلمياً وعقيدياً وليس بالطائرات والجيوش والسلاح، ولا بالشتائم والمكائد والتحالفات مع الغرب والشرق، ولا بالتخاذلات والتنازلات وبيع الأوطان مقابل صد الهجمة الفارسية على الوطن العربي بأكمله والتي يعتبرها الحكام هجمة عليهم لوحدهم، يريدون أن ينجو منها بالحفاظ على كراسيهم فقط ولايهمهم أمر الشعوب ولا عقيدتها ولا دينها.
أعتقد أن هذه الثورة لو سبقت ثورة إيران والحكومة الإسلامية لوقف معها كل الشعب العربي ولاستطاعت أن تحقق أهدافها، ولكن الزمن ليس زمنها والوقت ليس وقتها واعتمادها على إيران، وإن كان في الظاهر يعطيها دعما وقوة لم تكن لتحصل عليهما من قبل، ولكنه في هذا الوقت في الذات يسلبها أهم مقوماتها وأسباب نصرها وهو كونها من الشعب وللشعب بمختلف مكوناته المذهبية والعرقية والاجتماعية.
إن مقتل هذه الثورة هو ما يحسبه القائمون عليها مصدر قوتها، ألا وهو إيران والدعم الشيعي الإقليمي، وهي تخطئ اكبر الخطأ باعتمادها على الدعم الإيراني وبلبسها العمامة الإيرانية، وبحملها صور خامنئي وبقية الملالي، وتهلك نفسها بنفسها، وعليها أن تتراجع الآن وتعيد حساباتها وتنظم صفوفها من جديد، وتعتمد على مواطنتها بدل غربتها، وعلى إخوانها في الوطن بدل أقاربها في الخارج، وعلى مصداقيتها وتاريخها في المنطقة بدل اجترار مظلوميات أحداث من غابر الزمن مقطوعة عن الحاضر والمستقبل.
لن يستطيع الخليج حل مشكلة الأكثرية الشيعية في الكثير من دوله إلا بطريقة واحدة، وهي الاتحاد، يجب أن يكون هناك وحدة خليجية، يجب أن يكون هنا اتحاد حقيقي لدول الخليج، بما فيها اليمن طبعاً، بحيث تختفي فيه هذه النعرات المذهبية وتحصل الأقليات على حقوقها بطريقة ديمقراطية حقيقية لأنها جزء من الوطن الخليجي الكبير لها كل حقوق المواطنة وعليها كل واجبات هذه المواطنة. عندها لا يستطيع أحد أن يتجه إلى شرق ولا إلى غرب، ولا أن يولي وجهه إلى مرجعية خارجية، بحجة أنه مسلوب الحقوق في وطنه وأنه لا خلاص له إلا باللجوء إلى إيران أو غيرها. الوحدة أيضاً هي الضمان العادل لتوزيع الثروة في الخليج وتوافر اليد العاملة العربية الحقيقية، وعدم الحاجة للعمالة البنغلاديشية والهندية والباكستانية، والتي أصبحت في بعض دول الخليج تهدد الأمن والاستقرار وتغير التركيبة السكانية.
كل دول الخليج تعلم أنها ليست دولاً حقيقية، وإنما هي حدود وضعها المستعمر قبل أن يغادر، جرى التوافق عليها، وخًلقت لها مبررات الاستمرار والبقاء، وتمت التوافقات بين حكامها بالترهيب والترغيب، ولكن المستعمر ترك فيه الكثير من الألغام ينفجر أحدها، بين الفينة والفينة، ليضمن بقاء تحكم هذا المستعمر الغريب في هذه الدول التي صنعها على عينه.
لن تنجو دول الخليج من مصيرها المحتوم في التمزق والحروب الأهلية إلا بالوحدة الحقيقية، وما لا يُرى اليوم سيصبح غدا حقيقة واضحة والأحداث تتسارع بشكل غير عادي في هذه الأيام، وحكامنا يغطون في نوم عميق، ويحسبون الزمن بمقاييس عفى عليها الزمن، فالأحداث عندهم تقاس بأعمار حكمهم التي جاوزت عشرات السنين، بينماهي في الواقع تتغير بالثواني والدقائق في عصر الإنترنيت والفضائيات، ولكنهم وبطانتهم ومستشاريهم لا يزالون في زمن أهل الكهف، ولن يستفيقوا إلا على أصوات الثورة تقرع أبواب قصورهم، ولات ساعة مندم.