دستور تركيا ... يكشف سوءة العراق

دستور تركيا ... يكشف سوءة العراق

أحمد حسن الصائغ

ست ساعات فقط كانت كل الوقت الذي استغرقته المفوضية العليا للانتخابات (التركية), لتخرج على الملأ بنتائج الاستفتاء على تعديل الدستور التركي. وإذا علمنا أن تركيا تتكون من ثمانين مقاطعة وان مساحتها تزيد على مساحة العراق ثلاث مرات, وان عدد نفوسها الثمانين مليونا, هم ثلاثة  أضعاف نفوس العراق, ومع ذلك لم يستغرق الاستفتاء سوى نصف يوم ليتخذ الشعب قراره, وربع يوم ليكمل الموظفون واجبهم في اعلان النتائج , والربع الاخير من اليوم خصصوه ليحتفل الفائز بنصره. عندها يتبين لنا كم هو خفيف الثوب الذي ارتداه العراق بيد ابنائه . ابنائه الذين لم يستطيعوا ان يستروا عورة أبيهم وهو في شيبته عن عيون الغرباء الهازئة.

فلنعترف وبكل صدق وامانه اننا نحن العراقيون مازلنا نحبوا في طريق الديمقراطية. ولن نتمكن من السير في هذا الدرب الزلق الا اذا تعلمنا هذا العلم من الاخرين, واستفدنا من تجارب الامم. بل ونجلس أمامهم مثل التلاميذ لنتعلم من الذين سبقونا في هذا المضمار.

انا لا اقصد بمقالتي هذه الساسة فقط. بل قصدت العراقيين ..كل العراقيين. فهم مثقلون بتراث ثقيل من القيود والسلاسل التي تحجر على عقولهم وتمنعها من الانتاج والابداع والفعالية . الا ترى ان العراقي متى ما خرج من الوطن كان شعلة من نشاط وابداع وتميز.

وأول مسئول عن حالة تخلف العقل العراقي هي المرجعية الدينية, بشقيها الشيعي والسني . اذ تسكنهما عقد تاريخية لا علاقة للحاضر بها , جعلت من الشعب المسكين اسير طقوس وشعائر, ان انعم النظر بها جيدا, وجد انها لا تختلف من حيث الجوهر عن كرنفال  ريوديجانيرو. غير ان الأخير سعيد وراقص, بينما العراقيون  محرم عليهم الاحتفال الا اذا كان حزينا. 

وثاني مسئول عن حال العراقيين هي المرجعية العشائرية البالية , التي فرضت عليهم اسلوب حياة قائم على تقديس شيخ العشيرة مهما كان عمره ومستواه العلمي حتى وان كان عاطلا عن العمل..ولا يختلف اهل الشمال والجنوب في ذلك عن اهل الشرق والغرب فالجميع قد تشرب بتلك التقاليد ولن يخرجوا منها حتى تصيح الساعة.

وهنا يكمن مقتل العراقيين . فالفرد منهم في حالة صراع ابدي بين ما هو موروث وبين متطلبات الواقع .وهذا مايجعل من الشخصية العراقية تعيش ازدواجية قاتلة مدى الحياة .

انظروا الى الوضع في تركيا...ففي ثمانينات القرن الماضي كانت المعركة بين طرفي النزاع قد وصلت الى ذروتها حيث كان اندلاع حرب اهلية هناك وشيك الوقوع..اذ تمايزوا الى صنفين فقط ( عسكر  و  ديمقراطيين  )  علما ان احدا منهم لم يشكك في وطنية الاخر او يزايد عليه في حب تركيا الوطن وانما كانت حرب افكار .

اما الامر في العراق فمختلف . والفرقة والتشظي والانقسام فيه لا ينتهي ..بل وتسير على اسس لا علاقة لها بالمنطق او العقل فالصراع كان في البداية صراعا قوميا بين عرب واكراد ولا يقوم على اساس الوطن الواحد. بل يقوم على اساس الانفصال ثم تطور بعد ذلك الى صراع (سني شيعي كردي) وهنا تكمن المفارقة التي يصعب الحصول على اجوبة لاسئلتها المحيرة...

 فهل موضوع الاختلاف, وطني , ام قومي , ام مذهبي ؟

 وكيف يكون الصراع وطنينا اذا كان الجميع عراقيون ؟ ولكن هل يؤمن الجميع حقا انهم عراقيون ؟؟؟

 وكيف يكون الصراع قوميا اذا كان العرب السنة والشيعة وهم من قومية واحدة ,ومع ذلك فهم متخاصمون ؟

 وكيف يكون الصراع مذهبيا اذا كان السنة والاكراد ينتمون لمذهب واحد ومع ذلك هم مختصمون ولا يتفقون ؟

 والاعجب من كل ذلك ان الاكراد (وهم سنة من غير العرب ) والشيعة (وهم عرب لا اكراد) متحالفون على طول الخط فيما بينهم. ولا يعلم احد الاساس الذي يقوم عليه هذا التحالف.

 (الى وقت قريب كان البعض يقول انه تحالف لاسباب وطنية ولكن تاخير تشكيل الحكومة قد ابطل ذلك الادعاء وكشف المستور) واخيرا ظهر صراع من نوع اخر اسموه هذه المرة صراعا بين العلمانية والدين ..ان تطور الصراعات واختلافها لم يكن ليقضي على الخلافات السابقة بل كان يتوالد منها و تسيرعجلة الخلافات جميعها جنبا الى جنب. والصراع الاخير هذا تحول الى صراع اقليمي بايد عراقية . والكل يتهم الكل  بالعمالة والخيانة والتبعية للاجنبي.

ان العراقيين هم وحدهم المسئولون عن استمرار هذه المهزلة ففي الوقت الذي ينشغل فيه العالم باستحداث انسب الطرق لتوفير الحرية والديمقراطية المقرونة بافضل الخدمات لشعوبهم . يبقى شعبنا غائصا الى تراقيه في مستنقع الصراعات العقيمة القائمة على الافكار الشاذة التي تسوقها المرجعيات الدينية ويقاتل في سبيل تحقيقها السياسيون . وهؤلاء لم يبقوا للعراقيين سوى واحدة من ثلاث خيارات احلاهن مر . فاما ان يبقوا في العراق ليعيشوا المأساة الى النهاية من غير ان يضمنوا حتى القبور لاجسادهم .واما ان يبذلوا قصارى جهدهم للعثور على دولة تقبل لجوءهم . واما ان يثوروا على نظام الحكم المنافق القابع في المنطقة الخضراء الذي يدعي انه ينام ليلا(عند اهله) بلا مولدة ولا مبردة ولا (بنكة) , معتمدا على الكهرباء الوطنية حاله حال كل العراقيين...

ياعراق قسما باسمك الطاهر ... إني اكاد ان اكفر بك