تسريبات الجزيرة والغارديان صادقة أم كاذبة

نافذة على الحدث

تسريبات الجزيرة والغارديان صادقة أم كاذبة

هي في صالح الجميع

د. أفنان القاسم

الوثائق الخاصة بالمفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية على مدى عشر سنوات، والتي تم نشرها على صفحات الغارديان وأمواج قناة الجزيرة صحيحة مائة بالمائة لأن مجرد نشرها في الغارديان يؤكد ذلك، فمصداقية الغارديان فوق كل شك، ونشر الوثائق في الغارديان لا بد أنه كان شرطًا أساسيًا لنشرها في الجزيرة، لما لهذه القناة من تاريخ مشكوك فيه، لهذا يجب الفصل بين موقفنا من القناة وموقفنا من الوثائق، كل ما يقال عن القناة صحيح، ولكن ليس كل ما يقال عن الوثائق صحيحًا، لأن فريق أوسلو معروف أي برنامج تصفوي للقضية الفلسطينية هو برنامجه، ولأن الجزيرة كبوق إعلامي مشبوه حجة لا تقف على قدميها من أجل الدفاع عمن فرطوا بالحقوق الوجودية للشعب الفلسطيني، وذريعة لا تكفي لتجاهل المفاوضات كوثائق غير مشبوهة، الناظر إليها والفاحص يجد أنها في صالح كل الأطراف، وأولها الطرف الفلسطيني.

لنفترض أن  الغارديان لم تغط الجزيرة بمصداقيتها، وأن الوثائق نشرت في أي بوق إعلامي ليس له قاعدة إعلامية عريضة كالجزيرة، فالمهم هو أن ينشر ما في الوثائق، لكن اختيار الأولى كان لهدف، واختيار الثانية كان لهدف، والهدفان الراميان إلى التهويل أولاً وقبل كل شيء مدروسان بدقة، لنفترض أن الوثائق وقعت في يد عابر سبيل كان يمضي بالصدفة من تحت نافذة صائب عريقات، فرماها له عن غير قصد، لكن كبير المفاوضين لم يسع إلى استرجاعها، وتركه يبيعها للبوقين العالميين بثمن غال سياسيًا أغلى ثمن سيتقاسمه وإياه عندما نعلم مسبقًا ردود الفعل وردوده على ردود الفعل، فالمهم هو أن يمشي ما في الوثائق، لكن ذلك يتوقف على حجم الزوبعة التي تثار حولها، واستمرار الزوبعة من الطرف الفلسطيني يؤكد حقيقة مدى التفريط الذي تم وهول نتائجه، لنفترض أن صائب عريقات لم يفعل لا هذا ولا ذاك، وأن الوثائق ألقيت بالخطأ في سلة المهملات، أو تمت سرقتها، أو تم تزويرها، يبقى السؤال الملح التالي: ماذا تحوي هذه الوثائق؟ كاذبة أم غير كاذبة: لماذا يقذف بها في سوق ترمسعيا الإعلام العربي اليوم؟

إذن لو سلمنا بكذبها، المهم أن يمشي ما فيها – كما سبق وقلنا – ويبدو أنه يمشي، فالتحركان الإعلامي والسياسي وخاصة التحرك الشعبي، هذه التحركات الثلاثة لم تكن على مستوى ما تحتوي الوثائق "المنتحلة" عليه من خطورة كيانية تهدد الوجود الفلسطيني، التحرك الإعلامي كان كعادته يصوب إلى أهدافه بعيدًا عن المرمى، فيدعم بالمجان البرامج المعدة في السراديب والحجرات المغلقة، والتحرك السياسي كان كعادته شعارويًا ولفظويًا لا يتبعه تحرك فعلي لا على الأرض ولا في السماء، الوحيد الذي لم يكن كعادته التحرك الشعبي، ونحن لا نعني هنا مهزلة دعم محمود عباس – بلا حياء - من طرف حرسه "الجمهوري" في اللباس المدني أو من طرف بعض زعران فتح الذين على عكس جيوبهم أُفرغت رؤوسهم في الوقت الذي يموت فيه المتظاهرون في شوارع تونس والقاهرة، فالانتفاضات لم تزل في الأذهان ومعجزات الصمود والتصدي للاحتلال الإسرائيلي لن تغادر الذاكرة، وهذا دليل قاطع على نجاح الاحتلال الفلسطيني هناكَ حيثُ فشلَ أخوه الاحتلال الإسرائيلي، وهو نجاح أعجب من العجب العجاب أحرزه فريق أوسلو في تمرين الوثائق الحسابي الخاص بإخضاع شعبنا والوصول به إلى حد ابتلاع كل ما يملى عليه.

أعود إلى مصداقية الغارديان نافيًا، وإلى تواطؤ الجزيرة مؤكدًا، وأنظر إلى ما يُدعى بالسلطة الفلسطينية كبنية سياسية لا يمكن لها أن تنتج عبر التاريخ الفلسطيني غير ما أنتجت، وما جاء في الوثائق ليس غريبًا عما تنتج، إنه جزء من طبيعتها، من ماهيتها كذات بالمعنى الفلسفي، فالتخوين أمر ثانوي، لأن الأشياء لا تطرح، عندما يتعلق الأمر ببنية سياسية، على اعتبار أن هذا وطني وذاك خائن، تطرح الأشياء على اعتبار أن هذا جوهر بنيتي وفقط، ومن جوهر البنية السياسية لسلطة رام الله التبعية لسلطة أقوى، والتبعية لسلطة أقوى تفرض – إن شاء صائب عريقات أم أبى – جملة من الممارسات مرتهنة بشروط محددة، شرط تأسيس "دولة" تحت الاحتلال أهمها، وكل ما يستتبع ذلك من لولبية، يجد القيمون على السلطة الفلسطينية أنفسهم مدفوعين فيها بسرعة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، التنازلات تصبح غير مطروحة كتنازلات وإنما كمكاسب أو كآخر ما يمكن الحصول عليه، لأنك مدفوع في الدوامة الهائلة للعمل السياسي الملولب، وبسبب من جوهر التبعية في بنيتك السياسية، تغدو ليس حجر شطرنج، فأنت حجر شطرنج منذ البداية، ولكن فاعلًا في بنية الاحتلال ومستقبِلاً لكل ما يرسل إليك: مستوطنات، تبادل أراضٍ، قدس عاصمة موحدة وأبدية، عودة رمزية... إلخ، وهذا ما تحتوي الوثائق عليه.

محتويات الوثائق في مفاوضات موضوعية جدًا إذن أمر لا شك فيه، ما يهمنا هنا الموقف الإسرائيلي الرافض حتى لأقصى التنازلات في التاريخ الفلسطيني وفي التاريخ البشري، فنحن لم نسمع أبدًا بفرنسا تترك باريس عاصمة أبدية لهتلر على الرغم من هيمنة رجال الإس إس عليها ولا بروسيا تترك موسكو عاصمة أبدية لنابليون على الرغم من إحراقه لها ولا بالأرض تترك القمر عاصمة أبدية لأبوللو على الرغم من كل ذهب الشمس ثمنًا، الموقف الإسرائيلي الرافض هذا لا يأتي من فراغ، ليس للقوة الإسرائيلية كما يشاع ولا للعنجهية النتنياهوية ولا للإيديولوجيا الصهيونية، ومن هذه الناحية الأخيرة والأهم، لقد سبق وتحالفت ألمانيا وفرنسا، العدوان اللدودان، غداة الحرب العالمية الثانية لأجل وحدة أوروبا، فأسستا السوق الأوروبية المشتركة بغض النظر عن إيديولوجيا كل طرف، الموقف الإسرائيلي الرافض يأتي لأن بنية قيادة إسرائيل السياسية بنية تابعة هي أيضًا، تمامًا كالبنية السياسية للسلطة الفلسطينية، لبنية سياسية أقوى، ألا وهي البنية السياسية للبيت الأبيض، وكل المشكل هنا. لأن حكام واشنطن يرفضون أي حل للمسألة الفلسطينية تمامًا كما رفضوا أي حل لمسألة الهنود الحمر، فالناظر إلى قيام إسرائيل يراه كما يرى قيام أمريكا، وقيام أمريكا نقيضُهُ السكان الأصليون الذين اندمجوا أو اندثروا، فحققت بذلك أمريكا هيمنتها على الأرض وعلى ثروات هذه الأرض، وهذا ما تسعى أمريكا إليه في فلسطين، قلب الشرق الأوسط، للسيطرة على الأرض وثروات هذه الأرض، الشيء الذي تم لها، عبر فلسطين، في كل الوطن العربي، وسترفض أمريكا أي حل ما بقيت هناك ثروات للنهب، فكان الرفض الإسرائيلي من شرط سياسي للمنطقة تقوم عليه بنية سياسية عالمية وسلطة سياسية عالمية وقوة سياسية عالمية هي بنية أمريكية وسلطة أمريكية وقوة أمريكية.

نشر الوثائق اليوم يرمي إلى ما توصلنا إليه: لا حل هناك حتى ولو حصل الجانب الإسرائيلي على أقصى ما يمكن الحصول عليه من تنازلات. أمريكا ارتاحت، وذلك من ناحيتين: الناحية الأولى وجدت ما يبرر "تعثر" الوصول إلى حل، والناحية الثانية عززت جوهر بنيتها السياسية في الهيمنة العربية والإقصاء الفلسطيني، والنبأ الذي وصلنا، ونحن نكتب هذه السطور، حول دعوة أوباما إلى مجلس الأمن الوطني لبحث التطورات في مصر كما لو كان أمن مصر الوطني جزءًا من أمن أمريكا الوطني يصب في منطق تحليلنا. إسرائيل لم ترتح فحسب بل ونامت ملء جفنيها، لأن التفاوض القادم مع الفريق الجديد الذي سيرث أبو مازن سيبدأ من نهاية التفاوض السابق، يعني الاكتفاء بالوضع الراهن بعد أن أعطى الجانب الفلسطيني كل ما استطاع عليه من تنازلات: كيان كانتوني مصطنع على الطريقة السويسرية تحت الاحتلال، وهذا ما يردده بنيامين نتنياهو منذ مولده، وما يدعوه وزير شؤونه الاستراتيجية موشيه يعالون "بإدارة الصراع" لعدم وجود حل لهذا الصراع، كما يدعي، نقول كما يدعي لأن الحل موجود كما نرتأي، ولكن لكل حل شروطه التي تفرضه، والطرف الأوسلوي لا يمتلك هذه الشروط التي أولها في الظرف الراهن انتفاضة على الطريقة المصرية أو التونسية تطيح بالسلطة الفلسطينية، وتفتح الطريق واسعًا أمام إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية بمعايير فلسطينية ترضي كل آمال الشعب الفلسطيني. السلطة الفلسطينية ارتاحت أكثر من حليفتيها السابقتين، فهي أعطت كل ما تستطيع عليه دون أدنى فائدة، لكن لا تكتحل عينها غُمضًا، خشية أن يفاجئ أمنها البوليسي ما ليس في الحسبان، فتناور، وتذر الرماد في العيون: اعترافات بدولة فلسطينية – يا هلا بالنشامى -، بحدود 67 – اسمع اسمع -، والقدس عاصمة – لاه صحيح؟، - وعودة اللاجئين – باللهيييي! -، كما يتبجح أصحابها، وكله هوا وكلام فارغ، لأنه حتى ولو اعترف العالم كله بمثل هذه دولة بما في ذلك أمريكا ولم تعترف إسرائيل بها، فستبقى دولة خوارنة أوسلو دولة بالإسم، وتجربتنا مع دولة عرفات التي أعلن عنها في الجزائر خير مثال. حماس ارتاحت أكثر من الأطراف الثلاثة في مجموعهم، لأن شلة حسب الله السادس عشر وأئمة الإخوان المسلمين رضي الله عنهم وأسكنهم فسيح جناته قد وجدوا المبرر على المبرر لفصل غزة عن الضفة والعوم في بحور امتيازات الحكم على مسخه وتكبيرات التطرف على بخسه. العرب، وما أدراك ما العرب، وعلى لسان عمرو موسى رئيس جمعيتهم الخيرية الذي قال "لا جديد في الوثائق" لا فض فوه، يؤكدون كالعادة ويؤيدون كل ما تمليه عليهم أمريكا لأمركتنا وتعزيز برامج اكتساحنا إنسانًا وأرضًا وثروات، وينتقصون من قيمة كل شيء لئلا تحاسبهم شعوبهم، وليبرروا تخاذلهم أمامها في الوقت الذي يعملون فيه على تيئيسها... الموسيقى الجنائزية التي صاحبت بث الوثائق في الجزيرة – بغض النظر عن صدق هذه الوثائق أو عدمه - دليل قاطع على هذا البوق الدعائي المشبوه الذي دخل بإرادة عربية أكثر البيوت عددًا وأدخل في قلوب أهلها الشعور بموت فلسطين ونهاية كل أمل في تحريرها... فهل قال الشارع العربي والشارع الفلسطيني كلمتهما الأخيرة؟ في تونس يجري اليوم هدم بنية النظام السياسي القديم، وفي مصر يغضب الناس، ويزأرون من أجل التغيير، وفي اليمن، وفي الجزائر، وفي زحل، وفي المريخ، و... و... يكفي أن تتغير توزيعة ورق اللعب، لتجِدّ شروط تضطر الأمريكان إلى حل لن يسيل له لعاب القادة الإسرائيليين كما جاء في الوثائق، وكالذئاب يريدون المزيد، لِمَ لا واغتصاب حقوق شعب كامل قد غدا نوعًا من الترف في الاستراتيجية الأمريكية؟