هارولد
عبد اللطيف النكاوي *
يمشي وحيداَ ، يجرجر أذيال الخيبة ، يمنّي النفس بمعجزات ينجسها صقور البورصات ويعد بها منجّموا الأزمات والكوارث الطبيعية وغير الطبيعية....بلا سقف ،بلا دخل، بلا زوج ، ولا شباب...هارولد يصدّق كل النشرات : الإخبارية ، والجوية ، والمالية ..." ففي القدس يتقاتل صبية على ساحة عمومية ، تشتّت حروف اسمها بين مالك ومتملّك . عدا هذا لا شيء يستحقّ الذكر فأطفال فلسطين يلعبون ويدرسون ويشاغبون أحيانا ، تماما ككل أطفال الدنيا " . وفي أفغانستان " تقاتل أمريكا أشباحا لا أحد يعلم من أين جاءت ولماذا جاءت وماذا تريد ؟ كل ما نعرف عنها أنّها سكنت الجبال ولا تطيق البزّات الأمريكية . ولكن عدا القتل والتدمير، العالم مطالب بإقامة الحفلات وإطلاق الموسيقى لأن بضع ثوان فقط تفصلنا عن النصر ونهاية الأشباح ..." .
أفلت هارولد من صفعة "هوغو" [i] وأخطأته رياح "كاترينا "[ii] لكن طوفان كواسر البورصات عصف بأوتاد خيمته الرأسمالية ومزّق حبالها ليسكنه العراء . يترنّح هارولد أمام الكاميرا ، فلا التشرّد ولا تبخّر أوهام الملك والتملك ، أفقداه لذّة التبرّج والانبطاح أمام عدسات التجسس والفضول . " أطحن ما تبقّى فيك من بشرية ، وأشهر عورتك أمام عيون العالم الشرسة لأبتاع فيك ما يستحقّ البيع ! " كسر هارولد كل بوصلاته وركن تحت أنقاض كوخ قديم ، يدسّ عريه في جعّة انتهت صلاحيتها، وبعض فتات الأطعمة الذي جمعه من القمامات : تراجعت أسهم التقييم والاختيار بل اندثرت لتترك مكانها لعلاقة جديدة مع العالم والناس . المال، النجاح، المنافسة، العمل، الاجتهاد، التفاني، الاستقامة، كلمات لم تعد تعني شيئا في نظر هارولد لأنها عاجزة عن تفسير تدحرجه إلى الحضيض الذي هو فيه . أم أنه نسي درسا من دروس النجاح التي تعلمها في المدرسة ؟ أم أن في الأمر خديعة ما ؟ أم الأمر لا يعدو أن يكون كوميدية ناجحة سيتيقظ هارولد على إثرها في سريره الوثير وبين أحضان زوجته الناعمة ورائحة قهوة الصباح تغازل أنفه؟
غرق هارولد في نوم عميق تحت تأثير غازات الجعة الفاسدة . لا يغطّي على شخيره غير نفير الشاحنات العابرة نحو أميركا الأخرى ، تلك التي لفظت هارولد وجاك وأحمد ومامادو مثلما تلفظ النواة.....وينهد هارولد رغم الحصار والإعصار إلى غد أفضل .
أينتفض هارولد من رماد الهزيمة ومن إعصار البترول والمواد الكيماوية ، ليدافع من جديد عما تبقى من حلم أمريكا العجيبة ؟ أم تراه سيهرول نحو آفاق مجهولة ، يفبرك فيها مسئولا عن كل ويلاته الراهنة والآتية ؟
بين السؤالين فسحة للتبصر والحقيقة تعيد لهارولد إنسانيته فيكتشف العالم معرّى من كل تعاويذ النفاق والخديعة والتسلط : وقتها فقط يدرك هارولد أن ما يجري في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من بقاع العالم مأساة بشرية حقيقية تتغذى من مشاعر التسلط والتزوير والتجبر .
فلا شيء يفصلك عنك يا هارولد غير ركام الأكاذيب وخدعة التصور والتصوير ! فاخرج منك إليك تجدني وتجدك !
* باحث من أصل مغربي يعيش ويدرّس في فرنسا.
[i] اسم إعصار ضرب بعض الولايات الأمريكية
[ii] اسم إعصار آخر