ما لم يقله مبارك في خطاباته

ما لم يقله مبارك في خطاباته!!

حسام مقلد *

hmaq_71@hotmail.com

لا أحد من كبار الخبراء والمحللين السياسيين يفهم سر تشبث الرئيس مبارك ونظامه بالسلطة إلى هذا الحد!! ويتساءل الجميع لِمَ لا يرحل الآن وينتهي نظامه في هدوء؛ كي تعود ملايين الثائرين إلى منازلها، ويتم انتقال سلس وسلمي للسلطة، وتتولى مجموعة جديدة من رجالات مصر المخلصين ـ وهم كُثُر ـ تنفيذ الإجراءات الدستورية المعروفة في مثل هذه الحال مع ضمان الجيش لاستقرار الأوضاع وحماية الوطن؟!! وما قيمة أن يستمر مبارك في السلطة رئيسا شرفيا ـ بعد تخليه عن صلاحياته ـ لعدة أشهر أخرى رغم المخاوف الجمة من حدوث مواجهات وانقسامات خطيرة وخسائر فادحة في الاقتصاد المصري جراء هذا الوضع؟!

والملفت فعلا هو هذا الانفصال التام لمبارك ونظامه عن نبض الشعب المصري الذي أكدته بكل وضوح هتافات ملايين الثائرين على مدى ثمانية عشر يوما متواصلة حتى كتابة هذه السطور، فمنذ بدأ الشعب المصري ثورته المباركة على الظلم والطغيان، ومطالب ملايين المصريين تحت سمع وبصر العالم أجمع تهتف هادرة برحيل نظام مبارك الذي جثم على صدورها طوال ثلاثين عاما، لم يحقق خلالها أي تقدم يذكر، ولم ينجز أية نهضة حقيقية تتناسب مع إمكانيات مصر الكثيرة وما تمتلكه من كفاءات علمية وقدرات عقلية وثروة بشرية هائلة، فبدلا من الاستجابة لمطالب الجماهير توالت خطابات الرئيس مبارك المخيبة للآمال لجموع المواطنين الذين يطالبون برحيله ورحيل نظامه لتخطو مصر خطوات جادة نحو الحرية والازدهار والتقدم، ومن يحلل محتوى أو مضمون كل هذه الخطابات يدرك بوضوح شديد لا لبس فيه أنه لا توجد أية نية صادقة لدى مبارك ونظامه لإحداث أي إصلاح حقيقي في مصر فكلها وعود فضفاضة وكلام مرسل وكلمات باهتة لا مصداقية لقائليها؛ لأنه سبق وسمعها الشعب منهم عشرات المرات دون أن ينفذ أي شيء منها، ولا جديد في كل هذه الوعود فلم تتخذ أية قرارات حاسمة لإلغاء الطوارئ وحل مجلسي الشعب والشورى اللذين جاء أعضاؤهما بالتزوير وعلى غير إرادة الجماهير، ولا يوجد ثمة مؤشرات جادة عن أي قبول حقيقي لمبدأ تداول السلطة، وكل من يتأمل خطابات مبارك يجد أنه لا يرى إلا نفسه، ولا يهمه سوى ذاته، ولا يعترف إلا بنظامه، فمجمل كلامه عن  دوره في خدمة مصر وغير ذلك من الاسطوانة المشروخة التي لم تعد تقنع أحدا، وكان حريا بالرئيس مبارك لو كان فعلا يحب مصر ويخشى عليها من الفوضى والاضطرابات أن يبادر بإعلان تنحيه وزوال نظامه وحدوث انتقال فوري للسلطة بصورة آمنة تلبي طموحات وتطلعات الشعب، لكن بكل أسف خلت خطاباته من الإشارة  إلى مظالم الشعب المصري وقضاياه الحقيقية التي ثار الشعب من أجلها، ولعلي أجمل  بعضها هنا فيما يلي:

1.    لم يتحدث مبارك عن أية خطوات عملية حقيقية لتحقيق التنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

2.    لم يتحدث مبارك عن تحسين الظروف المعيشية لملايين المسحوقين والفقراء، ولم يتكلم عن محاربة الفقر في المجتمع، وانتشال أكثر من 40% من الشعب المصري يعيشون تحت خط الفقر من بين أنيابه ومخالبه!!ولم يبين كيف يمكنه إنجاز ذلك الهدف الآن بعد أن فشل هو ونظامه في تحقيقه على مدى ثلاثين سنة متواصلة في الحكم!!

3.    لم يتكلم مبارك عن ضرورة توفير الحياة الحرة الكريمة لكل أبناء شعبه بكل فئاته وشرائحه، وليس لطبقة طفيلية من المقربين والنافذين!!

4.    لم يتكلم عن ضرورة توزيع ثروات الدولة بشكل عادل على كل أبناء الشعب المصري، وعدم جعلها حكرا على حفنة من رجال الأعمال وأقطاب السلطة المتحكمين في مفاصل الدولة!!

5.    لم يتحدث مبارك عن محاربة الفساد والمحسوبية، ولا عن محاكمة جميع المرتشين الفاسدين الذين أهدروا المال العام، وجعلوا مصر وسية يوزعون خيراتها كما يشاؤون على زمرة المنتفعين والمحاسيب وبطانة السوء، وحرمان الشعب وملايين المسحوقين والمهمشين من خيرات بلادهم!!

6.    لم يتكلم عن الإفراج الفوري عن كافة المعتقلين السياسيين الذين زُجَّ بهم في سجون مبارك ظلما وعدوانا طوال الثلاثين سنة الماضية، وعددهم يربو عن ثلاثة وعشرين ألفا بحسب التقديرات الرسمية للمجلس القومي لحقوق الإنسان التابع للحكومة المصرية.

7.    لم ينبس فخامة الرئيس مبارك ببنت شفة عن مظالم الناس من انتهاكات جهاز الشرطة وجبابرة أمن الدولة، وهي مظالم خطيرة وكثيرة جدا وجرائم بشعة يشيب من هولها الولدان، فما أكثر قضايا التعذيب الوحشي وانتهاك حقوق الإنسان في مصر  كقضايا: عماد الكبير وخالد سعيد وسيد بلال... وغيرها الكثير والكثير من الفظائع التي تقشعر لها الأبدان، وهذه الجرائم  شهدتها الدنيا كلها اليوم وتعرف تفاصيلها بفضل وسائل الاتصال والتقنية الحديثة.

8.    لم يتكلم مبارك عن توفير الحريات العامة في المجتمع، ومحاكمة كل من روعوا المواطنين وانتهكوا هذه الحريات، ولم يذكر أي كلام عن تشكيل لجان مستقلة محايدة تحقق في شكاوى المواطنين، وكأنه يظن أن الناس يثقون في نظامه وسيوافقون على أن يكون هذا النظام الفاسد هو الخصم والحكم في نفس الوقت!!

9.    لم يتكلم مبارك عن خارطة طريق محددة للإصلاح الشامل:إصلاح التعليم والصحة والاقتصاد،... ومختلف المجالات في مصر، وهي تشهد حالة من التردي الشديد، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتناسب مع حجم مصر، ولا تلبي حاجة شعبها الحر الأبي العريق في الحرية والتقدم والازدهار. 

10.           لم يتناول الرئيس مبارك لا من قريب ولا من بعيد موضوع إيجاد دولة مدنية حقيقية بما تعنيه هذه الكلمة من مؤسسات حقيقية متكاملة ومنظومة حكم مدنية حديثة ترتبط بالسياسات أكثر مما ترتبط بالأشخاص، ويحدث فيها تداول حقيقي وسلمي للسلطة.

في الحقيقة إن كل ما تحدث فيه الرئيس مبارك هو ما لم يرد الشعب المصري سماعه!! فقد تحدث وزاد وأفاض وكرر وأعاد عن خدمته للشعب المصري حربا وسلما، وحاول التأكيد مرارا على أن زمام الأمور بيده وبيد نظامه فقط، وأن أي إصلاحات لا بد أن تأتي من هذا النظام، وأية ترتيبات لا بد أن تكون عن طريق النظام وتخرج من عباءته، كما نرى بوضوح كبير الإلحاح الشديد على أن مبارك ونظامه هو صمام الأمان لمصر وشعبها!! فكأن مصر هي مبارك ونظامه وليست نحو خمسة وثمانين مليونا من البشر من حقهم جميعا أن يحيوا حياة حرة كريمة تليق بهم وبكرامتهم الإنسانية وبما لهم من عمق ورصيد حضاري هائل!! لكنها سنة التدافع "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [يوسف : 21].

                

 * كاتب إسلامي مصري