موقف حضاري يسجل لمركز إصلاح وتأهيل جويدة في الأردن

محمد فاروق الإمام

موقف حضاري يسجل

لمركز إصلاح وتأهيل جويدة في الأردن

محمد فاروق الإمام

[email protected]

لفت انتباهي خبر نشرته جريدة العرب اليوم الأردنية يوم 7 كانون الثاني الحالي يقول: نزيل في جويدة يناقش رسالة الدكتوراه (قضايا التفسير عند الرصافي عرض ونقد).

السجين هو عزام حلمي جابر الذي حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة اليرموك، محكوم بقضية لها علاقة بحماس ومحكوم على ذمتها 5 سنوات من قبل محكمة أمن الدولة.

مشهد دخول هذا النزيل القاعة التي أعدت لمناقشة الدكتوراه ببدلة وروب جامعي بعيداً عن المشهد المألوف لنزلاء السجون ببذاتهم الحمراء أو الصفراء أو الزرقاء، واستقبال ذويه له بالزغاريد والدموع المختلطة بمعاني الحزن والفرح، وصياح أطفاله بابا.. بابا، كان صداها يداعب أوتار قلوب كل من كان في القاعة.

النزيل عزام حلمي أحمد جابر البالغ من العمر 39 عاماً وقف أمام اللجنة التي ناقشت رسالة الدكتوراه التي أعدها، وكانت تحت عنوان (قضايا التفسير عند الرصافي عرض ونقد) ضمت مجموعة من أساتذة جامعة اليرموك من أصحاب الاختصاص، وقف واثقاً من نفسه وقد أمضى الليالي الطوال وهو يعد هذه الرسالة مصمماً على الفوز والنجاح.

ناقش عزام أطروحة الدكتوراه التي استمرت خمس ساعات متواصلة في قاعة خصصتها إدارة مركز إصلاح وتأهيل جويدة بحضور عائلته وحضور عدد من المسؤولين الرسميين، إضافة إلى وفد من المركز الوطني لحقوق الإنسان ووزارة الداخلية.    

سيخرج عزام حلمي من مركز إصلاح وتأهيل جويدة في نيسان المقبل بعد إنهاء محكوميته بلقب سيمحي معه صفة لازمته طوال السنوات الخمس الماضية ليكمل مشواراً قد بدأه قبل دخوله السجن، سيخرج بلقبه الجديد (دكتور)، وعزام هو المحكوم الثاني الذي يحصل على شهادة الدكتوراه من داخل أسوار السجن.

قال عزام جابر للصحافيين الذين غصت بهم القاعة: (لا علاقة بالقضية الأمنية التي حوكمت عليها ورسالة الدكتوراه عامة, فالرسالة تتعلق بالأمور الفقهية الإسلامية والسنة وبمسألة علمية بحت، وكانت الفكرة موجودة قبل دخولي السجن, وقد أنهيت شوطا قبل كتابة الرسالة، إلا أن ظروفي في التنظيمات الإسلامية ووجودي في جويدة لم يمنعني من كتابة الأطروحة).

في حين أعرب مدير جويدة عن سعادته قائلاً: (أنا سعيد جدا بأن أجد أحد نزلاء المركز يناقش رسالة الدكتوراه ويحصل عليها وما كان يحدث هذا الأمر لو لم نوليه العناية والاهتمام منذ البداية, فقد اجتهد عزام منذ عام ونصف العام للحصول على الدكتوراه).

وأضاف (بادرنا بالحصول على الموافقة اللوجستية على الأطروحة وقمنا بتوفير ما يلزم من مراجع وتوفير الاتصالات واللقاءات والتصوير من أجل أن يحقق حلمه بالحصول على الشهادة).

لقد تأثرت لهذا الخبر كثيراً وأكبرت للأخ النزيل هذه العصامية والإصرار والمثابرة والاجتهاد رغم المحنة والأسوار العالية والأبواب الحديدية المغلقة ونظرات السجانين الساخرة واستهجان النزلاء.. وأكبرت موقف القائمين على هذا السجن وصبرهم وكبير حلمهم الذي ما عهدناه في السجون العربية التي تمثل في ذاكرة المواطن العربي الرعب والإذلال والألم والتضييق والحصار والتعرض لشتى ألوان التعذيب الجسدي والنفسي التي تفتق عنها عقلية السجان العربي من الخليج إلى المحيط، ونحن نسمع ونرى عبر الفضائيات يومياً كيف يلقى المعتقلون والسجناء حتفهم على يد هؤلاء السجانين في سجوننا ومعتقلاتنا ومراكز الأمن وأقبية التحقيق في بلداننا العربية (بالصوت والصورة)، الذين فقدوا كل الأحاسيس الإنسانية، وباتوا أقرب إلى الذئاب الجائعة الكاسرة، من الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم.

عزام عينة من الشباب الملتزم الطموح الذين إذا ما أتيحت لهم الفرصة فإنهم سيكونون عماداً للوطن وذخراً للأمة ولبنة صالحة في بناء عزتها وكرامتها وشموخها وتقدمها وبناء حضارتها، التي يريد الأعداء لها الأفول والدمار والهزيمة والانكسار.. عزام صورة ناصعة لآلاف الشباب العرب الذين تربوا على قيم الإسلام وتخرجوا من مدرسة الدين الحنيف، الذين يحملون قلوباً صافية واعية، ويملكون أكفاً نظيفة ناصعة، إلى مثلهم تهفو القلوب وتعتز بهم الأمم وتدفعهم لقيادتها وخوض غمار معاركها في مواجهة الأعداء الذين يريدون ذبح هذه الأمة وحضارتها بذبح تاريخها وأمجادها ومسخ إنسانها وتهجينه وسلخه عن القيم التي توارثناها كابراً عن كابر، وكانت لنا الحصن الحصين في مواجهة الأعداء لقرون طويلة، والصخرة الصماء التي تكسرت على جنباتها كل الغزوات واندحرت تلعق مرارة الهزيمة وجراح الخيبة والانكسار.

هذا ما نريد أن تكون عليه السجون العربية وما تكون عليه الرعاية المطلوبة لنزلائها، بدلاً من القهر والتعذيب وحني الظهور وتقصير القامات والإذلال وغسل العقول وإطفاء سرجها أو قتلها، فنزيل السجون العربية إنسان كرمه الله كباقي البشر من حقه أن يُمنح الفرصة ليعود إلى المجتمع عنصراً فعالاً منتجاً ومبدعاً يدفع عجلة التقدم والنماء فيه، وفي سجوننا العربية الآلاف من النزلاء العصاميين الطموحين أمثال عزام، الذين قادهم حظهم العاثر إلى هذه السجون تجنّياً أو لارتكاب هفوة عن غير قصد أو سابق إصرار، لا تستحق أن تقوده إلى نفق مظلم لا خروج منه إلا فاقداً بعض أعضاء جسمه أو بعض عقله أو مهلوساً أو محمولاً على نقالة.