مسلمو أميركا من العبودية إلى حرق نسخ القرآن

مسلمو أميركا من العبودية إلى حرق نسخ القرآن

سمير كرم*

لم تكن هجمات الحادي عشر من ايلول 2001 بداية التاريخ. كما انها ليست بالتأكيد نهايته.

وهي بالمثل ليست بداية تاريخ المسلمين في اميركا ولا هي نهايته.

انما يبدو وسط ضباب يغشى الرؤية حول كل القضايا هذه الايام ـ بلا استثناء تقريباً ـ ان هناك اعتقاداً قوياً لدى كثيرين، مسلمين وغير مسلمين، اميركيين وغير اميركيين، بأن تاريخ المسلمين في اميركا حديث العهد، ربما لا يتجاوز الاعوام التسعة التي مضت على احداث الهجمات المشؤومة.

والحقيقة ابعد ما تكون عن هذا الاعتقاد. لقد بدأ تاريخ المسلمين في اميركا مع بداية استعمارها من جانب مكتشفيها الاسبان، وبعد ذلك وعلى نطاق اوسع مع بداية استعمارها استيطانياً من جانب الامبراطورية البريطانية.

فلقد كان بين مرافقي كريستوفر كولومبوس، مكتشف اميركا الى سواحل القارة في رحلته الثالثة اليها، افراد من المسلمين الاسبان، واحد على الأقل يسجل التاريخ اسمه على انه واحد من البربر، ينتمي أصلاً للشمال الأفريقي، وشارك لاحقاً في استكشاف مناطق اميركية، مما يعرف اليوم بأريزونا ونيو مكسيكو لحساب الامبراطورية الاسبانية.

اما البداية الحقيقية الجماعية لهذا التاريخ، فكانت مع المسلمين الذين «شُحنوا» قسراً مكبلين بالأغلال مع مواطنين افارقة كثيرين، ونقلوا على السفن الى سواحل اميركا إبان الاستعمار في مرحلة إقامة المستعمرات. وتذكر كتب التاريخ (اذكر منها بنوع خاص كتاب الدكتورة ايفون حداد بالانكليزية بعنوان: مسلمو اميركا، وكتاب سيدني اهيلستروم بالانكليزية ايضا بعنوان: التاريخ الديني للشعب الاميركي) ان نسبة المسلمين بين الأفارقة الذين نقلوا بالسفن عنوة الى اميركا ـ والذين مات منهم المئات غرقاً او عطشاً في الرحلة عبر الاطلسي ـ كانت تتراوح بين 15 في المئة و30 في المئة. كان هذا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. كما ان نسبة الذين نقلوا ليصبحوا عبيداً أفريقيين في اميركا من مناطق يسودها الاسلام في أفريقيا كانت تربو على 50 في المئة. بعد ذلك في القرن الثامن عشر ـ بعد ان استقلت الولايات المتحدة الاميركية فإن بعض هؤلاء المسلمين كانوا اسرى بيد البحارة الاميركيين اخذوا من الجزائر في الاعوام من 1785 الى 1815 وكانوا من اوائل من وقعت عليهم عيون الاميركيين من ابناء المسلمين المنتمين لمنطقة الشرق الاوسط. كان ذلك جزءاً من حرب اطلقت عليها السلطات الاميركية اسم «حرب القراصنة». ولم يكن مبرر التسمية الا دفع الجزائريين عن سفنهم وشواطئهم ضد سفن اميركية غازية.

على الرغم من قسوة الظروف التي نقلوا فيها الى اميركا ـ وكان بعض هؤلاء المسلمين الافارقة امراء وزعماء قبائل في بلادهم ـ لكنهم تركوا انطباعاً طيباً للغاية لدى الاميركيين وخاصة المفكرين والكتاب، حتى ان جون ادامز كتب في عام 1776 في كتاب له بعنوان «افكار عن الحكومة» يصف الرسول محمد بأنه كان ساعياً رصيناً وراء الحقيقة، شأنه شأن سقراط وكونفوشيوس وزارادشت. وبعد ذلك بسنوات قليلة اعلن جورج واشنطن بطلاً للاستقلال الاميركي، وأول رئيس للولايات المتحدة يعلن استعداده لأن يوظف المسلمين والمنتمين لأي امة او ديانة في ضيعته الخاصة في ولاية فيرجينيا ماداموا عمالاً جيدين.

في عام 1778 اقامت المملكة المغربية اول علاقات دبلوماسية اقيمت مع الولايات المتحدة ولم تمض سنوات حتى كان المجلس التشريعي لولاية كارولينا الجنوبية يمنح المغاربة في الولاية وضعاً قانونياً خاصاً، ويعلن ان الولايات المتحدة لا تكنّ اي عداء تجاه القوانين او الديانة او الاستقرار الخاص بالمسلمين. وبعد ذلك بسنوات قليلة دافع توماس جيفرسون، مفكر الثورة الاميركية، والرئيس الثالث للولايات المتحدة، عن حرية الأديان، بما في ذلك الاسلام في الولايات المتحدة، وشارك في إفطار رمضاني اقامه سفير تونس عام 1809.

وسط هذه الأجواء الايجابية التي فرضها احترام المسلمين لأنفسهم ودينهم ومقدساتهم بدأت في الظهور في اوساط المعارضة الاميركية «مخاوف» من طموحهم، حتى ان مرشحاً معارضاً في ولاية كارولينا الشمالية عام 1788 يدعى وليام لانكستر اعلن: «دعونا نتذكر أننا نشكل حكومة لملايين لم يولدوا بعد... وفي مسار اربعمئة او خمسمئة سنة لا اعرف كيف ستعمل هذه الحكومة، ذلك انني اخشى ان يأتي يوم قد ينتخب فيه كاثوليكي او مسلم رئيساً. ولست ارى شيئاً يمنع حدوث هذا".

ثم يسجل التاريخ ايضاً ان الاميركي الكسندر راسل ويب كان اول اميركي مرموق يتحول الى الاسلام، وكان ذلك عام 1888 وكان الممثل الوحيد للمسلمين في «برلمان الديانات العالمي». بعد ذلك في حقبة الحرب الاهلية الاميركية، بين الشمال المعارض للعبودية والجنوب المؤيد لاستمرارها، وقعت حوادث كثيرة ضد المسلمين وضد غيرهم من الأقليات الدينية، ويذكر في هذا الصدد ان ضابطا في الجيش الاميركي (الشمالي) اعلن عزمه على ان ينقذ مجلداً واحداً من عملية تدمير جامعة ألاباما، وكان هذا المجلد نسخة نادرة من القران الكريم. ولا يمر ذكر الحرب الاهلية الاميركية من دون ان نذكر ان كثيرا من جنود الشمال من «السود» كانوا مسلمين وقد حاربوا ضد العبودية بحماس وإيمان عميق.

وتذكر كتب التاريخ الاميركي ان العبيد المسلمين في اميركا تميزوا عن غيرهم من العبيد الافريقيين بالمقاومة والتصميم والتعليم. وهذا يذكر بما اظهرته نتيجة استطلاع جرى مؤخراً (2005) في الولايات المتحدة عن المواقف من القضايا العامة، بما فيها الازمة الاقتصادية، فقد تبين ان المسلمين اظهروا في هذا الاستطلاع أنهم اكثر وعياً وأعلى دخلاً وأعلى تعليماً من باقي الجماعات الدينية والعرقية الاميركية التي شملها هذا الاستطلاع. وأهم من هذا، أن كثيراً من العبيد المسلمين كانوا يظهرون تفوقاً في معرفة اللغة العربية، بل إن بعضهم ألّف كتباً في موضوعات الدين وغيرها، وهو في اسر العبودية، مما حفز بعض مالكيهم البيض لعتقهم او التفضل عليهم بتخصيص مكان لهم للصلاة والكتابة.

وإذا كانت احدى معارك الوقت الحاضر في اميركا تدور حول ما اذا كان يحق للمسلمين الاميركيين إقامة مسجد في موقع برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، فإنه يجدر بالذكر ان المسلمين اقاموا اول مسجد لهم في اميركا وأول مقابر للمسلمين فيها عام 1915 وكان ذلك في ولاية مين، وأقامه المسلمون من أصل الباني.

ويجدر بالذكر أيضاً ان عدد من يؤدون الخدمة من المسلمين في القوات المسلحة الاميركية يربو على 15 الف شخص (حسب ارقام عام 2005).

ومن الناحية السياسية ينتظم المسلمون الاميركيون في خمس منظمات ـ فيما يطلق عليه الآن التعبير الاميركي «اللوبي الاسلامي». وهذه المنظمات ـ بترتيب حجم عضويتها وكثافة نشاطها ـ هي: مجلس العلاقات الاميركية ـ الاسلامية ـ المجلس المسلم للعلاقات العامة ـ الكونغرس الاسلامي الاميركي ـ ائتلاف المسلمين الاحرار. وتتميز هذه المنظمات جميعا بالاعتدال وتسعى لإقامة علاقات ايجابية وجيدة مع الادارات الاميركية المتعاقبة ومع اعضاء الكونغرس والمنظمات الاميركية لحقوق الانسان.

اما الحقبة الاخيرة منذ احداث 11 أيلول 2001 فإنها تعكس اشد احوال التوتر حول المسلمين الاميركيين. ولعل نحت كلمة «إسلاموفوبيا» لوصف الشعور الذي يعكسه التيار العام للاعلام الاميركي ازاء المسلمين يدل على امرين اولهما ان هذا الرهاب او الخوف غير المبرر من المسلمين ظاهرة مرضية اشبه ما تكون بحالات الهيستيريا. وثانيهما انه مسؤولية المصاب به اكثر مما هو مسؤولية المسلمين انفسهم. ويلاحظ في هذا الصدد ان الإعلام الاميركي ينقسم طوليا بصورة واضحة بين إعلام مصاب بالإسلاموفوبيا وإعلام يندد بهذه الظاهرة المرضية. وينتمي معظم الاعلام الذي يدافع عن المسلمين ويندد بالاتجاه الرامي الى إدانة كل المسلمين الاميركيين بسبب هجمات 11 ايلول الى التيار الذي يميل نحو اليسار او الفكر الليبرالي (المتحرر). اما الاعلام الآخر، الذي لا يكف عن شن الحملات على المسلمين راميا المسلمين جميعاً بالارهاب والتعصب ويطلق هذه الصفات نفسها على الاسلام ذاته، فهو الاعلام اليميني الذي ينتمي اليه غالبية الجمهوريين الاميركيين فضلا عن المستفيدين من هذه الحملات من المنتمين للوبي الصهيوني القوي.

لقد اظهر استطلاع للراي بين المسلمين ان نسبة 53 في المئة منهم، تعتقد انه اصبح من الصعب اكثر مما كان من قبل ان يكون المرء مسلماً بعد هجمات 2001.. وأظهر الاستطلاع نفسه ان ثمة شعوراً لدى المسلمين الاميركيين، بأنه ينظر اليهم على انهم ارهابيون. كما ان الحجاب اصبح مصدراً للحرج، وفي حالات قليلة تتعرض صاحبته للتحرش.

في هذا الجو تعرض اول عضو مسلم انتخب في الكونغرس الاميركي ـ كيث اليسون ـ لانتقادات حادة لأنه شبه افعال الرئيس الاميركي السابق جورج بوش ازاء المسلمين بعد هجمات 11/9 بما فعله هتلر على اثر حريق الرايشستاغ الالماني، حين اوقف العمل بالحريات المدنية. وكانت اشد الانتقادات لأليسون تلك التي جاءته من متحف الهولوكوست (المحرقة) الاميركي ومن عصبة مكافحة التشهير اليهودية.

وتوجد في الولايات المتحدة منظمة معادية للمسلمين صراحة تدعى «جمعية المفكرين الاسلاميين» وقد تأسست في نيويورك في اعقاب احداث 11/9 وهي تقوم بتوزيع منشورات تتضمن انتقادات متطرفة للمسلمين الاميركيين خاصة، تربط بينهم وبين الارهاب، وترمي الاسلام نفسه بالحض على الارهاب وكراهية الآخر.

ويجدر بالذكر ان الغالبية الساحقة من الاميركيين الذين يوصفون ـ او بالاحرى يصفون انفسهم ـ بأنهم خبراء الارهاب، بمن فيهم من ينتمون لمراكز دراسات وأبحاث لها مكانة رفيعة، انما يعتنقون وجهات نظر تجاه المسلمين والاسلام تتسم بالتطرف وتفتقد الى الموضوعية الى حد كبير. كما يجدر بالذكر ان الرئيس الاميركي باراك اوباما، على الرغم من محاولته تقليص مشاعر الإسلاموفوبيا في انحاء الولايات المتحدة، ووصولها الى حدود التهديد بحرق نسخ القرآن، بدا في الايام الماضية مع احتفالات الذكرى السنوية التاسعة لأحداث 11/9 ممارساً للتبرير لهذا التيار، حين قال إن حالة الاقتصاد السيئة هي التي ساعدت على إثارة الغضب ضد المسلمين والاسلام (...) واستطرد فقال إن «الناس الذين هم الاكثر اهتماما بنشوب حرب بين الولايات المتحدة او الغرب والاسلام هم القاعدة. "

والملاحظة العامة التي يمكن ان نختم بها ان غالبية الذين يتطرقون الى موضوع الاسلام والمسلمين في اميركا، لا يريدون أبداً الرجوع الى تجارب الماضي وما عاناه المسلمون حتى حققوا وضعهم الراهن ...

لا احد يريد ان يعي، كيف تصرف المسلمون في اقصى وأقسى اوقات ازماتهم وأزمات اميركا ليعرف انهم اكثر اتزاناً ورصانة مما يتهمون.

هذا موضوع له جذور تاريخية اعمق وأكثر امتداداً من اي موضوع آخر بين الاميركيين والمسلمين. اما كيف سيتمكن الطرفان من الخروج من حملة التهديد بحرق القرآن من دون تنفيذ هذا التهديد، فهذا امر سيحتاج الى جهود كل الحكماء والمفكرين من الطرفين لإطفاء النيران.

(سمير كرم: كاتب وصحافي مصري، والمقال نشرته صحيفة "السفير" اللبنانية يوم 17/9/2010)