عشية ذكرى مجزرة سجن تدمر
عشية ذكرى مجزرة سجن تدمر:
أكذوبة الممانعة وأزمة بعض القيادات الإسلامية
د.محمد بسام يوسف*
[هذه المادّة، وكل ما أكتب باسمي من مواد، لا علاقة له بأي جهةٍ أو جماعةٍ أو حركةٍ أو مؤسّسة، إنما يعبّر عن رأيي أو فكري أو موقفي أو معتقدي.. فحسب، الذي أبذل حياتي، للدفاع عنه وعن أصالته وحُرّيته واستقلاله]
* * *
عشية الذكرى الثامنة والعشرين لمجزرة سجن تدمر الصحراويّ، التي ارتكبتها قوات النظام الأسديّ ليلة السابع والعشرين من حزيران عام 1980م.. نجد أنفسنا غير مضطرّين للحديث عن تفاصيل الجريمة الكبرى، التي راح ضحيّتها أكثر من ألف مواطنٍ سوريٍ وفلسطينيّ، من مختلف الشرائح الاجتماعية والكفاءات العلمية والأكاديمية والدينية، وذلك لأنّ ما يظهر من المواقف المخزية لبعض القيادات الإسلامية هذه الأيام، المروِّجة لأكذوبة (ممانعة) النظام الأسديّ، والمسوِّقة لأشد الأنظمة خيانةً واستبداداً وظلماً على مرّ التاريخ السوريّ، قديمه وحديثه.. لأنّ ذلك كله يدخل في إطار اللامعقول، بل في إطار التواطؤ مع الخونة والمجرمين، الذين تآمروا على الأمة وما يزالون يتآمرون منذ أكثر من أربعة عقود!..
هل يمكن أن يكون نظام حكمٍ نظاماً ممانِعاً للعدوّ، وهو ينفِّذ في حق وطنه ومواطنيه عشرات المجازر المروِّعة، ويحكم بالأحكام العُرفية وقوانين الطوارئ والقوانين الاستثنائية والقانون القاتل رقم 49 لعام 1980م؟!.. وقد راح ضحية كل هذه الممارسات الإجرامية مئات الألوف من أبناء سورية وبناتها، ما بين قتيلٍ وسجينٍ ومفقود.. فضلاً عن مئات الألوف من المهجَّرين القسريّين الفارّين من الاستبداد والاضطهاد، ومن ساحات المجازر والقتل والتعذيب الجماعيّ؟!.. نذكر ذلك، لنذكِّر بالحقيقة أولئكَ الإسلاميّين المهووسين بأكاذيب النظام عن (الممانعة) و(الصمود والتصدّي) و(مقاومة) العدوّ.. إلى درجة العمى عن كل ما تشهده هذه القيادات الإسلامية ويشهده كل ذي بصيرة، من خيانات النظام منذ وجوده حتى اليوم، مروراً بخيانات حرب حزيران لعام 1967م، وما تلاها من ممارساتٍ خيانيةٍ في سورية ولبنان.. إلى هذه اللحظة التي يتفاوض فيها هذا النظام الخائن مع العدوّ الصهيونيّ، ويبيع سورية وشعبها وحاضرها ومستقبلها، لشذّاذ الآفاق الفرس الصفويين، ويزجّ في سجونه أحرار سورية وحرائرها، ويتآمر على الدول العربية الشقيقة، ويهدّد المنطقة كلها بالحرب الطائفية التي تمتدّ من بحر قزوين إلى البحر الأبيض المتوسّط؟!..
* * *
بعد سنواتٍ من ارتكاب مجزرة سجن تدمر، وما تلاها من مجازر، أبرزها مجزرة حماة الكبرى التي راح ضحيّتها عشرات الآلاف من أهلنا في حماة.. كان الدكتور (همّام سعيد) ما يزال يتحدّث بأسىً عن محنة المسلمين والإسلاميين وأبناء الحركة الإسلامية في سورية.. لكنه الآن لا يتحدّث إلا عن ضرورة دعم نظام (الممانعة) الأسديّ، على الرغم من كل ما يشهده -حتى الأطفال- عن حقيقة هذه الأكذوبة، التي صارت بمنزلة الخرافة الأسدية!.. فما السبب في ذلك؟!.. ولماذا تنقلب المواقف المبدئية بهذه الصورة المشينة؟!..
كان بإمكان (خالد مشعل) ورفاقه المقيمين في دمشق أن يتعاملوا مع النظام الأسديّ تعاملاً تحكمه علاقات المصالح السياسية.. فلماذا يتطوّر التعامل إلى درجات الحلف مع نظامٍ تَثبت خيانته للقضية الفلسطينية كل ساعة؟!.. نظامٍ ارتكب مجازر تل الزعتر وتواطأ على ارتكاب مجازر المخيّمات الفلسطينية في لبنان، نظامٍ ما يزال في سجونه مئات الأحرار الفلسطينيين، وقد أعدم خيرة أبنائهم، أبرزهم عالِم الفيزياء النووية الدكتور (حسين محمد حسين)، الذي كان أستاذاً في جامعة حلب في ثمانينيات القرن المنصرم؟!.. لماذا يقف (خالد مشعل) وراء إحدى المنصّات الخطابية للنظام في دمشق، ليصرخ: (هذه سورية الأسد.. سورية الممانعة)؟!.. مَن وَكَّل (خالد مشعل) ليطوِّبَ سورية باسم آل أسد؟!.. ولماذا يتجاهل مشعل مئات الفلسطينيين المعتقلين في سجون حليفه حتى هذه اللحظة؟!.. لماذا يُطلّ (موسى أبو مرزوق)، عضو المكتب السياسي لحماس، من القناة الفضائية السورية، مروِّجاً لخرافة ممانعة النظام الأسديّ، بينما يتجاهل تماماً محنة أهله وشعبه في سورية وفلسطين، ولا يجد وقتاً سوى لتسويق أخون نظامٍ استبداديٍ عرفه العرب والمسلمون؟!.. لماذا يتجاهل مشعل كل الاختراق الفارسيّ الصفويّ لسورية والعراق ولبنان وفلسطين، ليصرخ في منطقة (السيدة زينب) بتاريخ 31/5/2008م، بأنّ (حماس هي الإبن الروحيّ للخميني)؟!.. الخميني صاحب شعار: تصدير الثورة الشيعية الفارسية، الذي يُنَفَّذ في وطننا سورية بشكلٍ متسارعٍ هذه الأيام، فتُسحَق بموجبه عقيدة الأمة، ويُهان تاريخها، ويؤسَّس في عقر دارها لأخطر مشروعٍ للخروج عن الإسلام، عقيدةً وتاريخاً وحضارةً وأخلاقاً وتربيةً وثقافة!..
لا يُجاري غرابة دعوة (سعيد ومشعل وأبو مرزوق) أبناء الحركة الإسلامية للانضمام إلى نظام (الممانعة) المجرم، إلا دعوة مرشد جماعة الإخوان المسلمين المصريين الشيخ (محمد مهدي عاكف)، الذي لا يدري حتى الآن أنّ النظام الأسديّ يفاوض العدوّ الصهيونيّ على بقائه، وأنّ جبهة الجولان هادئة منذ ثلث قرن.. مهدي عاكف الذي امتلأ حماسةً لدعم حزب خامنئي اللبناني بعشرة آلاف مقاتل، لا يدري أنّ العراق أصبح بلداً محتلاًّ، تحتلّه أميركة وإيران بأحزابها الشيعية الصفوية، في طليعتها هذا الحزب الصفويّ الفارسيّ الذي رغب عاكف أن يدعمَه بآلاف المقاتلين، فضلاً عن أنّ فلسطين أقرب إليه من لبنان، وأهل فلسطين أشد حاجةً لدعمه السخيّ!..
* * *
نعود إلى مجزرة سجن تدمر وذكراها الثامنة والعشرين، لنؤكّد على أنّ بعض القيادات الإسلامية تعيش أزمةً حقيقية متعدّدة الجوانب، فهي أزمة عقدية في المقام الأول، ثم أزمة فكرية وشرعية ونفسية، وقبل كل ذلك هي أزمة أخلاقية، لا تلتفت إلى الأخوّة الإسلامية، بقدر ما تلتفت إلى المصالح الشخصية.. أزمة تجعل أصحابها يتنكّرون لإسلامهم وقرآنهم وتعاليم نبيّهم صلى الله عليه وسلم، ليتقرّبوا إلى الطغاة والخونة والسفّاحين، وليدعموا الباطل الواضح بوجه الحق الأبلج.. أزمة تجعل التدليس للطغاة أهم من أعراض المسلمات وأعناق المسلمين ودمائهم وأرواحهم وأموالهم.. أزمة يتنكّر أصحابها لقول الله عز وجل: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71).. كما يتنكّرون لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ المؤمنينَ في تَوَادِّهِم وتَراحُمِهِم وتَعاطُفِهِم، مَثَلُ الجسدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاَعى له سائرُ الجسدِ بالسَّهر والحُمّى) (أخرجه مسلم).
يحتجّون بأنّ النظام الأسديّ يؤوي بعض قيادات حماس، ويغفلون عن أنّ هذا النظام الخائن لفلسطين قبل أن يخون سورية، يستغلّ تحالفاته مع حماس وأمثالها في تثبيت نفسه وحماية عرشه واستمرار نظامه الطاغي المستبدّ!.. ويتجاهلون أن هذا النظام خيار صهيونيّ، وأنّ قادة الكيان الصهيونيّ لا يخفون تصريحاتهم الداعمة لاستمراره، لأنه أفضل نظامٍ يحمي حدود الكيان، ويقمع أي محاولةٍ لتحرير الجولان، فكيف تتفق مصلحة حماس مع مصلحة الكيان الصهيونيّ في بقاء نظام أسد؟!..
الشعب السوريّ شعب أصيل، وهو الظهير الحقيقيّ للمقاومة الفلسطينية، وحركته الإسلامية حركة أصيلة شقيقة لأولئك الذين يدعونها للانضمام إلى صف (الممانعة) الكذّاب، ليبرهنوا للنظام على حسن نواياهم تجاهه من أجل أن يستمرّ في إيواء مجموعةٍ من قيادات حماس، هذا الإيواء الذي قد يكون في بيتي الذي سرقه الطغاة قبل أن يهجِّروني، أو في بيت جاري الذي صادروه بعد أن اعتقلوه وشرّدوا زوجته وأطفاله!.. النظام يستغلّ هذه الحالة لتدعيم تسلّطه والحفاظ على بقائه واستبداده وطغيانه!.. وحجج بعض القيادات الإسلامية لتبرير تدليسها لنظام أسد ساقطة جملةً وتفصيلاً، لأنّ الشعب السوريّ ليس أقل شأناً من الشعب الفلسطينيّ، وسورية ليست أقل أهميةً من فلسطين، وعشرات الفلسطينيين الذين يستشهدون على أيدي الصهاينة ليسوا أغلى من ألوف شهداء سورية الذين يُذبَحون على أيدي النظام السفّاح، الذي يُسَوِّقه هؤلاء ويستفزّون بسلوكهم وسياساتهم مشاعر عشرين مليوناً من السوريين، ولا نعتقد أنّ سورية وشعبها يمكن أن ينسوا هذا السلوك المخزي لتلك القيادات التي فقدت بريقها ورشدها وبوصلتها ومبادئها!..
لقد روى السيد (هلال عبد الرزاق علي)، وهو سجين عراقي سابق في سجون النظام الأسديّ في عهد بشار أسد.. روى قصة مجموعةٍ من الشباب السوريين والفلسطينيين المقيمين في سورية، الذين تجاوبوا مع انتفاضة الأقصى المبارك، فقاموا بمحاولة دعمها، لكنّ أجهزة القمع السورية كشفت أمرهم فاعتقلتهم كلهم، وكان عددهم ثمانيةً وعشرين شاباً، عُزِلوا في السجن، ليعامَلوا معاملةً خاصةً تختلف عن معاملة غيرهم من المعتقَلين!.. فقد كانوا يخضعون لأشدّ أنواع التعذيب النفسيّ والجسديّ، لأنّ جريمتهم تختلف عن جرائم غيرهم بعُرف النظام: دعم الانتفاضة الفلسطينية والتعاطف معها!.. إذ كان هؤلاء يملكون حِسّاً وطنياً خاصاً، ويتألّمون لآلام الشعب الفلسطينيّ المقهور، ويحاولون دعم أهلهم في الأرض المحتلّة ضد اليهود الغاصبين المحتلِّين!.. وكان من بين أولئك الشباب شخص فلسطيني اسمه (نعيم)، يعيش بساقٍ واحدة، لأنّ ساقه الثانية مبتورة.. كان هذا الرجل يتعرّض لصنوفٍ خاصةٍ من التعذيب، والسبب أنه كان خبيراً بجغرافيّة الحدود مع الأرض المحتلّة، وكان يحاول مساعدة أهله في فلسطين، ليدافعوا عن أنفسهم وأعراضهم ضد الصهاينة المجرمين المعتدين!.. فقد كان (نعيم) يُستَدعى للتعذيب يومياً مراتٍ عدّة، فيعذّبونه حتى يتساقط اللحم من جسمه ومن ساقه الثانية الباقية له، وكانت تُسمَع توسّلاته واستغاثته وصراخاته في كل أركان السجن، وكان في كل مرةٍ يُسحَل سحلاً إلى غرفة التعذيب، ويُعاد إلى زنزانته سحلاً أيضاً، لأنه لا يقوى على السير بساقٍ واحدة!..
* * *
السوريون، انطلاقاً من أخوّتهم الإسلامية مع كل المسلمين، يعتبرون أنّ واجبهم يفرض عليهم متابعة أخبار المسلمين في كل مكان، لذلك فالسوريّ يعرف أخبار المسلمين وأوضاعهم في كل الدنيا، يتفاعل معهم ويتقصّى أخبارهم وسياساتهم ويتعاطف معهم، بينما بعض القيادات الإسلامية لا تعرف شيئاً عن دمائنا التي تسيل، أو عن أعراضنا التي تُنتَهَك.. لماذا يا سادة تكونون عوناً للمجرمين الظالمين على إخوانكم وأخواتكم؟!.. لماذا لا تسمعون أنّات الثكالى؟!.. لماذا تتناسون حتى الآن أنّ القانون رقم 49 لعام 1980م يحكم بالإعدام على مجرد الانتماء إلى الحركة الإسلامية الشقيقة لكم؟!.. وقد أعدم (الممانِعون) بموجبه وما يزالون يعدمون عشرات الآلاف من إخوانكم السوريين؟!.. بل صدرت أحكام بحق الأبناء والأحفاد لمجرّد كون آبائهم وأجدادهم من أبناء الحركة الإسلامية، وبأثرٍ رجعيّ؟!.. كيف يطالب المرشد العام المصري إخوانه السوريين بالانضمام إلى الخونة الأسديّين الذين باعوا فلسطين والجولان ويتفاوضون حالياً مع العدوّ الصهيوني لحفظ كراسيّهم.. ولا يطالب هؤلاء الخونة بإلغاء القانون رقم 49 الذي يُعدَم بموجبه إخوانه وتُستَبَاح أعراضهم ودماؤهم وأموالهم؟!.. لماذا لا يطالب (مهدي عاكف) نظامَ الممانعة المزعوم، بالسماح لملايين المهجّرين والمنفيّين من عائلات إخوانه السوريين بالعودة إلى بلدهم سورية، وبردّ كل حقوقهم المستَلَبة التي كفلتها لهم شرائع الأرض والسماء؟!..
عشية ذكرى مجزرة سجن تدمر المروِّعة، تعيش قيادات إسلامية أزمةَ ضمير، وأزمة مبرّرات وجود الحركة الإسلامية أصلاً، حركةً أصيلةً واضحة الأهداف والمعالِم، تُضحّي بالروح والدم والمال في سبيل الله عز وجل، دفاعاً عن الشرف وألق الطريق وصفائه.. حركةً أسّسها الرجل العظيم (حسن البنّا)، ودفع حياته ثمناً للهدف الذي أسّس من أجله حركته، ولم يدرِ أنه ستكون من بعده قيادات تبيع وتشتري، ويصبح الطغيان في فكرها وسياستها وجهةَ نظر، خاضعةً لخيار الأجر أو الأجرَيْن، أو لخيار المصلحة الشخصية وفنادق الخمس نجوم والشقق الحديثة والسيارات الفارهة!..
على الجيل الجديد الشاب من أبناء الحركات الإسلامية المنبثقة عن حركة الإمام (حسن البنّا)، أن يقولَ كلمته، وأن يهبَّ لتصحيح المسار الذي يزداد ابتعاداً عن الأصالة يوماً بعد يوم، للعودة إلى صفاء الفكرة ونقاء الفكر ومَبدئية السياسة وأصالة المنهج الربّانيّ، لأنّ التخبّط والمنهج التبريريّ الشائن، هو السبب الرئيس لعدم استحقاق نصر الله عز وجل.. فالله عز وجل لا ينصر بضعة رجالٍ على حساب شعوبٍ تُجلَد بسياط الجلاّدين، حتى لو كان هؤلاء الجلاّدون الطغاة، بنظر بعض القيادات الإسلامية، ممانِعين أو مقاوِمين!..
*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام