في خضمّ الثورة المصرية

صلاح حميدة

[email protected]

"قالوا عنّا شعب جبان... الكل نازل في الميدان“..........هتاف يصرخ به رجال الثورة الشعبية المصرية بكل فخر واعتزاز بالذّات، وللحقيقة والتاريخ فقد فاجأت الثورة الشّعبية المصرية غالبية المراقبين والمتابعين، بل لا نبالغ إن قلنا أنّها فاجأت المصريين أنفسهم، بل أبهرت العالم أجمع، لدرجة جعلت دولة عظمى كالصّين تحجب كلمة ”مصر“ من محرك البحث“جوجل“ في الصين، خوفاً من تأثيرات هذه الثّورة على أحد أعرق الدكتاتوريات في العالم.

لا يختلف اثنان أنّ الأنظمة العربية الديكتاتورية ارتعبت من الزلزال التونسي، وظهر جلياً أنّ النّظام المصري قد درس التّجربة التّونسية بعناية فائقة، ليس لأجل تجاوز أسبابها والعبور بالمصريين لبر الأمان وإحداث التّغيير المنشود، بل لأجل الوصول لأسرع الطّرق للقضاء على ثورة الشعب المصري في حال اشتعالها، وثبت ذلك من خلال قطع الخدمة عن شبكة الانترنت وخدمة الرسائل النّصية وقطع الاتصالات وشل حركة المواصلات عبر القطارات، ولكن كل هذا لم يغن عن استخدام النّظام المصري لنفس أساليب النّظام التّونسي وهو في النّزع الأخير من انفلات أمني وسلب ونهب وقتل واختطاف وترويع وملاحقة للإعلاميين والحقوقيين والناشطين السياسيين، وكانت الحرب على الجزيرة الفضائية هي عنوان هذا الهجوم الذي لا زال متواصلاً حتى هذا التاريخ.

لا زالت الثورة المصرية متواصلة في ظل تجاهل من قبل الرئيس المصري للهتافات الجماهيرية المستهجنة لاستمراره في الحكم بالرغم من الكم الهائل من المصريين الذين خرجوا مطالبين برحيله، ويعبرون عن ذلك بصبغة مصرية واضحة، تستخف به وتحقّره، ولكن النظام لا زال يعمل بكافة الوسائل لإجهاض الثورة ولم يفرغ ما بجعبته بعد من الحيل والوسائل.

يعتبر السّلاح الاعلامي من أهم الوسائل التي يستخدمها النظام المصري هذه الأيام، ويلحظ تجنيدة للوسائل المرئية والمكتوبة والمسموعة في هذه الحرب، فهو يعتمد عليها في إضفاء صورة زائفة بأنّ الوضع في مصر هادىء ولا شيء في الميدان. ومن أطرف ما لاحظته في هذه الحرب الاعلامية استخدام النظام لوسيلة المتصلين الذين يتكلمون عن تأييدهم أو توبتهم عن ما فعلوا في الثورة واقتناعهم بما يعتبرون أنّه قد تحقق وأن الوقت حان للعودة للبيت وترك الشارع، ومن يدقق في كلام هؤلاء يلحظ أنّهم يقرأون الكلام عن ورقة، بالاضافة الى ترديدهم لجملة ” والله العظيم“ في كل مداخلة لما يزيد عن العشر مرات، وهذا يدلل على اقتناع المتكلم بأنّه يكذب، ولذلك يلجأ تلقائياً لحلف الأيمان بشكل كبير معتقداً أنّ هذا القسم سيعزز كلامه لدى السامع وسيؤتي أكله. ووصلت سفاهة وتفاهة هؤلاء باتهام الملايين الذين خرجوا في التظاهرات بأنّهم عملاء لإيران وحزب الله وحركة "حماس" وتجاوب معهم في ذلك رئيس حزب الوفد المصري بطريقة أثارت استخفاف الكثيرين.

يتّبع النّظام المصري طريقة خادعة للقوى المعارضة له، مستخدماً معهم ورقة ما يسمّى بالحوار، وقد جلب لهم أبرع رجالاته في المناورة والخداع وقلب الظهر وابتسامة الذئب التي تخفي خلفها طعنةّ نجلاء، وقد برع في هذا الدور في رعايته للحوار الفلسطيني لسنوات، وبالتالي فهو محترف في إدارة حوارات والاستماع لمطالبات وإيهام من يجلسون معه بأنّهم كادوا أو وصلوا للنّهاية وأخذوا ما يريدون، وفجأة تعود عقارب الحوار إلى نقطة الصّفر ويكتشف الجميع أنّهم ضحيّة خديعة كبيرة. والغريب أنّ بعض القوى المعارضة ركضت لطرح مطالبها أمامه أملاً منها بنيل بعض الانجازات المطلبية، في حين وجب عليه القدوم وتلقّي إملاءات الثورة والثوّار، بل إن بعض ” الحكماء“ والسياسيين يطالبون بتنحية مبارك ووضع مدير الحوار مكانه للإشراف على المرحلة الانتقالية، فهم هنا كمن يأتمن الذئب على الغنم، كما يقال، بل هناك من يعتبر أنّ سليمان أكثر خطرأ من مبارك ونجله على حد سواء، فهو الاستراتيجي المنفّذ للمقاولات الأمنية والسياسية للغرب والدولة العبرية في العالم العربي، بل تنسب له بعض المصادر الاعلامية أنّه مهندس اتفاقية بيع الغاز للشركة الاسرائيلية التي يمتلكها إثنين أحدهما "صديقه الحميم" رئيس الموساد السابق؟ . و تنسب له مصادر صحفيّة أخرى قوله لمسؤولين في المخابرات الأمريكية، بأنّه سيقطع يد شقيق أيمن الظواهري ويرسلها لهم، بعد أن طلبوا منه عيّنة من دمه لفحصها للتأكد من كون أحد الجثث المشوّهة تعود لأيمن الظواهري أم لا، وهذا يعكس نفسيّة الرّجل ومدى قابليته لتنفيذ كل ما يطلب منه أمريكياً بدموية شديدة. وما يدلل أيضاً على مراوغته وعدم صدق نيّته، تقديمه كلاماً عمومياً لمن قابلوه، ومطالبته لهم بمطلب واحد وهو السماح بعودة الأجهزة الأمنية القمعيّة للقيام بدورها، وهذا يؤكد ما ذهب إليه المفكر المصري محمد حسنين هيكل بأنّ كل ما يفكر فيه هذا النّظام هو ” الانتقام“ من الشّعب المصري فقط.

كما حدث في الثورة التونسية نراه في الثورة المصرية، فتجد أزلام النّظام ومنافقيه يتحولون فجأة ” لمناضلين“ وقادة ثورة، ويصبحون حريصين عليها من الاستغلال الخارجي والدّاخلي، وينصّبون أنفسهم قادةّ وناطقين باسمها، ويحذّرون من ”اختطافها“ من السياسيين والحركات؟!. وبوسائلهم السابقة يحاولون دق أسافين البغضاء والشّك بين هؤلاء جميعاً، بل يبالغون بالاتهامات بالعمالة للخارج وتلقي أموال ووجبات ومؤامرات ويسقطون كل ما فيهم على من يضحون بأرواحهم من أجل الحرية ومحاربة الظلم والفساد. بل يبدأون بتعداد نضالات الرّئيس ودوره في الحرب ضد إسرائيل، وهذا محل شك حسب الكثير من المؤرّخين، مع أنّ دوره في حماية إسرائيل والتحالف معها واضح وضوح الشمس، بل يعلن عنه هو نفسه، فهو هنا كالعاهرة التي تتباهى ببكارتها قبل ما يقارب الأربعة عقود، كما يقول أحد السياسيين المصريين. ولذلك فالثورة المصرية مطالبة من الكثيرين بالتنبّه لما لم تنجزه الثّورة التونسية من اقتلاع لكل جذور النّظام السابق، ولذلك فنحن نراهم الآن يقومون بثورات ويبذلون دماء جديدة للتخلص من بقايا النّظام التّونسي السابق التي تحاول العودة بقناع الثورة والثوّار.

يعرف المصريون بأنّهم أصحاب نكتة، وهي مرافقة لهم أينما حلّوا، وهي نكتة خفيفة الظل يحبها العرب في كل العالم العربي، ولعل أطرف ما جاء به النّظام المصري في خطابه السياسي المناهض للثورة الشعبية المطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية، قيامه باستخدام النّكتة، ولكنّها نكتة ثقيلة دم، وتعبّر عن غباء لمؤلّفها ومروّجها على حد سواء، فقد أصبح نظام مبارك هو المدافع عن مصر ضد التدخلات الاجنبية، وأصبح عدو أمريكا ومنافسيه عملاء لها؟! بل يلاحظ أنّ الامريكان والغربيين والاسرائيليين – وهم أكبر داعمي مبارك ومن معه – إنضموا إلى اللعبة، فزادوا من وتيرة التصريحات التي تطالبه بالتغيير ليعززوا خطابه هذا، معتقدين أنّ ذاكرة الشعوب قصيرة وستنسى أنّ هذا النّظام هو الركيزة الأساسية للسياسة الغربية في المنطقة، فقد نقل عن أحد المسؤولين العرب -المتأمركين - قبل سنوات قوله للأمريكان والاسرائيليين:- ” لا تكثروا من مدحي والترويج الاعلامي لي، بل عليكم بانتقادي ومدح أعدائي“.

يحاول النّظام ترويج فكرة عاطفية للشّعب المصري بحرصه على أن يغادر مبارك الحكم ب“كرامة“ بل بدأ بعض المنخدعين يرددونها، فما بال ”كرامة“ عشرات ملايين المصريين التي أهدرت عبر ثلاثين سنة في السّجون والشّوارع والمعابر ودول العالم أجمع؟ وما بال الكرامة الوطنية العربية التي أهدرها هذا النّظام في العالم أجمع؟.

فقد ظهر من خلال ما يردده المتظاهرون والسياسيون أنّ الشّعب المصري، صاحب الفخار الوطني الكبير، صاحب مصر ” أم الدنيا“ صاحب ” مصر الكنانة“ صاحب ” مصر العروبة“ يحس بمهانة شديدة منذ جاء هذا الرجل ومن معه إلى السلطة، وألحقوا مصر صانعة التاريخ بذيل الغرب والدولة العبرية، وأصبح النّظام المصري أداةً لهذه القوى في المنطقة، ولذلك ظهر جلياً حرص المصريين على إظهار هذا الفخار والرّغبة الأكيدة بلعب الدّور الحقيقي لمصر قلب العالم، وقائدة العرب، وليس مصر ذيل العالم.

كما تجسّدت الصّورة الحقيقية للمصري في هذه الثّورة، بل مسحت الصّورة القديمة التي ضلّل بها النّظام المصري العالم، بأنّ المصري ذليل ونشال وحشّاش وانتهازي ولا يهتم بهموم أمّته، فقد حمى المصريون بلجانهم الشّعبية الممتلكات الخاصّة والعامّة وقضى على اللصوص في يومين، بالرغم من إطلاق اللصوص والمجرمين في الشوارع وتبخّر كل أجهزة الأمن فجأة. كما تفاجأ المصريون أنفسهم بالصّورة النّاصعة لمجتمعهم التي غيّبت طويلاً – بل تمّ تشويهها- فالملايين يخرجون في مظاهرت لا يكسرون لوح زجاج ولا يتحرّش شاب بفتاة ويتسابق الشبّان لتسليم محافظ النقود والشّنط والهواتف المفقودة لأصحابها.

إن الإجرام والقتل والترويع وتجنيد صغار اللصوص و ” البلطجية“ من قبل كبار اللصوص أصحاب المليارات المسروقة - التي بدأت تفوح روائحها- أظهر الكثير من الوجه القبيح لهذا النّظام لمن كان يعرف، ولمن لم يكن يعرف، ولكن كيف يصل المصريون لما يريدون من الحرية والمشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية؟.

أعادت الثورة المصرية جماعة الإخوان المسلمين إلى الواجهة، فقد كانوا الفزّاعة التي يخوّف بها النّظام الغرب والدّاخل المصري، ولكن أظهرت الأزمة الحالية أنّ الاخوان هم الحركة الأكثر تنظيماً، بل لا نبالغ إن قلنا أنّهم في قلب الثورة، ولكن في نفس الوقت فهم يجمعون مع كافة القوى التي صنعت الثّورة على قضايا وطنية جامعة، ويعلنون أنّهم لا يريدون الاستئثار بالسلطة، بل يريدون ما يريده الشعب والقوى المصرية بتنوّعها، وهذا يعكس نضجاً واضحاً في التّفكير والممارسة، ويظهر غياب النّظرة الاقصائية من قبلهم تجاه غيرهم من المصريين، بل لا يريدون ترشيح مرشّح منهم للرئاسة في الانتخابات القادمة، كما تظهر مواقفهم وسلوكياتهم الحالية بأنّهم – بما يطرحون من حلول – وصلوا لمرحلة متقدّمة من النّضوج السّياسي، بل لا نبالغ إن قلنا أنّهم  يتقدّمون على الكثيرين في أطروحاتهم لحل الأزمة التي أوقع النظام الحالي المصريين بها.

على الصّعيد الفلسطيني، فالتّغيرات التي تحدث في مصر ستكون لصالح القضية الفلسطينية، ولا شك لدى أي فلسطيني أنّ زوال نظام سياسي متحالف مع إسرائيل وأمريكا سيكون بالتأكيد لصالح القضيّة الفلسطينية، وستسهم مصر الثّورة بشكل جدّي في التّحوّلات الكبرى التي تجري وستجري في المنطقة لخير شعوبها جمعاء.

النّظام في مصر مطالب بالكثير، فهو مطالب بإجراءات بناء ثقة تتعلق أولاً بفتح الاعلام على المعارضين، والسّماح بالتدفّق المعلوماتي الحرّ للمواطنين، ووقف كل الهجمات الإعلامية  ومحاولات التّشويه التي يقوم بها هذا الاعلام تجاه الثورة والثوّار.

كما أنّه مطالب بردّ الكرامة الوطنية للمصريين عبر رفع حالة الطّوارىء ومحاسبة ومحاكمة كل من قام بالاعتداء على أرواح وكرامة وأموال وأعراض المصريين، ويتجسّد هذا عبر حل البوليس السياسي ( أمن الدولة) الذي أذاق المصريين الويلات من العذاب و قتل الكثيرمنهم تحت التعذيب، بالاضافة الى ما ينسب له بأنّه من قام بتفجير كنيسة القدّيسين في الاسكندرية، ومحاولة إلصاق التّهمة بفصيل فلسطيني.

كما أنّ النّظام مطالب باحترام المصريين وتقديرهم، فكيف يعلن أنّه سيعوّض عائلة كل مصري قتل على يد أمن النّظام بمبلغ (3000) ثلاثة آلاف جنيه، بينما تم تعويض السائحة التي قتلت في شرم الشيخ بفك سمكة القرش بخمسين الف دولار (ما يقارب 60000جنيه)، فالأصل أن يكون المواطن أغلى من الأجنبي وليس العكس، كما أنّ من يقتل على يد أمن النظام يستحق تعويضاً أكبر بكثير ممن يقتل نتيجة حادث عرضي وهو يسبح في شرم الشيخ.

كل ما يطالب به الشّعب من تعديلات دستورية وحل للمجالس الشعبية والمحلية الناتجة عن انتخابات مزوّرة حسب الغالبية العظمى من المراقبين، كل هذا لا يحتاج لوقت كثير، بل من الممكن أن يتم خلال بضعة أيام، فقد كان المشرّعون التابعون للنظام يقومون بالتعديلات حسب الطلب خلال يوم أو يومين، فالمماطلة التي تتم تهدف فقط لكسب الوقت لإعادة التماسك للأجهزة القمعية المنهارة، وإعادة الكرّة والقضاء على الثورة الشعبية.

يتحدّث بعض من قابلوا نائب الرّئيس المصري عن ما وصفوه ب ” نواياه الحسنة“  فهل من يضيّق على المعتصمين في ميدان التّحرير، و يمنع الطّعام والشّراب والدّواء والأغطية والمدد البشري عنهم نستطيع وصفه بصاحب نوايا حسنة؟ وهل من يختطف  النّشطاء السياسيين والصّحافيين في الشّوارع و يعذّبهم ويهينهم ويهددهم صاحب نوايا حسنة؟.

يقف المصريون في منتصف طريق  ثورتهم اليوم، ويتسمّر مئات الملايين في العالم أجمع أمام أجهزة التلفاز والكمبيوتر لمتابعة ما يجري هناك، والغالبية من هؤلاء تتمنّى أن تصل الثورة المصرية إلى أهدافها بسرعة وبأقل الخسائر، فأيّ انتكاسة سيكون ثمنها " اغتيالات ومعسكرات اعتقال ومجازر" كما قال المفكّر العربي عزمي بشارة، وبالتّالي فهذا  يتطلّب ضغوطاً شعبية هائلة من قبل المصريين على هذا النّظام الذي يحاول المماطلة لكسب الوقت، ولذلك فالشعب المصري مطالب  بمفاجأة النّظام بتسريع عملية الزّحف على القاهرة من كل حدب وصوب بالملايين والخروج من حالة الاعتصام المحاصر بالدّبابات في ميدان التحرير، إلى حالة محاصرة النّظام من قبل الحشود الهادرة في كل شوارع وميادين القاهرة، واقتلاعه من جذوره، حتى يهيم رموزه  في طائراتهم بحثاً عن مأوى يستقبلهم.