مزيج من النصب والتسول
مزيج من النصب والتسول
أ.د/
جابر قميحةإنها واقعة لا يمكن أن أنساها مع أنها قد مر عليها أكثر من نصف قرن، وخلاصتها: ـ وقد كنت طالبًا في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة ـ: حملت حقيبتي في يوم خميس واتجهت إلى المحطة لاستقل الأتوبيس المتوجه إلى المنزلة مسقط رأسي , لأقضي هناك يومي الخميس والجمعة، وكانت هذه عادتي كل أسبوع، ثم أعود إلى كليتي لاستأنف دراستي. كان موقف الأتوبيس قريبًا من محطة القطار، وكنا قرابة المغرب، وللأسف فاتني آخر أتوبيس، ولكني رأيت شخصا يظهر عليه جمال السمت , ووقار المظهر، وقد أمسك بمسبحة . وهو في قرابة سن الأربعين، وكان يحرك شفتيه دائمًا ذاكرًا الله على حبات المسبحة، وكان كامل الزي، بمظهر يشد النظر وخصوصًا ـ ربطة الكرافت ـ والدبوس الفضي الذي يحكمها، ألقيت عليه السلام , وسألته، هل هناك أتوبيسات إضافية ؟، فقال: لا. وسألني عن وجهتي فقلت: إنني ذاهب إلى بلدي المنزلة دقهلية، (ودار بيننا الحوار التالي) :
ـ هذا من حسن حظي، وحسن حظك.
ـ هل أنت من المنزلة؟ هل أنت ذاهب إلى المنزلة؟ (قلتها بلهفة شديدة) .. ـ لا , ولكني من دكرنس، وهي قبل المنزلة بقرابة 25 كيلو ,أي أن المسافر إلى المنزلة لابد أن يمر بها . والحمد لله سأجد رفيقًا معي في سيارتي الملاكي.
ـ معذرة لقد نسيت أن أتعرف على سيادتك.
ـ أخوك مصطفى جمال العتباني، أعمل مديرًا عامًا في هيئة التصنيع الإنتاجي، وقد تعودت أن أذهب إلى دكرنس كل خميس لأخطب الجمعة في المسجد الكبير. وإذا تخلفت مرة واحدة تكون البلدة كلها في حزن شديد.
(وعرفته بنفسي) , فابتسم وقال: جميل جدًّا , إذن هستفيد منك علميًّا طول المشوار، وهذه تسلية كبيرة لي، ومن يدري ربما آخذ الموضوع الأساسي للخطبة من كلامك.
ـ (بعد لحظات من الصمت) ولكن ما الذي أجلسك هنا؟
ـ كنت أودع صديقًا ذاهبًا إلى بلده.. مسقط رأسه.
ـ لماذا لم يركب معك؟
ـ لأنه مسافر إلى الفيوم، أما أنا فسأسافر إلى دكرنس.
ـ ولكن كيف يتفق المشواران في مشوار واحد، المنزلة ودكرنس؟
ـ (ابتسم وقال): يا سيدي أوصلك إلى المنزلة , وأشرب معك فنجان شاي، وأعود إلى دكرنس، لن تستغرق المسألة أكثر من ساعة... أفوز بالشاي... وأفوز بصداقة أخ طيب صالح كما يبدو عليك: أنا معك الآن , واقوم بإحضار سيارتي في الوقت الذي تختاره.
ـ (وبعد ربع ساعة) قلت له: أعتقد أن هذا الوقت مناسب، وسأنتظرك هنا، قال: لا... بل تنتظرني في المقهى الذي يبعد من هنا أمتار، تأخذ قهوة على حسابي إلى أن أحضر السيارة من الجراج المجاور .
قمت معه وأصر على أن يحمل حقيبتي بنفسه ، كانت الحقيبة خفيفة الوزن ,فليس فيها إلا بعض الكتب، وملابس قليلة، ولكن فيها 92 جنيهًا. حمل الرجل الطيب حقيبتي ، وجلسنا بمقهى في شارع جانبي من محطة باب الحديد، ونادى عامل المقهى، وشربت شايا, وشرب هو قهوة.
وأخرجت خمسة جنيهات لأدفع ثمن المشروبَـيْن ، فلما جاء العامل ابتسم الرجل وأخذ مني الورقة ذات الجنيهات الخمسة , وقال: القهوة قهوتنا، وهو مش هيرضى ياخد منك لأنه عارف أنك ضيف. ووجه وجهه إلى العامل وقال له: مش كده يا فؤاد. فأجاب العامل: طبعًا أحنا نشيل ضيوفنا فوق دماغنا، ثم نهض الرجل الطيب، وفي يده الورقة المالية، وأستأذنني في أن يأخذ حقيبتي ليضعها في شنطة سيارته، وقال:
ـ سأحضر بالسيارة بعد ثلاث دقائق.
وكنت أتمتم بيني وبين نفسي: يا سلام الدنيا لسه فيها ناس طيبين يا ناس !!!.
ومرت ثلاث دقائق ... وساعة، وثلاث ... فناديت فؤاد:
ـ فؤاد ... فؤاد ... فلم يرد (عليّ العامل ):
ـ أنت ما بتردش ليه يا فؤاد؟
ـ فؤاد مين يا بيه؟
ـ أنت يا أخي.
ـ أنا اسمي حسن يا بيه.
ـ الله !!! لكن الأفندي الذي كان معي خاطبك باسم فؤاد، وتحدث إليك بهذا الاسم؟!
ـ ماذا أقول ؟!... وافقته على كلامه! يعني أعمل إيه ؟ أعملها قضية ؟ أقول له أنا مش فؤاد يقول لي..لأ أنت فؤاد.؟. وفاتت على خير.
ـ الله لكنك تعرفه.
ـ أنا ؟ دي أول مرة أشوفه فيها في حياتي.
(وأخذني ما يشبه الذهول ومرت ساعتان ... خمس ساعات... والكل انصرف، ولم يبق في المقهى إلا أنا، ولم أفق إلا على صوت العامل):
ـ خلاص يا بيه... هنشطب يا بيه.
ـ طب والرجل اللي كان هنا؟
ـ أنا ما أعرفوش يا بيه، ولأول مرة في حياتي أشوفه.
ـ الله يعني أبلغ البوليس؟
ـ براحتك يا بيه، بلغ 100 بوليس وأنا شاهد على ما رأيت.
ـ ودارت بي الدنيا، لا من أجل شعوري بوقوعي في عملية نصب، ولكن لأنني لا أحمل في جيبي مليمًا واحدًا.
كيف أصل إلى بيتي في الدقي ؟ ...خطر لي أن أقترض من العامل عشرة قروش، ولكني استحيت. وكان الحل أنني ـ ركبت تاكسي ـ إلى مقر سكني وأيقظت بواب العمارة لكي يقرضني خمسين قرشًا. وصعدت إلى مسكني وأنا أشعر بأن الدنيا كلها، تضحك ساخرة مني. أأقع ـ بهذه السهولة والسذاجة ـ فريسة لنصاب ؟؟.
وأعود فأقول إنها واقعة لا يمكن أن أنساها على الرغم من أنه قد مضى عليها، أكثر من نصف قرن، وقعت لي أيام أن كنت طالبا في الجامعة.
**********
أما الآن فقد تطور النصب، وتطورت أساليبه، واتسع لكي يمتزج بالتسول في عصر التكنولوجيا والحزب الوطني الذي جعل شعاره "فكر جديد ... فكر جديد".
فالتسول أصبح في مصرنا المطحونة - وخصوصًا القاهرة والمدن الكبري - وسيلة مهمة جدًا من وسائل التكسب, ولا أقول التعيش, فالمتسول لم يعد يتوقف عند حد الكفاية, أي عند ما يكفيه ليومه أو أسبوعه, بل أصبح المتسول منهومًا بالمال, وأصبح دخل الواحد منهم يصل إلي عشرات الجنيهات يوميًا.. ولا يرتوي, ولا يكتفي حتي كاد يصدق عليه قول الشاعر:
كالحوت لا يرٍويه شيء يطعمُـهْ يصبح ظمآنَ وفي الماء فمُـهْ
التسول بـ" فكر جديد "
ومن فضول القول أن أذكر - في هذا المقام - أن المتسول هو دائمًا صاحب «اليد السفلى» أي اليد التي «تأخذ», أما اليد العليا فهي اليد التي تعطي. وأذكر أننا - في العهود المسماة بالبائدة, أي قبل قيام الميمونة سنة1952- كان الواحد منا يتصدق علي المًتسول بالقرش والقرشين, أما المتصدق بالشلن - أو الشلمٍ كما ينطقها العامة – أي خمسة قروش , فيكيل له المتسول من الدعوات والتعظيمات ما يغرق أسرة من المتصدقين في وقتنا الحاضر, مع ملاحظة أن الشلن - أو الشلم - يعني خمسة قروش, أيامها كان الجنيه المصري يساوي جنيهًا استرلينيًا, بل يزيد قليلاً.
وقد حقق المتسولون ما لم تحققه حكومات الميمونة, فرفعوا تسعيرتهم - عرفيًا - إلي مائة ضعف, ولو أخذ الدكتور احمد نظيف بمنطق المتسولين لرفع مرتب الموظف الحاصل علي شهادة عالية إلي 5200 جنيه شهريًا, ولكننا نري أن «جديد» المتسولين, نجح نجاحًا ساحقًا, أما «جديد» الحزب الوطني فسقط سقوطا ذريعًا.
واعتمادًا علي رؤيتي الميدانية يمكن تقسيم التسول أقسامًا متعددة تبعًا لأساس التقسيم أو التصنيف: فبالنظر إلي «مكان» أو «مسرح» التسول يمكن أن نري نوعين: " التسول الثابت " فالمتسول يحتل مكانًا ثابتًا, ويمد يده طالبًا الصدقة, وغالبًا ما يكون طاعنًا في السن, أو ذا عاهة حقيقية - أو مفتعلة, وكثيرًا ما يكون معه طفل أو طفلان في هيئة رثة زرية..
أما «التسول المتحرك» فنري فيه المتسول لا يثبت في مكان واحد - قاعدًا, أو واقفًا - ولكنه يسعي, ويتنقل من مكان إلي مكان, وقد تكون مواقع المساجد هي المقصودة أيام الجمع.
وبالنظر إلي عنصر الزمن: نري التسول الدائم, أو التسول المهني, أي الذي يتخذه المتسول «مهنة» دائمة, لا يسلوها ويتركها إلي غيرها, بعد أن رأي, وعاش دخلها الوفير.
وهناك التسول الموسمي, وفي هذه الصورة لا يمثل التسول «مهنة» دائمة, ولكن يظهر المتسول في مواسم الأعياد, والسياحة فقط» لأنه «صاحب مهنة», والتسول يمثل عنده «دخلاً موسميًا إضافيًا», وغالبًا ما يقوم بهذه المهمة الأولاد والبنات بدفع من آبائهم طبعًا.
وبالنظر إلي وسيلة التسول نري نوعين: التسول الصريح, أو المباشر,
والتسول الخفي, أو المتواري, أو غير المباشر, والأول يتمثل في شخص يمد يده صراحة, طالبًا الصدقة, أو المساعدة بعبارة, أو عبارات معروفة مثل: حاجة للّّه يابيه ربنا يزيدك من نعيمه, أو ساعدني ربنا يكرمك... إلخ".
والثانيي يتمثل في شخص مريض, أو متمارض يعرض أشياء رخيصة كالليمون, أو النعناع, أو المناديل الورقية. وغالبًا ما يمنحه الناس الصدقة دون مقابل من بضاعته الرخيصة.
وبالنسبة لأيٍلولة الدخل نجد الغالبية العظمي من المتسولين يعملون لحسابهم أي يكون دخلهم لهم دون تدخل من الآخرين. وهناك قلة قليلة جدًا تعمل لحساب الآخرين, وقد رأيت بنفسي حالة غريبة جدًا من هذه الحالات: متسولاً طويلاً نحيلاً يرتدي جلبابًا بلا كُمّين لأنه مقطوع الذراعين تمامًا, وهو كذلك مقطوع الرجل ويقف علي قدم واحدة يحجل, ويتنقل بها بين السيارات أمام حديقة الحرية, ومنطقة كوبري الجلاء من ناحية دار الأوبرا بحي الدقي بالجيزة, ولجلبابه جيبان واسعان عميقان علي جانبيه. كان منظره يدعو للرثاء والشفقة حقًا, لذلك كان أصحاب السيارات - وهي غالبًا ما تتوقف أمام الإشارة - يصبون في جيبه العملات الورقية, لأنه بلا ذراعين - كما ذكرت آنفًا - وظهرت حقيقة الرجل: فهو «يسرّحه» ثريان, وجيباه يغصان بمئات الجنيهات كل ساعتين أو ثلاث, فيتجه "نطّا" إلي حيث تنتظره سيارة مرسيدس يملكها ثريان, وهي تنتظره بعيدًا عن موقع سعيه , فيفرغان ما في جيبه, ويطعمانه ويسقيانه ما لذ وطاب, وتتكرر هذه العملية عدة مرات في اليوم, وبعد الغروب تحمله السيارة إلي حجرة مخصصة لمبيت هذا «الكنز» المفتوح لثريين جشعين. ويتكرر هذا الدور كل يوم, ولا حول ولا قوة إلا باللّّه.
وللتسول وسائل متعددة
والوسيلة الشائعة - التي لا تكلف المتسول شيئًا - هي العبارات التي تستدر عواطف الناس, وتثير شفقتهم, وقد يلجأ بعض المتسولين إلي شرح حالهم, وما يعانون في حياتهم من جوع ومرض وحرمان.
وفي منطقة الدقي رأيت «شخصًا» قوي البنيان يتسول بطريقة يمكن أن نسميها طريقة «الآلة الكاسدة», إذ يحمل علي ظهره «عجلة» كبيرة بها" مِسَنّ " لشحذ السكاكين, ومعروف أنها مهنة «ماتت», لأن البيوت تستخدم مسنات منزلية صغيرة في حجم الكف, منها اليدوي, ومنها الكهربي. وكان هذا المتسول الذي وضع ذراعيه في «سيرين» من الجلد تحكمان وضع العجلة الثقيلة علي ظهره.. كأنه يقول بلسان الحال: " هذه مهنتي ماتت, فلا دخل لي, فأعينوني حتي أعيش".
ومن «جديد» التسول استخدام الأطفال الذين يستدر بهم المتسول عطف الناس. والمفزع الذي يمثل كارثة حقيقية أن هؤلاء الأطفال لا يمتون للمتسول بأية صلة قرابية, ولكنهم يُستأجرون من أهاليهم الفقراء الذين يمنعهم الحياء من التسول, وسعر الولد لمدة ثماني ساعات (من الصباح إلي المغرب) من 25 إلي خمسين جنيهًا, تبعًا لحالة السوق, وقد تزيد التسعيرة في الأعياد. وقد تأكدت من صحة هذا الواقع, إذ لاحظت أن المتسول «أبو مسنّ» علي ظهره, يستخدم في تسوله طفلين متغيرين كل يوم أو يومين. وهذه الظاهرة تزداد وتتفاقم مع ازدياد الحال سوءًا وترديًا.. .
ومن الوسائل التقليدية المستهلكة ادعاء الشلل أو العاهة, وتجبيس الرجٍل, والجلوس علي «عجلة المعوقين» التي يدفعها شاب أو طفل - مستأجَر طبعًا - إما بمبلغ محدد سلفًا, أو بنسبة من دخل المتسول الدعيّ.
وفي بداية العام الدراسي, أو قبلها بأسبوع أو أسبوعين نري صورة جديدة من صور التسول. وأعرض واقعة رأيتها بنفسي: سيدة يبدو عليها أنها محترمة تقدمت إليّ في هدوء, ومدت إليّ يدها «بدوسيه» من البلاسٍتيك الشفاف ليس به إلا ورقة واحدة مكتوبة بالكمبيوتر تتصدرها عبارة «المطلوب من الطالب فلان:00 21 جنيه مصروفات - 252 جنيها كُتب دراسية - 500 جنيه أوتوبيس.. إلخ. وسألت السيدة: ماذا تطلبين? أطرقت بناظريها إلي الأرض حياء. وقالت: يابيه أنا لست متسولة, ولكني أجمع المصروفات الدراسية للولد من أهل الخير من أمثال سيادتك. سألت: وأبوه? أجابت: تعيش أنت. قلت: ممكن أخدمك بطريقة أكثر فاعلية, لأن مدير المدرسة صديقي, ويمكن تخفيض المصروفات إلي النصف إن شاء اللّه. قالت: ياريت يابيه, ولك ألف شكر. سألتها: لكن ممكن من فضلك أشوف بطاقتك?!! ظهر الاضطراب علي وجهها, وشدّت الدوسيه من يدي, وهي تقول في غضب ممزوج بالخوف: لا.. لحد كده لأ.. أنا قلت لك من الأول أنا لست متسولة, وسؤالك الأخير يدل علي أنك لاتثق فيّ».. وانصرفت السيدة «المحترمة», وهي تهذي بكلمات متدافعة, لم ألتقط منها إلا عبارة «.. أعوذ باللّه, الدنيا حصل فيها إيه ياناس?» ووجدتني أقول بيني وبين نفسي: حصل فيها كتير.. كتير قوي ياست..
علي مدخل مترو الأنفاق
كثيرًا ما أفضل - أنا وابني - استخدام مترو الأنفاق لاحتمال عدم وجود مكان لوقوف السيارة وسط القاهرة حتي في الجراجات العامة المخصصة, وعلي مدخل محطة البحوث بالدقي رأيت فتاة في قرابة الخامسة عشرة من عمرها, وهي جالسة علي أول سلمة من درج المدخل, وقد دفنت وجهها في كفيها وتبكي بكاءً مرًا, وقد تجمع عدد من الناس حولها, ومنهم واحد يقول: كل واحد بإيده يا إخواننا.. وادي جنيه مني. سألته:
- ما الخبر? أجاب: بنت غلبانة.. كانت متجهة للسفر إلي بلدها.. المنصورة, فنشلت منها الفلوس, سألتها فأكدت كلام الرجل.. ودموعها تسيل بغزارة.. سألتها: من أي حيّ.. أو شارع في المنصورة يابنتي?.. نظرت إليّ, ولم تجب.. وأجهشت بالبكاء. قال الرجل «الخيّر» الذي فتح يده لجمع ما يعين الفتاة علي السفر «يا أستاذ حرام عليك.. حتبقي سيادتك والزمن عليها!!» قلت: «علي كل حال محلولة.. أنا مسافر الآن أنا وابني إلي المنصورة.. قومي يا بنتي.. سأوصلك حتي باب بيتكم في المنصورة» ولكن البنت انخرطت في موجة من البكاء أشد وأعتي.
تركت البنت ومَن حولها - إذ لم أجد منها استجابة, وهبطتُ أنا وابني إلي آخر الدرج, وفجأة سمعنا أحدهم يصرخ: «حرامي.. حرامي» واختفت البنت, واختفي الرجل الخيّر الذي نشل "حافظة" أحد الواقفين المتزاحمين في المدخل الضيق لمترو الأنفاق, علمت أن الرجل الخير نشال «يوظف» هذه الفتاة لتمثيل هذا الدور, وهذا التزاحم يمكنه من النشل بالمرتاح.
**********
ومن أواخر وقائع النصب ما قد يجهله كثير من الناس... أعني الواقعتين الآتيتين:
الأولى: أن الناس كانوا يتأهبون لصلاة الظهر، فدخل ناس يبدو عليهم علامات الأسى والحزن، ووضعوا النعش الثقيل أمامهم ليصلوا على الميت بعد الانتهاء من صلاة الظهر.
وبينما الناس يتأهبون للصلاة على الميت، دخل ستة رجال أقوياء أشداء وصرخوا : هذا فلان مات وتركنا للإفلاس بعد أن أكل حقوقنا، ومات مدينًا لنا بخمسة عشر ألف جنيه، فقال الثاني: لا يمكن أن نسمح بدفنه إلا إذا تقاضينا الدين الذي عليه، ونظر الناس إلى أهل الميت، فرفعوا أيديهم وقالوا: نحن لا نملك شيئًا. وكثر اللغط في المسجد، وأخرج كثيرون من المصلين ما في جيبه إلى أن جمعوا قرابة سبعة آلاف جنيه، وسلموا المبلغ للثائرين الصاخبين , وبدأت الصلاة على الميت. وفجأة اختفى "أهل الميت ومن تمردوا على الميت وأهله". وانتظر الناس من سيقوم بدفن الميت فلم يحضر أحد، فكشفوا عن النعش فوجدوا بداخله مجموعة من الحجارة الثقيلة.
والواقعة الثانية: تتلخص في أن أحد التاكسيات كان ينطلق في طريق السادس من أكتوبر في الثانية من الصباح، فاستوقفه أحد المواطنين وجلس في المقعد الخلفي، وبعد دقائق استوقفه "زبون آخر" مهيب المنظر، يلبس ملابس بيضاء ناصعة البياض، وجلس في المقعد الأول، وبعد دقائق من الصمت، قال للسائق: اسمع أنا سأتحدث إليك الآن بوحي من ربي، ولن يسمعني غيرك، أنت ستموت بعد عشرين دقيقة، فإن كنت قد ارتكبت ذنبا فاذهب إلى المسجد المجاور, وتوضأ, وصل لله ، واستغفره، أستمعني ؟، فارتبك الرجل وقال: نعم. سأل الزبون الذي يجلس على المقعد الخلفي، وقال للسائق هذا الرجل الذي يجلس بجانبك: هل هو أبكم؟ إنني لم أسمع له صوتًا من لحظة ما ركب. فقال الرجل ذي الزي الأبيض المهيب: ألم أقل لك أنني مهما تكلمت فلن يسمعني أحد إلا أنت. فقال الجالس في الخلف: سله من أين بلد هو؟ أو أين سينزل أو ... إلخ.
وبذلك قدم الدليل على صحة ما قال الرجل المهيب، وهو أنه لا يسمعه إلا السائق، ثم "وفي خوف رهيب" ترك السائق الرجلين في السيارة .ودخل المسجد المجاور، وصار يستغفر ربه وهو يبكي بكاءً مرًا. وغادر المسجد بعد ذلك، فبحث عن السيارة فلم يجدها، فصرخ وأخذ يجري يمنة ويسرة ويصرخ: عربيتي .. عربيتي.. وبعد ذلك أدرك أنه وقع ضحية جريمة نصب، اشترك فيها الراكبان.
إنها نظرات ميدانية لواقع يعيش، ويتفاقم في مجتمعنا المصري المطحون المحروق،, ومازال في جعبتي ما يقال في هذا الموضوع, قد أعرضه في مقال آخر إن شاء اللّه فيما بعد.