خليهم يتسلوا
حسام مقلد *
كان تزوير انتخابات مجلس الشعب المصري الأخيرة (2010م) تزويرًا صارخًا تم بشكل فاضح ومهين للغاية لمكانة مصر وسمعتها، ولمشاعر ملايين المصريين، وانتهت هذه المهزلة أو الفضيحة السياسية والأخلاقية بتشكيل مجلس الشعب المزور رغمًا عن إرادة أغلبية المصريين الساحقة، وبدلا من أن يقف الرئيس المخلوع مبارك ـ أقولها آسفاً إذ كان من الأشرف والأكرم له أن ينال لقب الرئيس السابق وهذا ما كنا نتمناه ليختم حياته بشكلٍ مشرف ـ بدلا من أن يقف مع الحق وينحاز لجماهير الشعب، أو على الأقل يقف محايدا وعلى مسافة واحدة من أبناء شعبه وجدناه يقف مزهوًا منتشيًا كالطاووس، ولسان حاله يشكر أحمد عز وصفوت الشريف ومفيد شهاب وغيرهم على الفضيحة التي تمت لصالح الحزب الوطني تمهيداً لفضيحة أخرى كان يخطط لها بعد أشهر، يتم خلالها تزوير انتخابات الرئاسة القادمة لتنتهي عاجلا أو آجلا بتتويج جمال مبارك فرعونا جديدا لمصر، وفي خطابه أمام مجلسي الشعب والشورى شنَّف الرئيس المخلوع آذان شعبه بالحديث عن حرصه على الديمقراطية ونزاهة الانتخابات وحياد رجال الأمن فيها!! ونزَّه حزبه المسمى زورا وبهتانا بالحزب الوطني عن كل عيب، وألقى التهمة على الآخرين، وأنحى باللائمة على أحزاب المعارضة العليلة الكليلة التي لم تستطع إقناع رجل الشارع!! ولذرِّ الرماد في العيون اعترف مبارك ببعض الشوائب البسيطة التي وقعت أثناء العملية الانتخابية، وراح يؤكد على سلامة وقانونية مجلس الشعب المزور، رغم أن العالم شاهد التزوير العلني صوتا وصورة، والمصريون جميعا يعرفون جيدا دور عصابات البلطجية في تزوير الانتخابات بإشراف مباشر من رجال الشرطة وقادة الحزب الوطني الفاسد، وفي تعليقه على إنشاء مجلس الشعب الموازي الذي شكلته أحزاب المعارضة قال مبارك بكل عنجهية وبكل صلف وغرور: "خليهم يتسلوا"!!
لم يَدُرْ بخلد مبارك أن التسلية ستكون عالمية وليست مصرية وحسب، فضلا عن أن تظل على مستوى أحزاب المعارضة فقط!! فعلى مدى نحو ثلاثة أسابيع والعالم كله كان يتسلًّى بالصوت والصورة وعلى مدار الساعة في كل الفضائيات وعبر جميع الإذاعات ومحطات التلفزة والصحف والمجلات ووكالات الأنباء العالمية، ظل العالم يتابع هتافات ملايين المصريين من كل الأعمار ومن مختلف الشرائح الاجتماعية يرددون بصوت واحد زلزل أرجاء الكون "الشعب يريد إسقاط النظام" لقد كانت تسلية حية على الهواء مباشرة صوتا وصورة، تسلية شدت أنظار مئات الملايين وربما المليارات من البشر على امتداد المعمورة كلها، الكل يتابع ويشاهد ويترقب ما يحدث في مصر الحضارة والتاريخ!!
وكانت مصر بفضل الله تعالى على مستوى شعبها الواعي وشبابها الأوفياء البررة أم الدنيا حقًا كانت كبيرة شامخة ومنارة للتحضر والرقي، لكنها بكل أسف كانت على مستوى رئيسها وكحومته ونظامه الفاسد مثلا بائسا وتعيسا للهمجية والتخلف، ولن ينسى العالم هجوم الحزب الوطني الفاسد وبلطجيته وفلول جهازه الأمني على الشعب الأعزل بالخيل والجمال والحجارة والحصى وزجاجات المولوتوف، لن ينسى العالم حالة الفوضى والذعر والهلع التي حاول مبارك وزبانية نظامه إشاعتها بين الناس وبث الفزع والخوف في قلوب المواطنين لتخييرهم بين الفوضى والاضطراب وبين الاستقرار مع المذلة والهوان!! لكن الشعب كان متمتعًا بأقصى درجات الوعي واختار العيش بعزة وكرامة، وأحبط مؤامرة النظام التي كانت تهدف إلى إثارة الفتن، وإضرام نيران الفوضى؛ ليصرخ الناس مستغيثين بمبارك وحكمته!!
وبلغت التسلية التراجيدية ذروتها حين رأى العالم فرعون مصر يزدري على مدى أسابيع ملايين الناس من شعبه وكأنهم حشرات حقيرة أو هوام تافهة تَطِنُّ بجوار أذنيه فلا يلبث أن يطردها بحركة من يده، وإن عادت لإزعاجه فسوف يبيدها كلها برشة واحدة من أجهزته القمعية!!
كان العالم أجمع يتسلَّى ويتابع فضيحة مبارك ونظامه الفاسد لحظة بلحظة عبر شاشات الفضائيات العالمية المختلفة وفي مقدمتها الجزيرة و(البي بي سي) وغيرهما، وأغلب شعوب العالم كانت متعاطفة جدا مع الشعب المصري المتحضر الراقي الذي يعبر عن رأيه بكل رقي وبطريقة سلمية تماما، بينما رئيسه الذي تكرهه الملايين يشن عليهم هجوما عنيفا وحربا نفسية وإعلامية مضللة، وراح يرهب هؤلاء العزَّل الأبرياء بكل الوسائل: من إطلاقٍ للرصاص الحي عليهم، إلى قذفهم بزجاجات المولوتوف، وسحق ودهس العشرات منهم في الشوارع بواسطة السيارات، وأخيرا الهجوم عليهم بالجمال والخيول وضربهم بالعصي ورميهم بالحجارة!!
إن هتافات الجماهير الهادرة، وزفرات الناس وأناتهم المتوجعة، وصرخاتهم الصادقة ومطالبهم العادلة، وكلامهم الصريح، وتعليقاتهم الحاسمة، كل ذلك أظهر بوضوح شديد مدى اشتياق هذا الشعب الصبور للحرية، ورغبته العارمة في إحداث تغيير جذري وحقيقي في نظامه السياسي الغاشم الفاسد الذي ظل جاثما على صدره عقودا طويلة مارس خلالها كل فنون البطش والظلم وكل أنواع الفساد والإفساد، وبرع في ممارسة لعبة التضليل والخداع، بنفس الوجوه الحجرية الكئيبة التي لا تمل الكذب، ولا تسأم الغش والتزوير، وتجيد اللعب على كل الحبال.
لقد كان حريا بمبارك لو كان يحب شعبه حقا، أو لو كان كما زعم زبانيته دائما من الزعماء الحكماء ذوي البصائر ـ كان حريا به أن ينصف المواطنين، ويستمع لمطالب الناس، ويدرك أن أغلبية شعبه الساحقة من المطحونين المسحوقين الذين يجدون قوت يومهم بالكاد، بل إن شرائح متزايدة من هذا الشعب الأبي أصبحت لا تجد القوت الضروري الذي يسد رمقها ويُسْكِت جوعها!! كان عليه لو كان حكيما حقا ويحب شعبه ويخاف عليه ألا يستمع لجوقة الكذابين الضالين المضلين الذين أحاط بهم نفسه، ويعلم أنهم بعيدون جدا عن الناس، ويعزلون أنفسهم في قصورهم المترفة وسياراتهم الفارهة وطائراتهم الخاصة ويُخُوتِهم العائمة، ويتمرغون في خيرات البلد ونعيمها، وأنهم قلة قليلة من الإقطاعيين الجدد الذين ماتت ضمائرهم ولا تعرف قلوبهم رحمة ولا شفقة!!
لقد بُحَّ صوتُ الشرفاء وهم يستجيرون بمبارك ويستصرخونه ويستنجدون به بأعلى صوتهم كي يصلح الأحوال، ويستجيب لمطالب جموع شعبه، ويضع الأمور في نصابها الصحيح، ويكبح جماح شياطين الفساد الذين يستشري شرهم في كل أوصال المجتمع المصري، وينخرون في جسد الوطن ويهددون أمنه القومي بشكل صريح واضح، لكن مبارك أصم أذنيه وأصر واستكبر استكبارا، ورفض الاستجابة لهؤلاء الناصحين، ورد كلامهم، وأنكر وجودهم، واعتبر الإسلاميين منهم أشد عداءً على مصر من بني صهيون!!
لقد أضعف مبارك مصر العريقة كثيرا، وقزَّم دورها، ولم يشأ أن يبنيها بناء قويًا على أسس متينة ثم يتقاعد برغبته مثلما فعل (مهاتير محمد) رئيس وزراء ماليزيا الأسبق، ووالله لو فعل ذلك برغبته، وعن طيب نفس منه وقبل فوات الأوان، لسامحه المصريون جميعا، ولوضعوا اسمه في سجل الزعماء التاريخيين!! لكنه فضَّل بدلا من ذلك أن يُقْرَن عند الناس بشاوشيسكو ديكتاتور رومانيا، وفرديناند ماركوس ديكتاتور الفيليبين، وزين العابدين بن علي ديكتاتور تونس، وغيرهم من فراعنة كل الأعصار والأمصار، وأبت نفسه أن ينزل عند رغبة شعبه سريعا، وآثر أن يتسلى العالم بأسره بمسلسل فضائحه على مدى نحو ثلاثة أسابيع ليرحل بعدها حسيرا مهينا، وليضع نفسه في أسوأ صفحات التاريخ!!
الغريب حقا هو عناد مبارك الشديد وإصراره على حدوث هذه الفضيحة العالمية له، وتسلِّي الناس بمشاهدتها في شتى أنحاء العالم؛ فلم يرحل بهدوء مكتفيا هو ونظامه الفاسد بثلاثين عاما من الفقر والبؤس والحرمان والقهر والبطش والإذلال لهذا الشعب المسكين!! لكنه أبى إلا أن يتسلَّى المصريون ويتسلَّى معهم العالم!! وصدق الله العظيم القائل: "وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ" [الأعراف : 183]، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"، ثم قرأ قول الله تعالى"وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة"الآية (متفق عليه)..."وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [يوسف : 21].
* كاتب إسلامي مصري