يا من كنت للدقهلية محافظا
يا من كنت للدقهلية محافظا
أ.د/
جابر قميحةأقر وأعترف ـ دون مجاملة ـ بفضل اللواء أحمد سعيد صوان عليّ , وهو اعتراف دائم , لا ينقطع , ولا ينقضي , لا أثناء شغله منصب محافظ الدقهلية ,ولا بعد عزله من بضعة أيام . وفضله هذا يدفعني أن أدعو له دائما بأن يخفف الله عته عذاب الجحيم يوم الحساب .
أما فضله هذا فيتلخص في أنه ما خطر ببالي إلا جعلني أكفر , وأزداد كفرا بالنفاق , وطبعا جاء ذلك عفوا , دون قصد منه . ولنبدأ المسيرة من أولها ... تاريخا...
وتنظيرا...وتقعيدا...وتطبيقا :
**********
لم يستخدم العرب في الجاهلية لفظ «النفاق» بمعناه الاصطلاحي المخصوص به, وهو ستر الكفر وإظهار الإسلام, أو إظهار الإنسان عكس ما يبطن, ولم يعرف المسلمون النفاق في العهد المكي لأنه لم تكن هناك داعية تدعو إليه. وإنما بدأ النفاق في المدينة, لذلك ليس هناك آية مكية واحدة فيها كلمة «النفاق», أو ما يشتق منها .
وقد فضح القرآن هؤلاء المنافقين, وقدمت سورة البقرة (في الآيات من 8 إلي 16) صورة جامعة لهم, وكذلك آيات أخري في سور: التوبة والمنافقون والنساء.
ومن ملامحهم: الكذب والخداع والجبن والغدر والضلال والغرور والنفعية والتذبذب والتردد.
وعنهم قال تعالي: {مذبذبين بين ذلك لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} [النساء: 143].
ولخطورة النفاق حكم اللّه سبحانه وتعالي علي النفاق بأنه كفر, وأن مصير المنافقين والكفار سواء. يقول تعالي: {..ان الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا} [النساء: 140].
ولكن المنافق - من الناحية العملية - أضل وأسوأ من الكافر ؛ لأنه ساواه في الكفر, وزاد عليه الخداع والتضليل. كما أن عداوة الكافر عداوة صريحة يواجه بها المسلم, ويواجهه المسلم علي أساسها, ولكن المنافق يبطن الكفر والعداوة, ويتخذ من إسلامه الظاهري «جُنّة» تحميه, وأحكام الإسلام تدور علي الظاهر, وعلي اللّه السرائر. قال الراغب الأصفهاني: لقد جعل اللّه المنافقين شرًا من الكافرين إذ قال: {ان المنافقين فى الدرك الاسفل من النار} [النساء: 145].
**********
واتبع المنافقون - للإضرار بالإسلام والمسلمين والنبي صلي اللّه عليه وسلم - أحط الوسائل وأخسها. ومنها الجرائم الآتية:
1 - العمل علي إشعال الفتنة بين المهاجرين والأنصار أثناء عودة المسلمين إلي المدينة بعد إحرازهم النصر علي بني المصطلق.
2 - الإساءة والتشهير, بالنبي صلي اللّه عليه وسلم وأهل بيته: ومن ذلك زعمهم أنه «أُذن» . وشر من ذلك إتيانهم بالإفك علي عائشة زوج الرسول صلي اللّه عليه وسلم
4 - موالاة أعداء الإسلام من اليهود والكفار..
5 - بناؤهم «مسجد الضرار» الذي اتخذوا منه وكرًا للتآمر والغدر وضرب الإسلام.
6 - محاولتهم اغتيال النبي صلي اللّه عليه وسلم وهو عائد بالمسلمين إلي المدينة من تبوك .
نفاق العمل» فهو الذي أبان عنه قول رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم «أربع من كن فيه كان منافقًا, وإن كانت خصلة منهن فيه كانت فيه خصلة من النفاق حتي يدعها: من إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا خاصم فجر, وإذا عاهد غدر»..
وسواء أكان النفاق نفاق تكذيب أم نفاق عمل فإنه يعتمد بصفة أساسية - وخصوصًا في وقتنا الحاضر - علي خاصيتين أساسيتين هما: الكذب: أي مخالفة الواقع النفسي والواقع الفعلي المادي.
والإسراف والمغالاة في التوصيف, ويظهر ذلك - بأوضح صوره - في العلاقة بين المحكوم والحاكم. فيخلع الأول علي الثاني - رهبة أو رغبة - صفات الذكاء والقدرة والتقوي والصلاح والحنكة, وهو في واقعه يتمتع بالغباء والخور والفساد والتهتك.
وبذلك يدخل المنافق في عداد الكذابين, وكذبه هنا «جريمة كبيرة مركبة»: فهو يكذب علي اللّه, ويكذب علي نفسه, ويكذب علي من نافقه, ويكذب علي الأمة
**********
وأهدي الواقعة التاريخية التالية للسيد اللواء الدكتور أحمد سعيد صوان وخلاصتها: حمل زياد بن أبيه في خطبته البتراء علي أهل البصرة بقسوة وشدة أرعبت الناس, فقام إليه أحد الحضور -واسمه عبد الله بن الأهتم- وقال: «أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب». فقال زياد -بصوت عال عنيف: «كذبٍت.. كذبت يا رجل فذلك لم يكن إلا لنبي الله داود عليه السلام». وبعدها لم يعرف أهل البصرة إلي النفاق سبيلا..
والأداء التعبيري يجب أن يتناسب - في المبني والمعني- مع مكانة المتكلم وأبعاد شخصيته.. في المجال الذي يشغله, يستوي في ذلك مجالات السياسة, والعلم والثقافة, والقضاء.. وغيرها, لأن «الأسلوب هو الشخصية». فأسلوب الأمراء والقادة والنبلاء غير أسلوب السوقة والدهماء وعامة الناس, وبقدر ارتفاع الموقع والمنصب الذي يشغله الشخص - إمارة وقيادة ورياسة- تُشد الأنظار, ويعسّر الحساب, وذلك لسببين::
الأول: الشهرة والانتشار لكلمة القيادي أو قراره.
والثاني: خطورة التأثير نفعا أو إضرارا, ولاقتداء الناس بالقيادي, أو تنفيذ ما يصدر عنه جبرا أو رضاء.
وأجدني أذكرك ـ يا سيد صوان ـ باليوم العجيب الغريب في حياتك , وحياة أبناء الدقهلية جميعا , وأنا واحد منهم ....إنه يوم سبت , لا أغرّ , ولا ميمون ..
إنه يوم السبت الخامس من فبراير سنة 2005... يوم افتتاح أسبوع شباب الجامعات بالمنصورة, ولأنني واحد من أبناء الدقهلية جلست أمام التلفاز أسمع وأشاهد مظاهر هذا الافتتاح الذي حضره رئيس الجمهورية, ورجال الوزارة, وكبار النبلاء من قادة الحزب الوطني (حزب الأغلبية «الساحقة»(!!).
وسمعنا فيما ألقي من كلمات أرقامًا عجبًا: مائة وعشرين ألفا -خمسة آلاف- خمسة ملايين.. والأرقام يقصد بها بشر من بني آدم هم «الرعايا» من أبناء الدقهلية من أمثالي :
فالسيد المبجل الدكتور مجدي ريان -رئيس جامعة المنصورة- يتحدث إلي الرئيس مبارك قائلا: «... باسم مائة وعشرين ألف طالب وطالبة في الجامعة وخمسة آلاف عضو هيئة تدريس وتسع عشرة كلية تضمها الجامعة, نناشدكم النزول علي رغبة الملايين من أبناء مصر بالترشيح لفترة رياسة جديدة...
«ليحصد البريمو» فدخل عالم الملايين وأعلن أنه يتحدث بالنيابة عن خمسة ملايين هم أبناء الدقهلية, وناشد الرئيس أيضا أن يستمر في حكم مصر...
ثم فجّر الرجل قنبلة «نظيفة» لا تخطر علي ذهن مخلوق.. ولا الجن الأزرق. فقال بالحرف الواحد: «إن الدقهلية لن تنتظر إلي مايو أو يونيو لتعلن استمرارك في قيادة البلد, لكنها تعلنها الآن من المنصورة من خمسة ملايين مواطن...»
**********
لقد كان اللواء «صوان» -محافظ الدقهلية- يتحدث بحماسة واندفاع وحرارة, واشتعل الرأس منه حماسة وانفعالا وحرارة, وهو يفجر قنبلته الأخيرة.. أي قراره الأخير. وأمام قنبلته هذه شعرنا -دون مجاملة له- أنه ينطلق من عدة منطلقات قوية متماسكة.. شعرنا كأنه ينطلق من منطلق «الثقة بالذات» فهو يري نفسه جديرا بتمثيل خمسة ملايين (مرة واحدة). وشعرنا كذلك كأنه ينطلق من منطلق الثقة الغيرية.. أي ثقة الجماهير فيه بأن يكون «ممثلا».. نعم.. ممثلا لهم.. وعنهم : إرادة وتفكيرا و تعبيرا.
وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أن اللواء شرطة الدكتور صوان قد «حسم» المسألة بصورة تدعو ضمنيا إلي عدم الحاجة إلي إجراء استفتاء علي رياسة الجمهورية لسببين طرحهما السيد ل. ش (صوان) وهما:
1- أن خمسة ملايين صوت تُجمع علي بقاء الرئيس مبارك فيها «الكفاية».. وزيادة .
2- أنها -أي الملايين الخمسة- أعلنت وقررت علي لسان السيد المحافظ صوان استمرار مبارك في الحكم .
وإني أسأل..يا صوان ...
وساءلت نفسي -وأنا واحد من أبناء الدقهلية- بـأي منطق يتحدث هذا الرجل , وفي الحفل وزراء وقادة ومحافظون وأساتذة جامعيون ومحامون وقضاة..? وهو يعلم أن أبناء الدقهلية علي مستوي عال من الثقافة والتفكير?
وعلي افتراض صحة الرقم المليوني هذا, من أنابه منهم وسمح له بأن يمثلهم, ويتحدث باسمهم? أهي ثقة في شخصيته, فهو مقصود بذاته -لا غيره- بهذه الإنابة وهذا التمثيل? أم هي ثقة من «الرعايا» في المنصب ذاته? ولو صح هذا لكانت كارثة نفسية, وإلغاء لإرادة خمسة ملايين من البشر.بل إلغاء لشخصياتهم
ثم أليس في هذه الملايين الخمسة كارهون للنظام والحكم بسبب المشكلات القاتلة التي أغرقتهم?
ثم أليس ما قلته -يا محافظ - يمثل نوعًا من «التزوير الجماعي»
ثم ألم تر يا سيدي اللواء صوان أنك بمقولتيك: (إنابة الملايين لك, وقرار استمرارية الحكم المباركي من الآن بقرار انفرادي) قد قمت -زيادة علي التزوير بالادعاء- بعملية «ردة سياسية»?! ردة إلي ما قبل الميمونة في العهود التي يسمونها بائدة , أيام أن كان «الباشا» هو كل شيء في القرية والعزبة والنجع.. وأصوات الفلاحين كلها في جيبه. آه... رحمك الله يا عرابي إذ رفضت في قوة مقولة الخديو توفيق: «إنما أنتم عبيد إحسناتنا»..
ثم ألا تري يا سيدي اللواء شرطة «صوان» أنك أحرجت بقية المحافظين ؛ لأنك لم تترك لهم شيئًا بعد أن أعلنتها من المنصورة بقرار امتداد الفترة الرياسية الخامسة من الآن, بعد عجزك عن الصبر إلي مايو أو يونيو?
ثم إني أعتقد أنك أحرجت الرئيس مبارك ضيف المحافظة» ؛ لأنه يرفض أن يتخذ واحد من محافظيه قرارًا -هو موضوعه- دون أن يُـسْتأذَن فيه .
ثم إنك فتحت بابًا واسعًا جدًا للنفاق وإهدار ملايين الجنيهات- بعد إهدارك إرادتنا نحن أبناء الدقهلية.
افتح – يا محافظ - , وافتحوا - أيها الرعايا- الصحف لتقرأوا عشرات الصفحات من الإعلانات للمحافظة.. والشركات.. والنقابات والمحلات والمصالح تناشد الرئيس الموافقة علي التنازل لقبول «المد» , مع أنك - يا سيدي «صوان»- حسمت المسألة , كما قلتُ آنفا .
ثم أوجه إليك سؤالاً يا لواء الدقهلية -يا سيدي صوان- وهو سؤال افتراضي جنوني: بماذا كنت تردَّ لو أن مواطنًا قاطعك , أو علّق علي خطابك معترضًا وقال: من الذي أعطاك حق الإنابة والتمثيل, وأنا واحد من الناس لم أُنِبْـك , ولم أفوضك في التعبير عن رأيي?
إنه سؤال أو اعتراض قد يدخل صاحبه التاريخ ولكنه -بالتأكيد- سيدخله مكانًا أو أماكن أخري!!
لقد كان بينك وبين قلوب الناس جدران من الحجر الصوان . وإليك الواقعة الآتية التي تقطع بذلك . وقد نشرتها صحف ومواقع متعددة :
تعرض اللواء أحمد سعيد صوان، محافظ الدقهلية، لموقف محرج أثناء جولته في قرية دماص التابعة لمركز ميت غمر، عندما فشل في مواجهة غضب الأهالي لعدم حصولهم علي «بونات» الخبز، وقرر قطع زيارته للقرية.
كان «صوان» بصحبة الدكتور محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر، الذي زار فرع جامعة الأزهر بقرية «تفهنا الأشراف»، وبعد أن ودع صوان شيخ الأزهر، بدأ في زيارة «دماص» لوضع حجر أساس مدرسة للتعليم الثانوي الصناعي، تتبع مشروع مبارك - كول، ولعقد مؤتمر جماهيري مع القيادات السياسية والحزبية بالمحافظة، لدعم مرشحي «الوطني» في الانتخابات المحلية.
وانتظر المئات من الرجال والسيدات «صوان» وهو في طريقه من المدرسة إلي المستشفي المركزي بدماص، حاملين شكاوي عديدة لعدم حصولهم علي «بونات» تسلم الخبز التي توزعها الوحدة المحلية للقرية، ومع تزاحم البسطاء وقطعهم الطريق، وفشل قوات الأمن المركزي في التعامل مع ثورتهم، قرر «صوان» قطع زيارته وإلغاء المؤتمر الجماهيري، وعدم وضع حجر أساس لتوسعات المستشفي.
وقال عدد من الأهالي لـ«المصري اليوم»، إنهم أرسلوا فاكسات لـ«صوان» عقب رحيله من القرية تضمنت مطالب البسطاء، وأهمها أن الوحدة المحلية للقرية وزعت نحو ٤ آلاف «بون» فقط للخبز علي أهالي «دماص»، رغم أنها القرية الأكثر كثافة سكانية علي مستوي المحافظة، حيث تضم ما يزيد علي ١٠ آلاف أسرة، مؤكدين أن عملية توزيع الخبز شابها الكثير من المخالفات.
وعبر الأهالي عن غضبهم من سلوك المحافظ، وتجنبه التعرض بشكل مباشر لمشاكلهم، وقاموا بهدم حجر الأساس الذي وضعه أمس الأول للمدرسة الثانوية الصناعية بالقرية..
وأخيرا.....
لقد احتفلت محافظة الدقهلية برحيلك يا محافظها صوان بعد أن حققتَ فشلا ذريعا في كل شيء كحل مشكلة نقص مياه الشرب وتلوثها ,وزيادة نسبة التعدي على الأراضي الزراعية , وأملاك الدولة ,وسيادة الفساد في المحليات والإدارات الهندسية . والخافي أعظم.
ويقال إن اليوم الأخير لك بديوان عام المحافظة ـ يا سيد صوان ـ كان هادئا هدوءاً شديداً إذ لم تغادر مكتبك , ولم تعقد أي اجتماعات كالمعتاد وظللت مترقباً القرارات النهائية في حركة المحافظين ....لعل وعسى !!! . إنه وفاؤك الكبير " للمنصب " بعد أن ذقت .... " عُسَيْلته " .
وأشكرك ـ يامن كنت محافظا للدقهلية ـ أشكرك ؛ لأن انتظارك هذا في ديوان المحافظة ذكرني بواقعة تراثية , خلاصتها : أن أشعب الطماع سئل " ما بلغ من طمعك ؟ " فأجاب : بلغ من طمعي أنني ما علمت أن فتاة ستزف مساء لفتى في المدينة , إلا وتزينت , وتعطرت , وارتديت أجمل ثيابي , طمعا في أن تزف إليّ .
لكل أولئك أرى فضلك عليّ فياضا غامرا , إذ ذكرني طيفك الغالي ـ من حيث لا تقصد ـ بغير قليل من الروائع , فمن حقك عليّ أن أدعو لك بأن يرحمك الله يوم الدينونة , وأن يخفف عنك عذاب السعير . ووداعا .... يا صوان ... يا من كنت للدقهلية محافظا .
وإنا لله , وإنا إليه راجعون ..

