تقنين العنف والكذب

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

أسوأ ما تمخضت عنه المهزلة الحكومية المسماة بالانتخابات التشريعية التي جرت مؤخرا ( نوفمبر 2010م )، هو تقنين منهج القوة الغشوم ، والكذب الصارخ الذي لا يعرف الحياء أو الخجل ، وقد كان الناس قديما يرون ألوانا من تزوير الانتخابات ، التي كانت تتم بشيء من المداراة ، أو الإيهام أنها لم تحدث ، ولكن مع مهزلة الشورى التي سبقت الشعب ، خلعت السلطة البوليسية الفاشية برقع الحياء ، وعمدت إلى التزوير العلني الفاضح ، وأنجحت من أرادت ، وأسقطت من شاءت ، على رءوس الأشهاد ، ولم تكتف بذلك ، بل استخدمت العنف ضربا وقهرا واعتقالا وسجنا لخصوم النظام ومنافسيه ، ولم يتوقف الأمر عند حد العنف البشع ، بل تباهى بعض رجال الأمن أنهم لن يسمحوا للمنافسين الذين سبوهم بأقذع الشتائم " أن يحكمونا "؟!

وسبقت مهزلة نوفمبر مجموعة من تصرفات السلطة تمثلت في إغلاق المنابر التي يمكن أو يحتمل أن ينطلق منها ما يكشف فضائح التزوير الغشيم أو يؤثر على حركة التصويت ، فأوعزت لرجالها أن يعملوا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة  لإغلاقها أو تخريبها من الداخل ، وأذكر القارئ بما يلي :

-         تخريب جريدة الدستور وتشريد صحفييها وكتابها ، وتحويلهم إلى عاطلين في نقابة الصحفيين ينتظرون الذي يأتي ولا يأتي .

-         إغلاق مجموعة قنوات إسلامية فضائية كانت تعمل تحت سيطرة أجهزة الأمن وبتوجيهاتها ، بحجة أنها تشارك فيما يسمى الفتنة الطائفية ، وهي أبعد ما تكون عن تناول الموضوع الطائفي ، أو الموضوع السياسي بصفة عامة .

-         إقالة مقدم برنامج ، وإنذار آخرين في القنوات الخاصة ،مع إنذار ضمني لأصحاب هذه القنوات ،وتهديدهم فيما يتعلق بمصالحهم وأموالهم وشركاتهم .

-         التحالف مع الأحزاب الورقية من خلال صفقات تمنحهم الفتات من مقاعد مجلس الشعب نظير هجاء الإخوان المسلمين ، وعدم مقاطعة الانتخابات ، وفقا للدعوة القوية التي سادت فترة ما قبل التصويت انطلاقا من الدلائل القوية التي تشير إلى التزوير الغشيم ، في ظل عدم وجود ضمانة واحدة لنزاهة الانتخابات .ويلاحظ أن هذه الصفقات لم تنفذها السلطة إلا بعد انسحاب الإخوان والوفد والناصري من جولة الإعادة ، وما تم تنفيذه يشير إلى تقديم  فتات الفتات فحسب.ّ

-         قبل التصويت بأيام تم اعتقال مئات الشباب من الإخوان المسلمين وأقاربهم وذويهم لمنعهم من الترشح ، أو الدعاية للمرشحين ، وتم تقديم أعداد هائلة إلى القضاء الذي حاكم بعضهم بتهمة الإسلام هو الحل (؟!) ، والطريف أن بعضهم لم يخرج من السجن حتى الآن . مع أنه تم الإفراج عن معظم أفراد الميليشيات الطائفية المسلحة التي هاجمت محافظة الجيزة وحي العمرانية بالمولوتوف والسلاح الأبيض ، وقطعت الطريق الدائري عند المنيب وأصابت جنرالات الداخلية مع عشرات الضباط والجنود إصابات بالغة كادت تودي بهم إلى الموت ؛ ، وسيتم الإفراج عن الباقين قريبا ؛ وذلك بعد أن اعتكف رئيس الكنيسة في الدير، وهدد بعدم حضور جلسة افتتاح مجلس الشعب الجديد ، وعدم إقامة احتفالات عيد الميلاد  .

-         قبل الانتخابات وفي أثنائها وبعدها سلطت السلطة كتائب الردح القبيح لتسبّ وتشتم وتشوّه أصحاب الضمير الحي من المعارضين والذين يعاديهم النظام ؛ بصورة فاقت كل حدود الأخلاق والقيم وأدب الحوار ، وتكفي الإشارة إلى ما وُجّه لمرشد الإخوان والبر ادعي والمعارضين الحزبيين والمستقلين من بذاءات لا تليق بكتّاب ، فضلا عن ممثلي السلطة الذين ينطقون باسمها .

وللأسف فإن الموقف بعد التزوير الغشيم ، وإعلان الاتحاد الاشتراكي فائزا بكل المقاعد تقريبا ، لم يتغير شيء، وأمعنت السلطة في غيّها ، وأصرت على تمزيق الأحزاب الكرتونية ، بعد أن حاولت بالترهيب والترغيب أن تقدم نائبا واحدا عن الإخوان في المجلس المزوّر ، لقد دقت أسافين الخلافات بين الناصريين ، مما ترتب عليه وصول الخلاف إلى حد يهدد بإغلاق صحيفة " العربي "، بل يهدد بإغلاق الحزب نفسه ، وفي حزب الوفد ، فإن العصف به يبدو واردا من خلال الخلاف حول صحيفة الحزب وطريقة إصدارها يوميا وأسبوعيا ، وقد يمتد الأمر لبث الفتنة بين قيادة الحزب والنواب الوفديين الذين أنجحتهم السلطة في جولة الإعادة وقرر الحزب فصلهم ، وبالطبع فإن حزب "توتو" لن يصيبه مكروه ، لأن قيادته قدمت قرابين الولاء والطاعة للاتحاد الاشتراكي ، وقامت بما أملاه عليها لمهاجمة الإسلام والإخوان ، وقبلت بنتائج الانتخابات المزورة  ، ورضيت بالمقاعد الخمسة التي مُنحت لها لتمثل ما يسمى بزعامة المعارضة في البرلمان !

المفارقة أن النظام وكتاّبه وأتْباعه يصرون على أن الانتخابات – المهزلة كانت نزيهة وشفافة ونموذجية ،وأن الذين خسروها كانوا فاشلين لم يؤيدهم أحد ، والطريف أن مديرا للتحرير في إحدى المجلات الحكومية كان مرشحا في إحدى دوائر القاهرة ، فإذا به عند النتيجة لم يجد صوتا واحدا يؤيده في الصناديق ؛ حتى صوته هو لم يجده ، ومع ذلك تقول المجلة الحكومية ولا تخجل : إن الانتخابات نزيهة وشفافة ونموذجية ؟!أين أنت يا حمرة الخجل ؟ 

لقد استخدم نواب الاتحاد الاشتراكي والأجهزة المعنية كل الوسائل والأساليب التي مكنتهم من الفوز بمقاعد البرلمان ، ومع صدور مئات الأحكام  الخاصة ببطلان الانتخابات وصفات المرشحين وعدم صحة الانتخابات في معظم الدوائر ؛ فإن السلطة لم تلتفت إلى هذه الأحكام ولم تنفذ أيا منها ، مما يعني أن منهج القوة هو الذي يحكم البلاد والعباد ، وهذا مؤشر خطير على انعدام العدالة ، واتجاه الناس إلى استخدام القوة كل في مجاله ووفق قدراته ليظفر بحقه أو شيء من حقه !

أليس غريبا أن يزداد عدد الحراسات الخاصة ( البودي جارد ) في وقت وصلت فيه قوات الشرطة المصرية إلى أعلى معدل في العالم من حيث عدد عناصرها بالنسبة لمجموع الشعب ؟ ثم ذلك التطور الخطير الذي يجعل الحصول على الحق مرتبطا بالبلطجة وقوة السلاح والابتزاز ؟ 

إن تقنين القوة وما يستتبعه من عنف ودماء وتغوّل على الضعفاء، يؤسس لشرعية خطيرة  لا تعترف بالمبادئ أو القيم أو الأخلاق أو القانون ، وإذا كان القوم قد أمعنوا في الأكاذيب والبذاءات على صفحات الصحف وعبر وسائل الإعلام ؛ فإن المستقبل لا يشير إلى بارقة أمل حقيقية تهتف بحياة أفضل أو وطن أجمل !

إن إقامة أي نظام على أسس غير عادلة وغير توافقية ؛ يعني أن الوطن يسير إلى الخلف ، ولن يحقق تقدما يذكر ، وسيتعرض لهزات سياسية واقتصادية واجتماعية وطائفية تعصف به وتدمره ، وساعتها لن نجد أحدا من الذين أشاعوا منهج القوة والكذب يدافع عنه أو يتحمل المسئولية ، وهذا أمر خطير سوف يدفع ضريبته الصالحون والطالحون !

إن المجلس الباطل لن يقدم تشريعات تعبر عن طموحات الناس وآمالهم ، ولن يتمكن من مراقبة الحكومة ومحاسبتها ، لأنها هي التي أتت به وصنعته على عينها ، ومن ثم لن يقدر أن يرفع عينيه في وجهها .

من يعنيهم الأمر يجب أن يكفوا عن تقنين العنف والكذب ، فالعنف شريعة الغاب ، ودلالة التخلف ، والكذب صفة لا تليق بمسلم ولا مؤمن يخشى ربه .. فهل من أمل أن يراجع القوم أنفسهم ؟

سبق أن طالبنا أن يكون أهل الحكم صرحاء مع أنفسهم ومع الناس ، وأن يكفوا عن حكاية الديمقراطية الوهمية ، ويحكموا حكما ديكتاتوريا صريحا يهتدي بتجربة الجنرال فرانكو في إسبانيا بعد الحرب الأهلية ، فيوفروا على الناس كثيرا من المتاعب ، ويعيّنوا من يريدونهم من نواب أو غيرهم ، ويتركوا الناس تبحث عن السكر والفول والبوتاجاز ، بعد أن تخلوا عن البحث عن اللحم والسمك والفواكه . ولله الأمر من قبل ومن بعد!