انهيار مؤسسة البلطجية

صلاح حميدة

[email protected]

من كان يجرؤ على النّظر إلى مقرّات ما كان يطلق عليه " أمن الدّولة" في مصر؟ ومن كان يجرؤ على انتقاد أو عدم تملّق مخبر صغير من هذا الجهاز؟ فهذ الجهاز كان يتحكّم في كل شيء في مصر، بل كان بإمكان ضابط صغير من هذا الجهاز إهانة أكبر ضابط في الجيش والشّرطة، وكان يتحكّم في تعيين الوزراء والمدراء والمسؤولين ورؤساء الجامعات، وكان هو الحاكم الفعلي هناك.

صبر المصريون كثيراً على ما ألحقه هذا الجهاز بهم من أذى، فهو جهاز يهتم بالأمن الدّاخلي في مصر على وجه التّحديد – أو هكذا المفروض بدوره أن يكون- ولكن تبعاً لما جرى ويجري حالياً من ثورة واقتحامات لمقرّات هذا الجهاز من جموع الشّعب المصري، فمن الواضح أن هذا الجهاز انحرف عن المهمّة المنوطة به، وانتقل ليكون جهازاً لأمن حسني مبارك، وحزب التّوريث، والفساد الاقتصادي والسّياسي والاجتماعي والأمني المحيط به، ولذلك اعتبر المصريون أنّ مهمّة ثورتهم لم تنتهي بسقوط مبارك وشفيق، بل وجب عليهم تحطيم المؤسسة الحقيقية التي كان يستخدمها مبارك لقمعهم.

لا شك أنّ قمع هذا الجهاز للمصريين وتدخّله وتحكّمه بكل تفاصيل حياتهم، شكّل الفتيل الذي أشعل الثّورة ضد النّظام المصري، فهذا الجهاز ترك العمل الحقيقي له، وانتقل للعمل لصالح نخبة فاسدة مفسدة، وبدأ يتعامل مع المعارضين السّياسيين للنّظام المصري على أنّهم الأعداء الحقيقيين، بينما اعتبر أنّ أعداء الشّعب المصري الطّبيعيين في الدّاخل والخارج هم الحلفاء له، والّذين يتوجّب عليه عقد التّحالفات معهم، هذه " العقيدة الأمنية" المنحرفة لهذا الجهاز، جعلته في حالة عداء مع كافّة قطاعات الشّعب المصري، فالحرب على المخالفين السّياسيين لا تنتهي بإقصائهم عن النّشاط السّياسي واعتقالهم وملاحقتهم ومنع توظيفهم والتّضييق على موارد رزقهم وشن حملات تشويه إعلامية منظّمة لهم، واستنزافهم من خلال الملاحقة الأمنية الدّائمة ودفعهم للإنزواء والهرب والهجرة، أو للعمل وفق السّقف التي يسمح بها هذا الجهاز. فطاحونة الفساد التي يرعاها " أمن الدّولة" كانت تطحن كل من يقف في وجه أجنحتها في كافّة مفاصل المجتمع، ودخلت حتى غرف نوم المواطن البسيط، وكشفت أستار البيوت وابتزّت النّاس في أعراضها وأموالها، وبالتّالي أصبح النّظام وراعيه الأمني في حالة عداء مع كافة القطاعات المجتمعية المصرية

في منتصف هذه الطّريق تبدأ نهاية النّظام و جهاز أمنه، فالإقصاء والاستنزاف للمعارضين السياسيين يفتح الباب للمنتفعين والدّجالين والفاسدين، ويستقر هؤلاء في كافّة مفاصل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، وبالتّالي تتم مأسسة الفساد برعاية أمنية، فيفسد القضاء، فكل قاضي أو وكيل نيابة أو مدعي عام أو حتى موظف عادي أصبح يحسب حساب معارضة السّياسات العامّة التي يرعاها جهاز "أمن الدّولة" وبالتّالي تمّ تجيير جزء مهم من القضاء والنّيابة لخدمة الحزب الحاكم ضد معارضيه ومنافسيه، وأصبح بالإمكان سجن أياً كان لشهور ولسنوات بلا أي مسوّغ قانوني، وكل هذا يخضع لمزاجيّة ضابط ما في "أمن الدّولة" فرغبة ضابط ما – أو تقرير كيدي من مخبر- بسجن فلان أو "بهدلة" علان. و أصبحت كرامة المصري ممتهنة من أصغر مخبر حتى أكبر ضابط، وعادت ثقافة "الباشا" و " السّادة والعبيد" الى الشّارع المصري، بعد أن كان هناك من اعتقد أنّها انتهت بعد انقلاب الضّباط الأحرار قبل أكثر من نصف قرن، و بالتالي أصبح الغير قانوني قانوني، وانتشر الفساد بعدها كالنّار في الهشيم

قاد هذا الجهاز أكبر عمليّة تزوير للانتخابات المحلّية والتشريعية المصرية، واستخدم في سبيل ذلك جموع كبيرة من الزّعران " البلطجية" والمجرمين والحشّاشين، فقد شكّل الحاضنة الحقيقية للمجرمين – كبارهم وصغارهم- في مصر، وهذا السّلوك ل" مؤسسة البلطجية" أشاع حالة من عدم الأمان في مصر، بل أعطى العالم السّفلي في مصر شرعية وأماناً لم يحلم بها أي مافيا وعصابات إجرام في العالم، فاللصوص والمجرمين يتم حمايتهم وقيادتهم واستخدامهم من أقوى جهاز أمني في الدّولة، هذا الجهاز الذي يفترض به حماية الأمن الدّاخلي وحماية المواطن العادي. هذا السّلوك هو الذي شكّل الدّافع الرّئيس للمواطنين لأخذ زمام المبادرة وتحطيم حاضنة الفساد والبلطجة في مصر، وحماية أنفسهم بأنفسهم من خلال ثورة الشّعب المصري، والتي كانت أهم مفاصلها "معركة الجمل" التي خاضها الشعب المصري في مواجهة "مؤسسة البلطجيّة" على الهواء مباشرةً.

وفي المجال الاقتصادي، حدّث ولا حرج، فقد تم تمليك شركات وأراضي الدّولة والوكالات التّجارية وغيرها لمجموعة من اللصوص الكبار، ومن حولهم مجموعة أخرى من اللصوص الصّغار، وكل هذا كان برعاية " أمن الدّولة" فبعض الأراضي كانت تمنح لهذا وذاك من أبناء الرّيس والمحيطين به بأوامر أمنيّة مباشرة. وتراجع دخل المواطن المصري، فيما انفجر الفاسدون من الكمّ الهائل من الأموال التي سرقوها، وأصبح المواطن رهينة للصوص كبار زاحموه في لقمة عيشه اليومية، حتى وصلت الأمور إلى مرحلة لا يمكن التّغاضي عنها، وحدث الانفجار.

تضخّم هذا الجهاز على حساب كافّة قطاعات الدّولة الأخرى، وتحلل من أيّ قيود قانونية تحكم سلوكياته، جعله في حالة عداء مع مكونات الدّولة التي كانت محصّنة من اختراقاته، كالجيش الذي تراجع دوره في المعادلة الدّاخلية المصرية، هذا التّضخّم ل"أمن الدّولة" على حساب الدّور التاريخي للجيش المصري، دفع الجيش للوقوف في موقف المتفرّج -في البداية- على ما كان يجري في مصر خلال الثّورة، بل قام برعايتها وفعالياتها فيما بعد، ومن الواضح أنّه مرتاح للخطوات الشّعبية التي تحطّم هذا الجهاز وتلاحقه، وهو وإن كان يبدي حياداً ظاهراً في هذه المواجهة، إلا أنّ اقتحام وتحطيم وإحراق المقرّات، والمطالبة بمحاكمة ضباط هذا الجهاز وحلّه نهائياً، تروق للجيش وتحقق ما يريده بأيدي الجماهير.

اقتحام مقرات " أمن الدّولة" كشفت عن المستور، المعلوم لدى الكثيرين، ولكنّه أصبح موثّقاً بالملفّات والصّوت والصّورة، فإتلاف الكثير من الملفّات في تلك المقرّات لم يحل بين الكشف عن بعض ما كان يقوم به هذا الجهاز من ممارسات لا يمكن وصفها إلا بأنّها أفعال مافيا، وأفعال ترتقي لتكون " خيانة عظمى" بحق مصر والعرب على حد سواء.

فقد سارعت الولايات المتّحدة للطلب من الجيش المصري لمنع نشر الملفات التي حصل عليها النّاس من المقرّات المقتحمة، وحسب المصادر الصّحفية التي نشرت الموضوع، فالأمريكيون مرتعبون من نشر ما كان يجري في الخفاء بين هذا الجهاز والمخابرات الاسرائيلية من "تنسيق أمني" حسب المصادر الصحفية المتعدّدة

هذا " التّنسيق الأمني" بين الجانبين كان يتلخّص في التّنسيق والمشاركة في الحرب وتشديد الحصار على المقاومة الفلسطينية، وتنسيق الحرب الاعلامية عليها، وكشف ومحاربة طرق تسليحها وتمويلها، والتّحقيق مع رجالها وجرحاها، وقتل بعضهم تحت التّعذيب، بل تجاوز ذلك لمحاولات معرفة كمّيات ونوعيات سلاحها وأماكن تخزينه، وتفاصيل كاملة عن قياداتها في الدّاخل والخارج وكل تفاصيل تحرّكاتهم وحياتهم الخاصة والعامة، بل كان هذا الجهاز يستميت لمعرفة مكان الجندي الاسرائيلي الأسير في قطاع غزة خدمة لإسرائيل التي عجزت عن ذلك، وشهادات الكثير من رجال المقاومة الفلسطينية الذين اعتقلهم هذا الجهاز تثبت ما كشفته الوثائق.

بل وصلت الأمور إلى إنشاء وحدة في الجهاز تسمّى وحدة " مناهضة مناهضي الصّهيونية" ؟! وهذا أعجب شيء سمعته ورأيته عن هذا الجهاز، فهذه المهمّة وهذه الوحدة من المقبول رؤيتها والسّماع عنها في جهاز المخابرات الاسرائيلية فقط، أمّا أن تكون هذه الوحدة الفاعلة والنّشطة في جهاز أمن عربي، فهذا غاية في الغرابة والعجب والاستهجان! ومثار للتساؤل؟ وهذا يعطي صورة واضحة عن درجة الخوف والقلق التي تعتري الأمريكان والاسرائيليين من انكشاف الخيانة التي تصل حد الاعتقاد بالصّهيونية من قبل ضباط هذا الجهاز، فما كشف أقل بكثير من الموجود.

المطالبة بحل هذا الجهاز فيها الكثير من الوجاهة، ولكن لا بد من محاكمة الكثير من ضباط هذا الجهاز ، بعد التحقيق معهم، ولا بد من إنشاء جهاز أمن داخلي جديد يحكمه القانون وعقيدة أمنية سليمة، متصالحة مع شعبها وأمّتها، ولا تعادي إلا الأعداء الخارجيين الحقيقيين لهذه الأمّة، ويجب الانتباه إلى محاولات تغيير الواجهة الخارجية للجهاز، وإبقائه على حاله، فجهاز مثل هذا لا يمكن إصلاحه وهو بوضعه وبعناصره الحالية، كما يجب الانتباه إلى أنّ ما تمّ إحراقه من ملفات لها أصول مؤرشفة ورقية وأخرى على الحاسوب، وبالتّالي لم تضيع المعلومات التي أحرقت، بل هي موجودة ويجب أن يكون التحقيق في تفاصيلها من أولى أولويات الحكومة الحالية، كما يجب الانتباه إلى نوعية الوثائق التي وقعت، والتي ربّما وضعت لتقع بيد الجمهور، فقد يكون هناك من لفّق ملفّات لتشويه أشخاص وقيادات بعينها بتهمة التّخابر مع الجهاز، فضبّاط هذا الجهاز متمرّسون في هذه الأفعال، ولا يمكن التّعامل بسذاجة وسطحية مع هذه الملفّات.

من الواضح أنّ ما كشف عن تفاصيل عمل وجرائم هذا الجهاز، ما هو إلا أقل القليل، فالكثير لا زال مخفياً عن عين العدالة الثّورية – الشّعبية، فالعمل الكثير لا يزال أمام الثّوار في تسريع انهيار ما كان يطلق عليه " أمن الدّولة" ولم يكن إلا "مؤسسة للبلطجية" والجاسوسية والفساد بكافّة أنواعه.