الحكيم جورج حبش.. في ذكرى رحيله الثالثة
د. صلاح عودة الله- القدس المحتلة
"أنا مسيحي الديانة, إسلامي التربية, اشتراكي الفكر"..حكيم الثورة الفلسطينية وضميرها الدكتور جورج حبش.
صادفت هذه الأيام الذكرى الثالثة لرحيل قائد ومناضل فلسطيني عربي أممي قلما تنجب الأرحام مثله..انه الدكتور جورج حبش أحد أكبر مؤسسي حركة القوميين العرب التي شكلت نواة للعديد من الحركات القومية العربية، ولعبت دورا مؤثرا في تأجيج المشاعر الوطنية لدى الشعوب العربية, ومؤسس وزعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين..قائد وزعيم تاريخي تنازل عن منصبه طوعا ليقدم بذلك مثلا رائعا ومميزا لقادة وزعماء يحكمون من المهد إلى اللحد..غادر موقعه كأمين عام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بمحض إرادته لأنه آمن بالديمقراطية والتجديد، وأصر على ترك موقعه على رغم مطالبة رفاقه له بالبقاء..انه غادر موقعه ولم يغادر مواقفه ومبادئه وقناعاته، وبقي يقدم النصيحة والمشورة حتى آخر لحظة من حياته، وكانت وصيته التمسك بالمبادئ ومواصلة النضال والمقاومة وتحقيق الوحدة الوطنية كشرط للانتصار وتحرير فلسطين.
"لكل ثورة حكيم وحكيم ثورتنا هو الحكيم جورج حبش"..مقولة قالها الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات, وبدوره قال جورج حبش واصفا أبا عمار بأنه القائد الذي إن اختلفنا معه إلا أننا لم نختلف عليه.
لقد كرس جورج حبش حياته في النضال من أجل تحرير فلسطين من البحر إلى النهر, ناضل ودافع عن الثوابت الوطنية الفلسطينية وعلى رأسها القدس ومقدساتها وحق العودة.."لن أعود إلى الوطن إلا مع آخر لاجئ فلسطيني", مقولة مشهورة طالما رددها هذا المناضل العنيد..قائد لعب دوراً بارزاً وهاماً في النضال الفلسطيني والتحرري العربي، لما تمتع به من شخصية ثورية قيادية أهلته لأن يقود مسيرة كفاح طويلة..قائد لم تلوث يده بدماء أو أموال أهله وشعبه وأمته.
يقول أحد رفاق درب الحكيم"آخر الكلمات التي سمعتها منه في غرفة العناية المشدّدة في مستشفى الأردن قبل يوم من رحيله وكان في كامل وعيه، سؤاله عن أخبار قطاع غزة والحصار المفروض على أهلنا هناك، ولما أخبرته أن الناس اقتحموا المعبر ابتسم قائلاً: سيأتي اليوم الذي تزول فيه الحدود بين الدول العربية ويتحقق حلم الوحدة".
أيها الحكيم: تمر ذكرى رحيلك الثالثة وشعبنا الفلسطيني تعصف به حالة من التشرذم والانقسام لم نشهد لها مثيلا منذ انتصاب الكيان الصهيوني, فالضفة الغربية لا تزال محتلة برمتها وغزة محاصرة من جميع الجوانب, وقادة رام الله وغزة يرفضون الحوار الداخلي وضربوا بعرض الحائط اللحمة الوطنية الفلسطينية واضعين مصالحهم الشخصية والحزبية الفئوية الضيقة فوق كل المصالح العليا لأعدل وأطهر قضية عرفها التاريخ المعاصر..وها هي فضائية"الجزيرة" تكشف حقيقة المفاوضات العبثية مع الصهاينة وما كان يجري من وراء الكواليس بين المفاوض الفلسطيني الضعيف المستهتر بقضيته والمفاوض الصهيوني القوي الذي لعب بشريكه الفلسطيني وحركه تماما كما يحرك لاعب الشطرنج المتمرس حجاره..لقد كشفت"الجزيرة" بأن المفاوض الفلسطيني تخلى عن جميع الثوابت الوطنية الفلسطينية, هذه الثوابت ورغم اختلافنا مع أبي عمار إلا أنه رفض التنازل عنها ودفع حياته ثمنا لها.
عشرون عاما من المفاوضات العبثية ولم يوقفها الجانب الفلسطيني, وها هو كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات يؤلف كتابه"الحياة مفاوضات", ونقول له بأن الحياة أيضا لها شرفها وكرامتها, هذه الكرامة التي فقدها قادة شعب فرضوا عليه فرضا.
"إن الثورة الفلسطينية قامت لتحقق المستحيل لا الممكن"..مقولة لطالما رددتها يا حكيم ثورتنا وضميرها, وها هو شعبنا الفلسطيني يرفض الحلول الوسط، ويرفض الممكن القابل للمساومة والتفاوض والتنازلات المجانية وتبادل الأراضي وكل ما يمس الثوابت الوطنية بالصميم. لا تفاوض مع الظلم ولا مساومة على الحقوق مهما غلت التضحيات، حان الوقت للحلول الجذرية، كفى مهادنة وكفى لفا ودورانا على حقوق الشعب العربي والفلسطيني، واستغلال تضحيات جماهيرنا لمصالح ذاتية ضيقة، فإن شعبنا قادر على انتزاع حقوقه وتقرير مصيره فوق أرضه ليعيش حراً سيداً، فإرادة الشعوب هي الأقوى هكذا علمتنا يا حكيمنا، وهكذا ستبقى تعاليمك مغروسة في وجداننا تماما كما هو منقوش في الحجر.
تمر علينا ذكرى رحيلك الثالثة أيها الحكيم ونحن نشاهد الثورات الشعبية ورياح التغيير التي هبت من تونس وهروب دكتاتورها زين"الفارين" بن علي، لتنشر لهيبها في جميع أرجاء الوطن، لتؤجج شرارة التمرد على كل الأوضاع المزرية التي يعاني منها المواطن العربي أينما وجد..وها هو شعب مصر"مصر عبد الناصر" ينتفض في كافة أرجاء الوطن مناديا ومطالبا برحيل رئيسه الفاسد وحزبه المعفن الظالم..إنها ثورات على الظلم والاستبداد والقهر، ثورة على استغلال ثروات الشعوب، ثورة على الدكتاتورية لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والإصلاح السياسي والديمقراطي والقضاء على الفقر والبطالة.
يقول المثل السوداني واصفا من ارتكب جرما أو مخالفة جنائية وتم اعتقاله ولن يعد"ركب الرجل التونسية", وها هو دكتاتور تونس يركب"التونسية", فهل سيركبها قادة عرب آخرون؟, هذا ما نتمناه وما يحصل ويجري في الكثير من البلاد العربية يبشر بذلك, وان غدا لناظره قريب.
قبل أكثر من سبعين عاما قال الشاعر التونسي الشاب أبو القاسم الشابي:إذا الشعب يوما أراد الحياة..فلا بد أن يستجيب القدر, وهكذا تريد الشعوب العربية استعادة حياتها وكرامتها فاستجاب لها القدر.
في ذكرى رحيلك يا حكيم نقول تحية إلى الشعب التونسي العظيم وإلى الشعب الجزائري البطل والشعب المصري الأبي والى كل الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، تحية إلى شعبنا الفلسطيني البطل داخل الوطن المحتل وفي غزة الأبية الصامدة وأينما وجد في المنافي والشتات، تحية إجلال وإكبار لجميع شهداء قضيتنا العادلة الذين قضوا من أجل تحرير الوطن من بحره إلى نهره..والى كل الشهداء في وطننا العربي الذين قدموا أرواحهم قرباناً في سبيل الحرية والعدالة والمساواة.
تحية إجلال وإكبار إليك أيها الحكيم فقد نذرت حياتك لقضايا شعبك وأمتك فرحلت مرفوع الرأس، مرتاح الضمير..في ذكرى فراقك نقول ما مات من زرع العقيدة وارتحل والثوريون لا يموتون أبدا..ولن ننثني يا سنوات الجمر وإننا حتما لمنتصرون, وتحية لك أيها الحكيم الحكيم.