فكرة لتجار المسلسلات الأمنية
فكرة لتجار المسلسلات الأمنية
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
يجب على جماعة الإخوان المسلمين أن توجه الشكر والعرفان للنظام المصري على إنتاج
مسلسل الجماعة وإذاعته على القنوات الأرضية والفضائية ، الحكومية والتجارية ؛ في
شهر رمضان الماضي 1431هـ ( أغسطس / سبتمبر 2010م ) ، فلو أنفق الإخوان وبقية
الجماعات الإسلامية ، وجماعات حقوق الإنسان مليارات الدولارات ، للتعريف بالإسلام
والإمام الشهيد حسن البنا ، وكشف وحشية النظام المصري الفاشل على مدى ثمانين عاما ،
ما استطاعوا أن يحققوا ما حققه المسلسل البائس ، الذي كتبه مؤلف شاطر وماهر وبارع ،
استطاع بكتابة المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية والأفلام السينمائية أن ينتقل من
مستوى إلى مستوى ، ومن وضع إلى وضع حتى فاق أستاذه الذي رعاه ، وقاد خطواته الأولى
، حتى صار كاتبا محترفا يكسب الملايين ، وتوجهه السلطة كي يصفي حساباتها ، ويروج
لبضاعتها الفاسدة .
ومع أن هذه السلطة قهرته كي لا يتمادي في تشويه الإسلام والدعاة وجماعة الإخوان
وبترت مسلسله وحذفت منه حلقتين كان يفترض أن يقدم فيهما مشاهد المؤامرة على الإمام
الشهيد ، ثم مصرعه ، وتواطؤ الأجهزة في النكوص عن إنقاذ حياته ، ومشهد جنازته التي
حضرها والده والزعيم المسيحي مكرم عبيد ومجموعة من نساء الأسرة ، فإن المسئولين لن
يسمحوا له بالعمل في الجزء الثاني الذي قيل أن سيعرض لاحقا . ذلك أن تأثير ما أذيع
كان خارقا ، اخترق كل البيوت التي تنطق العربية أو تفهمها ، وعرفت مئات الملايين
وخاصة الأطفال والشباب في أرجاء العالم الإسلامي بشيء اسمه الإسلام والدعوة
الإسلامية ، والإمام الشهيد حسن عبد الرحمن البنا ، وجماعة الإخوان المسلمين ، كما
اخترق الذهنية الثقافية المهيمنة على الحالة الثقافية ، والمعادية بطبيعتها للإسلام
، وفرض عليها أن تقف لأول مرة موقف الدفاع عن النفس ، بعد أن كانت تهاجم ، ثم إن
الاختراق الأهم كان توجيه الملايين لقراءة ما كتبه حسن البنا ، وما يتعلق بالدعوة
الإسلامية والعقيدة الإسلامية ، وهذا فضل من الله كبير أعاد الإسلام إلى دائرة
الضوء ، بوصفه هوية الأمة ، ومستقبلها ، وأملها المتجدد .
لن أناقش المسلسل من الناحية الفنية فهذا يحتاج إلى مجال آخر ، ولن أتناول التشوهات
التي صنعها كاتبه ، فالمجال لا يحتمل ، ولكني أحب أن أقدم إليه فكرة لمسلسل جديد ،
سيكون مهما للغاية لأنه يعني النخب الثقافية المهيمنة ، ويتقاطع مع توجهاتها
ونشاطاتها وماضيها وحاضرها ومستقبلها أيضا ، ولكن قبل أن اطرح الفكرة ، أتساءل :
ألم تكن لدى الكاتب فرصة ليلتقط أنفاسه ، ويجعل نهاية المسلسل الأمني المبتور
معقولة ومقبولة بدلا من هذا القطع الدامي ؟ إن المسلسل بدأ من العصر الراهن ، ومن
نقطة القصة الملفقة لما يسمى العرض العسكري الذي قدمه طلاب الإخوان في جامعة الأزهر
عام 2006م ، تأييدا للمقاومة الإسلامية في فلسطين المحتلة ، وأخذ يتناول قصة
الإخوان عن طريق وكيل النيابة ووالد خطيبته( المستشار ) ، وهو الذي يقود خطا الأول
لمعرفة التاريخ الخاص بالجماعة ، ويفترض أن يكون البناء الفني دائريا ، أي يقوم
الكاتب بإعادة الأحداث الماضية إلى الوكيل والمستشار ، وينتهي يهما لنعرف رأيهما
وما استقرا عليه تجاه الأحداث الماضية ، ولكن البتر الإجباري جعل النهاية تنتهي في
الماضي وليس في الحاضر . بالطبع لا يشفع للمؤلف القول إن هناك جزءا ثانيا ، فهذا
الجزء الثاني لن يأتي أبدا وهو يعرف ذلك للأسباب التي قلتها عاليه .
أما الفكرة التي أريد للمؤلف المحترم أن يتشجع ويعالجها في مسلسل ولو من سبع حلقات
فقط ، مع أنه يستحق مائة حلقة ، فهو شخصية " هنري كورييل " ، اليهودي الغامض ، الذي
اغتيل في باريس عام 1987م في ظروف غامضة وغير مفهومة .
فالرجل هو الأب الروحي للشيوعيين المصريين الذين يؤمنون بالصراع الدموي وحتميته بين
الفقراء والأغنياء ، ثم إنه ينتمي إلى أسرة يهودية مصرية كانت تمتلك مؤسسات
اقتصادية مهمة ، وهو
ابن
المليونير اليهودي الشهير " دانيال نسيم كورييل " صاحب بنك الرهونات الشهير في
شارع الشواربى قبل 1952م ،
وهو من الجالية اليهودية التي
كانت تضم حوالي ثلاثين ألف شخص . من
بينهم خمسين أسرة كانت تمتلك أو تسيطر على 34 % من الشركات المساهمة المصرية .
ويذكر أن أسر
المليونيرات اليهود قامت باستقبال واستضافة الضباط
والجنود اليهود العابرين ضمن قوات
الحلفاء في أثناء الحرب العالمية الثانية ، حيث
أقامت لهم الحفلات ، والأهم نظمت لهم محاضرات لإقناعهم بالأفكار
الصهيونية والوطن القومي لليهود في فلسطين . ومن
أبرز وأنشط هذه الأسر، أسرة
المليونير " كورييل" والد " هنري" ، ومليونير
يهودي آخر هو " موصيري " والد زوجة أحد الكوادر الشيوعية المصرية البارزة.
وقد تغلغل هنري في المجتمع السياسي المصري ، مع تحول عدد من أبناء
المليونيرات اليهود إلى الشيوعية فجأة ، وكان هؤلاء
من عائلات " كورييل " و"عدس" و " موصيري" و "رولو" و" حزان"
وغيرهم . لقد تحول ابن المليونير
اليهودي " هنري كورييل" إلى الشيوعية فجأة في عام 1943م .
وبدأ اليهود الذين كانوا
فعليا تحت حماية الاحتلال في اختراق الشيوعيين المصريين بحجة ضرورة توحيد
الشيوعيين . وأسفرت عمليات التوحيد عن ظهور كيانين
هما الحركة المصرية للتحرر
الوطني " حمتو" التي تحولت إلى الحركة الديمقراطية
للتحرر الوطني " حدتو" . حيث شغل
"
هنري كورييل" موقع السكرتير العام لها
. والى جانبها منظمة " حزب العمال
والفلاحين " . لقد قام اليهود بتكريس نشأة
انقسامية بين الشيوعيين مستعصية على التوحد ، وتضمن لليهود السيطرة علي القيادة .
ومن ناحية أخرى
عملوا على عدم التواصل مع بقايا الحزب القديم الذي يتهمون الرجعية بقيادة ( سعد
زغلول !) بالقضاء عليه عام 1924م .
المهم في المسالة أن هنري كورييل والأحزاب الشيوعية التي يهيمن عليها أيدت اغتصاب
فلسطين ، ووقفت إلى جانب اليهود الغزاة ، ووصفت الجيوش العربية التي قاتلت إلى جانب
الفلسطينيين بأنها تحارب حربا قذرة بقيادة الرجعية العربية والرأسمالية العربية
والحكومات العربية الرجعية ضد الطبقة اليهودية العاملة ، واصدر الشيوعيون بقيادة
هنري كورييل بيانات تؤيد تقسيم فلسطين بين اليهود الغزاة وشعبها الشريد ، مع تأييد
ما يسمى الوطن القومي لليهود في فلسطين ..لقد ارتكب الشيوعيون المصريون ومثلهم
الشيوعيون العرب بقيادات يهودية أخرى جريمة الخيانة العظمى بتأييد الغزاة اليهود .
تم طرد اليهودي الغامض مع مجموعة من القيادات اليهودية للشيوعيين المصريين عام 1950
إلى باريس . . الخدعة الأكبر كانت في حقيقة الأمر تتمثل
في توجيه الأنظار إلى " هنري
"
وحده دون اليهود الآخرين الذين لا يختلف أي منهم عنه
بالنسبة لقضيتهم المركزية !! وهي تأييد اغتصاب
فلسطين . ومشاركة يهود المنظمة
الأخرى أي منظمة العمال والفلاحين " ريمون دويك "
و" يوسف درويش" و " صادق سعد"
الذي اتخذ اسم " أحمد صادق سعد" وغيرهم
؛ في الهجوم على كورييل في قضايا لا
تمس قضية اغتصاب فلسطين . لصرف الأنظار إلى مسائل
جانبية أو تنظيمية بعيدة عن القضية الجوهرية
.
وبذلك تمكن الاختراق الصهيوني من تمرير خدعته في
إطار توزيع الأدوار !! وللأسف
فقد حققوا غايتهم .
المفارقة أن هنري كورييل أيد ثوار الجزائر ، وسجنه الفرنسيون لهذا السبب سنتين .
لماذا كان يؤيد الثورة الجزائرية ، وهو الذي قاد الشيوعيين المصريين لتأييد العدوان
الصهيوني على فلسطين واغتصابها ؟ السبب هو عمله الدائب لينتصر الجزائريون ، ثم
يقوموا بتأييد السلام مع الكيان الصهيوني ، وإقناع بقية العرب بالسلام مع اليهود
الغزاة ، وهو السلام الذي ظل يدعو إليه في منفاه أو في بلده الثاني فرنسا عن طريق
منظمة " تضامن " ! ؛ حيث كان يحمل الجنسية الفرنسية إلى جانب الجنسية المصرية ؟!!!
كان هنري كما يقول الرفاق الشيوعيون يقود الشيوعيين المصريين من منفاه في الخارج ،
مع أن الرفاق اليهود المصريين كانوا يوجهون إليه سهام نقدهم في قضايا هامشية تخص
التنظيمات الشيوعية – كما سبق القول - لإبعاد الأنظار عن القضية الأساسية التي
كانوا جميعا يعملون لها بدأب وإصرار وهي اغتصاب فلسطين وفرض الدولة العبرية فرضا
على أمة المسلمين !
بالطبع لن أقول لمؤلف المسلسل لماذا ازدريت جهاد الإخوان والمصريين في فلسطين ، ولا
أقول له لماذا أظهرت الدولة المصرية كأنها تملك جيشا جرارا يستطيع أن يحارب ، وأن
القيادات المصرية " شايفة " واجبها كما ينبغي لحماية البلاد والعباد .. ولكني أوجهه
كي يقرا كتاب " محمد يوسف الجندي" مدير دار الثقافة
الجديدة ، الذي يحمل عنوان : هنري كورييل من أجل
سلام عادل في الشرق الأوسط ، وكتاب حسين كقافي " هنري كورييل : الأسطورة والوجه
الآخر " ، و لا يستطيع أحد أن يشكك في توجه الكتابين .
إني لواثق أن مؤلف المسلسل الأمني سيجد في شخصية هنري كورييل بناء فنيا محكما ،
ومادة غزيرة للأحداث والشخصيات ، كما سيجد في قصة الشيوعيين المصريين نماذج عديدة
تمثل الهبوط والخسة في الغدر بالرفاق والالتحاق بقطار السلطة المستبدة ، والتحول
لخدمة الامبريالية الاستعمارية ، والرأسمالية والاحتكارات المتوحشة ، وتلقي الدعم
من المنظمات والمؤسسات الغربية التي تحركها شركات ما وراء البحار العملاقة .
لا شك أنه سيجد ورواجا جماهيريا غير محدود ، وملايين لا تحصى ، ستتدفق بكل تأكيد
على جيوب تجار المسلسلات الأمنية والترفيهية .
وكل عام وأنتم بخير.