هل انطلقت الثورة في سورية
التشبث بالاستبداد والفساد
يزيد الثورة اشتعالا ولا يخمدها
نبيل شبيب
موعد التغيير
موعد تاريخي - الاستبداد
قاسم مشترك - الفساد
قاسم مشترك - الشبيبة
قاسم مشترك - خصوصيات
الحكم في سورية - طريق
الثورة المتميز
بضع مئات من الشباب في سورية يتظاهرون في سوق الحميدية في دمشق،
ومن قبل بضعة ألوف يغضبون في سوق الحميدية ردّا على إهانة شرطي لأحد الشباب، وأهالي
المعتقلين يحاولون الاعتصام أمام مبنى وزارة الداخلية فيضاف بعضهم إلى المعتقلين،
ويفرّق الآخرون بالوسائل القمعية "التقليدية".. ودعوات إلى الثورة تجمع ألوفا مؤلفة
من الشباب على صفحات الشبكة العالمية، وردود فعل رسمية تعبّر عن القلق والاضطراب،
ولكن لا تعبّر –رغم تكرار وعود إصلاح عتيقة ورغم سخاء جزئي طارئ في الالتفات إلى
مشكلات مادية- عن استيعاب حقيقة الوضع في سورية، وعربيا، وعالميا.. ولا عن ضرورة
الخروج –الآن- من قيود الأوهام بقابلية "تجنّب الثورة" دون تغيير جذري شامل، أو
بقابلية إخمادها إذا اندلعت.. ولو بطريقة القذافي الدموية، ولئن بقي في السلطة فوق
الجماجم، فهل هذا ما يمكن أن يقبل به "إنسان" لنفسه في ليبيا أو في أي بلد آخر، وهل
يمكن أن يصبح "نموذجا" يُحتذى، بدلا من التخلّي عن الاستبداد بمختلف أشكاله الدموية
وغير الدموية؟..
موعد التغيير موعد تاريخي
كانت التحركات الثوروية الأولى في سورية كافية لينتشر التساؤل
في كل مكان انتشار النار في الهشيم: هل بدأت الثورة في سورية؟.. ويكفي هذا دليلا
على أنّ تقدير الأوضاع في سورية يقنع القريب والبعيد بأنّه لا بد من تغييره تغييرا
جذريا شاملا ترمز إليه كلمة "ثورة"، وأنّ تقدير الأوضاع إقليميا يقنع القريب
والبعيد بأنّ "موعد" هذا التغيير الجذري الشامل قد اقترب، فلم يعد يمكن تأجيله،
ويمكن أن يتحقق من خلال ثورة يطلقها جيل الشبيبة في سورية وتتحوّل إلى ثورة شعبية
شاملة، كما كان في أقطار عربية أخرى.
في مقدّمة ما يرجّح الجواب بالإيجاب على السؤال المطروح: هل
بدأت الثورة في سورية؟.. عدد من القواسم المشتركة بينها وبين الثورات العربية
الأخرى، سواء من حيث ما يستدعيها من أوضاع قائمة في سورية، أو من حيث نوعية
المحاولات المستميتة للنظم الحاكمة أن تتجنّب "قَدَر الثورة" بإجراءات ترقيعية
استباقية، أو من حيث التميّز النوعي للإرهاصات الأولى للثورة.
الاستبداد.. والفساد.. كلمتان ثقيلتان على السمع، لأنّ ما يجري
تحت هذا العنوان أو ذاك ثقيل على النفوس، ثقيل على أرض الواقع اليومي، على نفوس
أفراد الشعب بمختلف فئاته دون استثناء، وفي مختلف ميادين حياته إطلاقا، وهما محور
القواسم المشتركة بين أوضاع قائمة تفرض بنفسها طريق الثورة عليها فرضا.
وفي مقدّمة ما يرجّح الجواب بالإيجاب على السؤال المطروح: هل
بدأت الثورة في سورية؟.. تميّز طريق الثورة في سورية بخصائص ذاتية، مثلما تميّزت كل
ثورة أخرى بخصائص ذاتية، فالثائرون يعلمون بمصادر قوتهم والواقع من حولهم ويبدعون
وسائلهم تبعا لذلك، والمستبدّون جاهلون بحجم قوّة الثورة القادمة، مهما كانت سلمية،
فقوتها الأكبر كامنة في سلمية.. أو هم يتجاهلون ذلك لطمأنة أنفسهم، وهم عاجزون في
الحالتين –حتى الآن- عن الخروج من قوالب الاستبداد الجامدة.
الاستبداد قاسم مشترك
لا يوجد استبداد قبيح وآخر جميل، واستبداد إجرامي وآخر بريء..
فجوهر الاستبداد هو احتكار السلطة، واحتكار السلطة في سورية، فرديا، عائليا، حزبيا،
عسكريا.. سيان، هو احتكار استبدادي مرفوض من حيث الأساس، سيّان في ذلك هل مارس بعض
السياسات الخارجية الإيجابية أم لم يمارس، وهل اكتفى بنشر الرعب إلى درجة الامتناع
الذاتي عن معارضته أو استخدم مباشرةً وسائل القمع لكل معارضة صغيرة وكبيرة.
الاستبداد في سورية هو استبداد تحويل الحزب إلى دولة استبدادية،
وتحويل الدستور إلى ورقة استبدادية، وتحويل حالة الطوارئ إلى آليّة استبدادية،
وتحويل مؤسسات الدولة إلى سلطة استبدادية، ولا يكفي أن يؤمّن الطعام والدواء، على
افتراض تأمينهما وكأنّهما منحة أو هبة من الحاكم، فالطعام من يد السجّان استبداد،
والدواء من يد السجّان سمّ زعاف.
لا يمكن القول عن الاستبداد في سورية إنّه استبداد "محدود"، بل
هو الاستبداد الذي يعبّر عن نفسه:
1- حزبيا.. بحظر وجود أي حزب لا ينطوي تحت مظلة الحزب المستبدّ،
فلا يقدّم "التكرّم بالسماح" بوجوده ولا يؤخر، سواء أعطي عنوان "جبهة" أم عنوان
"حزب معارض"..
2- دستوريا.. بتعديل مواد الدستور وتشويهها ليصبح الدستور نفسه
أساسا مزوّرا لممارسة الاستبداد بدلا من أن يكون أساسا قويما ليحكم الشعب نفسه
بنفسه..
3- قمعيا.. بتوظيف حالة الطوارئ المزمنة، وتوظيف التشريعات
الصادرة في نطاقها أو خارج نطاقها، لمصادرة حرية الأحرار وحقوق المواطنين، فحتى
حرية التعبير –مثالا- مسموحة لمن يشارك في الاستبداد بما يقول ويكتب، ومحظورة على
كل من يطرح مطالب عادلة بمختلف المعايير والمقاييس مهما كان اتجاهه، ومن مختلف
الأعمار بدءا بالطلبة والمدونين والمدونات الذين أصبحت طل الملوحي رمزا لهم، انتهاء
بأصحاب الكفاءات العالية والتاريخ المضيء والاختصاصات المتميّزة على طريق الدفاع عن
الإنسان في سورية وفي كل مكان، ممّن أصبح هيثم المالح رمزا لهم.
4- "مؤسساتيا".. بتحويل رأس الدولة إلى حاكم قادر على أن يفرض
ما يريد متى يريد وبأي وسيلة يريد وباستخدام المؤسسات وفق ما يريد، عن طريق
المراسيم المباشرة كما كان في القرون الوسطى الأوروبية، وعن طريق "التوجيه"
لاستصدار "القوانين" المنحرفة على مقاس بقاء استبداده، بل وعن طريق تحويل صورته
واسمه إلى رموز وشعارات، كأنّه هو "المواطن" السوري الفريد، وجميع أهل سورية إماء
وعبيد، "يحبّونه" على غرار عشقِ أهل ليبيا المزعوم والمثير للسخرية المريرة
الممزوجة بدماء الضحايا للحاكم المسبتد، و"يشيدون باسمه" على غرار الإشادة بأسماء
نجوم الغناء والتمثيل، ويزعمون له من "العصمة" ما يجعل هذا الزعم نفسه أكبر خطأ
يرتكبه هو نفسه من خلال الإقرار به والتصرّف بموجبه.
هذا علاوة على ابتكار أجهزة قضائية مزعومة ليس لها نصيب من
القضاء وهيبته وأحكامه واستقلاليته وعدالته، وتقييد ما سوى ذلك من أجهزة قضائية في
حدود بعض الميادين المدنية، التي لا تقدّم ولا تؤخّر على صعيد العدالة السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وسوى ذلك من الميادين.
وهذا علاوة على ابتكار قاموس من "التهم" الجاهزة، من قبيل
المساس بهيبة الدولة، للمحاسبة على مجرّد كلمة تتغنّى بالحرية من قبل أن تعمل
للتمتّع بها، وبالحقوق من قبل أن تطالب بها..
وهذا علاوة على تحويل الانتخابات والاستفتاءات إلى مسرحيات
هزلية، والحكومات إلى أدوات استبدادية، والوزارات إلى شركات حزبية..
إنّ هذا –وهو غيض من فيض- هو الاستبداد الذي يشكل قاسما مشتركا
بين الأقطار العربية التي تشهد الثورات على الاستبداد، بلدا بعد بلد.. ولهذا يمكن
القول إن الثورة في سورية قد بدأت أيضا، بغض النظر عمّا إذا كان التاريخ سيكتب
قريبا أن شرارتها الأولى كانت في يوم الغضب السوري أم يوم 15/3/2011م أو أي حدث آخر
في يوم آخر.
الفساد قاسم مشترك
في سورية بطالة وفقر، وفي سورية إخفاق اقتصادي ومالي، وفي سورية
تبذير وإسراف، وفي سورية حرمان وقهر، وجميع ذلك موثّق بالأرقام مشهود على ارض
الواقع، ولكن يوجد في سورية إلى جانبه كذب ونفاق لا يمكن أن يغطيّا على ذلك كلّه
بمجرّد إنكاره أو بمحاولة تعليله بأسباب أخرى لا يحمل مَن يحتكرون السلطة والثروات
مسؤولين عنها.. فاحتكار السلطة يجعلهم مسؤولين وإن اعتبروا أنفسهم من ذوي النوايا
الطيبة والقرارات الصائبة.
ويمكن للعاطل عن العمل والفقير والمعدوم أن يصبر ويسعى لتحسين
أوضاعه، ولكن انتشار الفساد المندمج في أجهزة الاستبداد اندماجا عضويا مصيريا، في
سورية –مثل أقطار عربية أخرى- هو ما يصنع هوّة الفقر والثراء، والبطالة والاستغلال،
والحرمان والتبذير، من وراء مختلف المشاريع الاقتصادية والعمرانية الكبيرة
والصغيرة، ما دام لا يخلو أي مشروع منها من هيمنة احتكارية عائلية وحزبية عليها،
وهذا ما يجعل خروج النسبة الكبرى من أهل سورية من دائرة البطالة والفقر والحرمان
والقهر مستحيلا ما دام الفساد مستشريا مع الاستبداد ومستمرا بلا رادع ولا رقابة ولا
حساب.
ليست المشكلة في الصبر.. فقد صبر أهل سورية صبرا متواصلا لجيلين
متعاقبين في ظل الحكم الاستبدادي القائم دون جدوى.
وليست المشكلة في السعي الفردي.. فكل سعي لتحسين الأوضاع مكتوب
عليه الإخفاق ولا جدوى منه، ما دام الفساد ينخر في جميع الميادين دون استثناء، وما
دام في "تحالفه الاندماجي العضوي" مع الاستبداد القائم مستمرا ومتفاقما.
لا يمكن تجنّب الثورة على الفساد والاستبداد معا عن طريق مرسوم
استبدادي يقضي بمكافحة الفساد الاستبدادي، فكلاهما يشكلان معا جسدا واحدا، هو الذي
يحتاج إلى العلاج الجذري جملة وتفصيلا، وليس هو مصدر العلاج، ما لم تصدر عنه "ثورة
ذاتية" على نفسه.. ولا يبدو أنّ مَن يمارس الاستبداد والفساد قد استوعب ذلك رغم ما
يعايشه في أقطار عربية أخرى، فهو يعمد إلى استخدام وسائله العتيقة من قبيل ما يُعطى
في كل مكان عنوان "امتصاص الغضب" و"التنفيس" و"الإجراءات الترقيعية" وإن أعطى هو
لذلك عناوين أخرى، من قبيل أولوية الإصلاح الإداري، أو تحسين الأوضاع المعيشية، أو
ما شابه ذلك.
إنّ سيطرة أفراد العائلة المقربين والأعوان الحزبيين المنتفعين،
على مفاصل صناعة القرار ومفاصل الاستيلاء على ثروات الشعب في سورية، هي جوهر الفساد
الذي يشكل قاسما مشتركا بين الأقطار العربية التي تشهد الثورات على الفساد، بلدا
بعد بلد.. ولهذا يمكن القول إن الثورة في سورية قد بدأت أيضا، بغض النظر عمّا إذا
كان التاريخ سيكتب قريبا أن شرارتها الأولى كانت في يوم الغضب السوري أم يوم
15/3/2011م أو أي حدث آخر في يوم آخر.
الشبيبة قاسم مشترك
لقد عانى جيل الشبيبة من الاستبداد والفساد منذ ولادته حتى
اليوم، فما عرف سواهما، ومعاناتُه مضاعفة، شطرها الأوّل هو ما يشارك فيه الأسر التي
نشأ فيها، وهي من جيل عايش نشأة الاستبداد والفساد من أيامهما الأولى وكيف مضت
السلطات الحاكمة في سورية نتيجة لهما على طريق ترسيخ المزيد من الأسباب
لاستمرارهما، عاما بعد عام، عقدا بعد عقد، ووعداً بالإصلاح المزعوم بعد وعد، حتى
وصلت إلى طريق مسدودة.. فلم يعد ينفع الترقيع، بل لا بدّ من التغيير الجذري
الشامل.
والشطر الثاني من معاناة جيل الشبيبة في سورية أنّ الاستبداد
والفساد أصبحا سدّا يحول دون أي فرصة مستقبلية كريمة للشاب أو الفتاة وهما في مقتبل
العمر، وعايش هذا الجيل أنّ "الصبر والسعي" لم يفيدا جيل آبائه وأمّهاته، فيستحيل
أن يكرّر التجربة عشرات السنين.. إلى أن يورّث الأبناء والأحفاد المعاناة لجيل آخر،
وهو يسمع مقولة "إنّ الإصلاح يحتاج للانتظار إلى جيل قادم". لئن كان الجيل الأكبر
الذي عانى من الاستبداد والفساد ألوانا جعلت آماله في التغيير تنحصر في "مستقبل
قادم" فإن جيل الشبيبة هو "المستقبل القادم".. ولم يعد بعيدا.
ولئن واجه الجيل الأكبر سنّاً معاصريه من جيل المستبدين
والفاسدين بوسائل ومعطيات لم تخرج كثيرا عن نطاق ما يملك هؤلاء مثله أضعافا مضاعفة،
من خلال سيطرتهم على مفاصل القرار ومراكز الهيمنة الاستبدادية الفاسدة، فإنّ جيل
الشبيبة يملك من الإمكانات والمعطيات والطاقات الكامنة والمتفجّرة، ما لم يعد يمكن
الوقوف في وجهه بأي وسيلة من وسائل الاستبداد والفساد الدموية التقليدية ولا حتى
الدموية المبتكرة.
لقد قيل عن جيل الشبيبة في تونس إن الاستبداد سيطر عليه
بالترهيب، وإن الفساد سيطر عليه بالإفساد، وإذا به يفاجئ العالم كلّه بأنّه يمتلك
من الجرأة والإقدام والبسالة والثبات والوعي والبصيرة ويمتلك من النقاء والقيم ما
يجعله قادرا على صنع ثورة تطيح بصروح الاستبداد والفساد بين ليلة وضحاها.. فقد ثار
من حيث لا يحتسب النظام الحاكم ولا العالم المتواطئ.
وقيل عن جيل الشبيبة في مصر شبيه ذلك.. وثار وغيّر وما زال
ماضيا على الطريق، وقيل عن جيل الشبيبة في ليبيا.. وفي اليمن.. وفي سواهما شبيه
ذلك، وثار الشبيبة وبدؤوا يحقّقون التغيير ومن المستحيل أن توقف عجلته وسائل
الاستبداد والفساد داخليا ولا محاولات الالتفاف والتواطؤ دوليا.. ولا بد أن يكون
النصر حليف الثائرين من أجل التغيير، وهذا ما يسري أيضا على آلة القتل القذافية
الدموية الفاجرة –وقد باتت هذه الأيام محطّ أنظار المستبدين- فلو استطاعت قتل نصف
شعب ليبيا من أجل البقاء ردحا من الزمن، فسوف ينتصر النصف الآخر من شعب ليبيا في
نهاية المطاف.
خصوصيات الحكم في سورية
قيل عن الحكم الاستبدادي في تونس إنّه حقق التقدّم اقتصاديا
وعلميا فهذا من ميزاته، وقيل عن الحكم الاستبدادي في مصر إنّه حقّق قدرا من الزعامة
العربية –وإن كانت في الاتجاه الخاطئ- فهذا من ميزاته، وقيل عن سواهما شبيه ذلك،
مثلما يقال عن الحكم الاستبدادي في سورية إنّ له من الميزات ما لا يخفى ولا أحد
ينكره ومثال ذلك أنّه "أقلّ تقهقرا" على طريق تصفية قضية فلسطين، و"أكثر قدرة" على
توظيف علاقاته على صعيد دعم المقاومة بفلسطين ولبنان للظهور في موقع أقرب إلى إرادة
الشعوب.
إنّما يجب أن يدرك النظام الحاكم في سورية مثلما أدرك جيل
الشبيبة في سورية.. وسواها:
1- أن التعامل الإيجابي مع قضية فلسطين من منطلق حكم استبدادي..
لا يلغي رفض الاستبداد، لأن التعامل الإيجابي مع القضية من منطلق حكم عادل هو
الأقدر على تحقيق الأهداف القريبة والبعيدة لهذه القضية المصيرية المحورية.
2- أنّ التعامل الإيجابي مع المقاومة الشعبية من منطلق حكم
استبدادي.. لا يلغي رفض الاستبداد والفساد، لأن الدعم الأكبر بما لا يقاس للمقاومة
وتحقيق أهدافها القريبة والبعيدة، يتحقق من منطلق حكم عادل قويم.
3- أنّ السياسات الإقليمية الإيجابية وممانعة الهيمنة الأجنبية
من منطلق حكم استبدادي.. لا تلغي رفض الاستبداد والفساد، لأن قيام أنظمة حكم عادلة
مشروعة، هو الضمان الأكبر ومصدر القوة الأعظم من أجل ممارسة سياسات إقليمية إيجابية
وردّ أخطار هيمنة خارجية دولية متفاقمة.
لقد استخدم الحكم الاستبدادي في سورية أوراق فلسطين والمقاومة
والأوضاع الإقليمية طويلا، ومهما حقق من خلال ذلك في صالح فلسطين والمقاومة
والمنطقة إقليميا، فقد آن الأوان ليدرك ما أدركه جيل الشبيبة من أن أضعاف ذلك يتحقق
بزوال الاستبداد وليس باستمراره، وزوال الفساد وليس باستشرائه.
هذا بالذات ما يمثل جوهر الوعي السياسي الذي بات يميّز جيل
الشبيبة في سورية مثلما يميّز جيل الشبيبة في تونس ومصر وسائر الأقطار العربية
الثائرة والماضية على طريق التغيير الجذري الشامل، آجلا لا عاجلا، ولا يمكن لأي حكم
استبدادي مهما بلغ من رسوخ على أرضية الاستبداد والفساد.. أن يحول دون وصول هذا
الجيل إلى غايته: التغيير الجذري الشامل.
طريق الثورة المتميز
لا يمكن للثورة في سورية أن تختلف عن الثورات في سواها من حيث
الأساس، فالاستبداد والفساد في مقدمة القواسم المشتركة بين الأقطار العربية التي
تشهد ولادة الثورات عليهما في هذه الحقبة التاريخية، وهي ثورة تريد زوال واقع
الاستبداد والفساد كله.. دون استثناء مظهر من مظاهره، ولا استبقاء جانب من جوانبه،
ولا الحفاظ على ورقة تسمّى دستورا أو تشريعا قانونيا أو مرسوما رئاسيا، ولا على
حالة قهر مفروضة سواء حملت اسم طوارئ مزمنة أو حملت اسم مرسوم عفو رئاسي.. ما دام
جميع ذلك قائما على تصوّر منحرف لممارسة السلطة باحتكارها، وعلى عدم التفريط
بالمنافع الذاتية، غير المشروعة بمختلف المعايير المعتبرة في حياة البشر.
الثورة تحتّمها القواسم المشتركة استبدادا وفسادا وجيلا واعيا
من الشبيبة القادرة على التغيير، وتحدّد مسارها وبعضَ معالمها التفصيلية خصوصياتُ
الثورة نفسها، المتلائمة مع خصوصياتٍ جزئيةٍ في كل بلد على حدة.
الكرامة.. كانت كلمة السرّ الأولى في تحوّل ثورة تونس من شرارة
إلى بركان أحرق المستبدين والفاسدين، والكرامة مع الإرادة الشعبية كانتا في مقدمة
ما حوّل ثورة مصر من شرارة إلى طوفان أغرق المستبدين والفاسدين، ولكل ثورة أخرى
شرارتها وامتدادها، والعنصر الثابت الحاسم فيها جميعا أنّ اندلاع كل ثورة منها كان
ينطوي على خصائص ذاتية وسجّل من الشرارة الأولى حتمية الوصول إلى الغاية المرسومة،
حتى وإن تحوّل مجرى الثورة اضطراريا إلى مقاومة مسلّحة -بدلا من مقاومة سلمية- ضدّ
جرائم استبداد دموي فاجر كما في ليبيا، أو إن تواصلت وتنامت كما اندلعت ثورةً سلمية
جماهيرية شاملة لكل فئات الشعب دون استثناء، كما في اليمن حيث وجدت -رغم ذلك-
تنكّرا دوليا وعربيا.. مثلما وجد ثوّار شعب ليبيا تواطؤا دوليا وخذلانا عربيا.
وليست سورية مختلفة عن سواها من حيث الاستبداد والفساد سببا
للثورة، وإن اختلفت –كسواها- بخصائص طريق الثورة فيها.
لقد كان ممّا يلفت النظر في هتافات المتظاهرين في سوق الحميدية
مرة بعد أخرى ذلك الهتاف باللهجة المحلية: "الشعب السوري ما بينذلّ" عنوانا للثورة
على الاستبداد و"حرامية حرامية" عنوانا للثورة على الفساد.. وكلا العنوانين يثبّت
للثائرين عنواني العدل والكرامة.
وكما شهد ميدان التحرير في القاهرة صلوات المسلمين والمسيحيين
جنبا إلى جنب فأسقط الشعب في ثورته ما زرعه الحكم الاستبدادي الفاسد من فتنة دينية،
وكما شهدت مدن العراق ما أسقط به الشعب في إرهاصات ثورته الأولى ما زرعه الاحتلال
وأعوانه من فتن دامية، وكما شهدت ليبيا واليمن انصهار ما كان يجري ترسيخه من "فتن
قبلية" في بوتقة الثورة الشعبية الجامعة.. كذلك شهدت مظاهرة الحميدية في دمشق
–ومظاهرات في مدن أخرى- تلاقي الفئات الشعبية من شباب سورية، ما أسقط الشعب به عبر
إرهاصات ثورته الأولى ما زرعه الحكم الاستبدادي الفاسد في سورية من فتنة طائفية.
لقد أعلن شباب الشعب السوري في الشرارة الأولى لثورته ما سبق أن
أعلنه العقلاء مرارا من قبل، أنّ الاستبداد الفاسد مرفوض جملة وتفصيلا سواء لبس
لباس العسكر أو الطائفة أو الحزب، وليس المرفوض هو الجيش ولا طائفة أو فئة بعينها
من الطوائف والفئات السورية ولا حتى الأحزاب والاتجاهات المتعدّدة أيا كانت.
ثورة شعب سورية ثورة على الاستبداد الذي يستغل "فريقا" من طائفة
العلويين مثلما يوظف "فريقا" من طوائف أخرى، وليس على طائفة من الطوائف أو فئة من
الفئات أو حزب من الأحزاب أو اتجاه من الاتجاهات.
ثورة شعب سورية ثورة على الفساد والفاسدين، وليست ثورة تحرق
الأخضر واليابس، والنافع والضار، والصالح والطالح.
ثورة شعب سورية ثورة سلمية ضدّ الاستبداد المسلّح، ثورة نقية
ضدّ الفساد المنحرف، ثورة عقلانية ضدّ الانتهازية والمحسوبية والاستغلال والقمع..
وجميع ذلك وما يشابهه من ممارسات هو ممّا يدوس على العقلانية بالأقدام، مهما بلغت
القدرة على تنميق الكلمات والخطب والتصريحات، الفارغة من المضمون على أرض الواقع،
والقدرة على إخراج الإجراءات والممارسات السياسية والاقتصادية بمسحة "إصلاح" مزعوم،
دون المساس بجذور الاستبداد والفساد وموبقاتهما.
إنّ المستوى العالي من الوعي والبصيرة لدى شباب سورية، فيما
يدعون إليه وما يمارسونه، يؤكّد أن الثورة أصبحت حتمية، وأنّ تحقيق غايتها أصبح
حتميا، وأنّ من المستحيل الالتفاف على مسارها بعبارة من قبيل "الإصلاح يأتي في
سورية من داخل النظام وليس بخرق النظام"، كما ورد على لسان وزير الخارجية السوري
مؤخرا، إنّما يمكن استباق الثورة إذا استوعب "النظام" حقيقةَ أنّه لم يكن مقبولا من
قبل، ولم يعد قادرا على البقاء الآن، بسبب الاستبداد والفساد.. أولا وأخيرا، فليخرج
من جلده، كي يثور على نفسه، ويتخلّى عن استبداده وفساد، من الجذور، ولا يتحقق ذلك،
دون إلغاء جميع مظاهر ممارسة الاستبداد والفساد.. دون إطلاق سراح سورية نفسها، وطنا
وشعبا وحاضرا ومستقبلا.. بدءا بإطلاق سراح جميع مَن صودرت حرياتهم وانتهكت كرامتهم
من أهل سورية، دون وجه حقّ بأي معيار قويم.. مرورا بالانفتاح على جميع القوى
والفئات من جميع الاتجاهات في سورية انفتاحا يشمل استرجاعها لحقها المشترك الأصيل
في تقرير مستقبل سورية وشعبها بنفسها، بما يشمل دستورا جديدا، وقضاء مستقلا حرا
نزيها سيدّا لنفسه، ومؤسسات تشريعية وتنفيذية جديدة.. انتهاءً بإيجاد بنية هيكلية
جديدة للدولة، خالية من احتكار حزبي أو فردي للسلطة، ومن أي تغوّل على القضاء
والقانون والقيم والمبادئ، وخالية من أي شكل من أشكال الفساد.
إن فعل النظام الحاكم ذلك –على سبيل الافتراض- أصبح الحاكمون
الآن جزءا من الثورة، وإن لم يفعل فسيكونون قريبا هم الخاسرين في ثورة شعبية، ماضية
إلى التغيير الجذري الشامل بإذن الله، وإن عظمت التضحيات، فمهما عظمت لن تتجاوز
بحجمها ما كان من ضحايا الاستبداد والفساد على امتداد جيلين من عمر سورية وشعبها.