رحلة الحج إلى أنابوليس
رحلة الحج إلى أنابوليس
أحمد الفلو*
لقد بات من المؤكد أن الوصول إلى محطة أنابوليس لم يكن مجرد فكرة عابرة خطرت على بال الرئيس الأمريكي بوش فجأة بل إن الوقائع تدل على أنها حصيلة دراسات متكاملة و تخطيط محكم قامت به الدوائر الصهيونية ومراكز البحوث التابعة لها , حيث تم رسم الخطوط العامة والتفاصيل الكاملة بما في ذلك استدراج القيادة الفتحوية المغرورة والمتورطة أصلاً منذ أمد بعيد في الفساد , استدراجها للطريق المؤدي إلى تحقيق الأهداف الصهيونية وبملء إرادة حاكم رام الله والمرتزقة المحيطين به والذين يزيُّنون له سوء عمله, وحيث أن للحاضر جذور وبدايات فقد بدأ تسلسل الأحداث على النحو الذي رسمته الحركة الصهيونية وكما أرادت .
فبعد أن بزغ فجر حركة المقاومة الإسلامية حماس عام 1987 على يد مؤسسها الشيخ الفاضل احمد ياسين و المجاهدين من حوله وتفجيرها الانتفاضة الفلسطينية الأولى تغيرت كل موازين القوى على ساحة الصراع الحضاري بين الإسلام والصهيونية , وكانت أولى ردود الفعل الصهيوني على تلك المفاجأة هو إطلاق إشاعات مفادها أن حركة حماس ترعرعت ونمت في أحضان العدو الإسرائيلي وفي ظل الاحتلال , و الملاحظ أن الموساد الإسرائيلي كان يطلق مثل هذه الإشاعات و يقوم الفتحويون بترويجها و نشرها بهدف القضاء على حماس في المهد و الحؤول بينها وبين الجماهير الفلسطينية و العربية , ولكن حسابات الحقل خالفت حسابات البيدر , وازدادت حماس قوة وصلابة واستقطبت الجماهير أكثر وأكثر وتمكنت من تفجير الانتفاضة الأولى وتكبيد إسرائيل خسائر يومية فادحة مما أحرج منظمة التحرير وقيادة فتح و جعلهما يتبنيان الانتفاضة تفادياً لسقوطهما سقوطاً شعبياً مريعاً .
إن التنازلات الكبيرة التي قدمتها قيادة فتح في أوسلو من أجل تجميع ذلك الكم الهائل من عناصرها ومتفرغيها في الضفة والقطاع والذين اعتادوا أن يكونوا مجرد موظفين يتلقون الراتب آخر كل شهر ولم يعودوا ثواراً يتبنون قضية فلسطين بشكل فعلي , و كانت هذه التنازلات التي قدمتها القيادة الفتحوية في مقابل الحصول على سلطة وهمية تم تضخيمها وتزيينها وتجميلها على أنها شبه دولة متوقعة , نقول كانت هذه التنازلات هامة جداَ بالنسبة للصهاينة ولكنها هينة جداً بالنسبة للقيادة الفتحوية التي وقعت على مواثيق واتفاقات خطيرة جداً مثل وثيقة الاعتراف بدولة إسرائيل وحقها في 76% من أرض فلسطين و قبول قرية أبوديس بديلاً عن القدس في مقابل أن سمحت إسرائيل لتلك القيادة بالقيام بأعمال استعراضية فارغة لا قيمة لها مثل فرقة موسيقية رئاسية يقوم رئيس السلطة يومياً باستعراضها بينما هو يمشي مستعرضاً حرس الشرف على بساط أحمر مثل بقية الدول المستقلة وبشكل يومي حتى دون أن يكون هناك زوار لدى الرئيس , وبعد وصول الآلاف من الفتحويين إلى الضفة والقطاع مع البنادق والرشاشات فإنه كان المطلوب من هذه القيادات و نيابة عن الجيش الإسرائيلي القيام بتصفية المقاومة التي تمثل حركة حماس معظم قوامها فكراً وسياسةً وعسكرة .
ولمّا كان القيام بمهمة القضاء على المقاومة يحتاج إلى غطاء سياسي عربي ودولي فإن الحقيقة تقول إن السيد ياسر عرفات رفض بشكل قاطع الانضمام إلى منظومة مكافحة الإرهاب التي تقودها إسرائيل والولايات المتحدة و ربما كان هذا الرفض كان أهم الأسباب التي أدَّت إلى اغتيال الرجل في مبنى المقاطعة مسموماً من قبل محمد دحلان الذي تمت تهيئته مسبقاً ليكون الرجل القوي بجانب محمود عباس , وقد تم التخلص من عرفات فعلياً خاصةً أنه لم يتبقى في جعبته شيء يمكن أن يقدمه للصهاينة , و لكن الأمور بعد عرفات أخذت منحىً آخر حيث أن تسلم عباس ودحلان وفياض وقريع وبقية المجموعة أتى موافقاً ومنسجماً مع خطط الإدارة الصهيوأميريكية بحيث انضمَّت تلك القيادة إلى منظومة مكافحة الإسلام وذلك مقابل مساندة إسرائيل والولايات المتحدة لهم للاستمرار والبقاء في المنطقة السوداء في رام الله خاصة وأن هذه القيادة مستعدة للتنازل حتى عن حقوق الشعب الفلسطيني في البقاء على قيد الحياة فضلاً عن المشاركة في تجويع و حصار الشعب الفلسطيني دونما أدنى تردد طالما أن ذلك يساعدهم على البقاء في قصر الرئاسة في رام الله .
ويمكننا اعتبار الانقلاب الصامت الذي قام به عباس على الشرعية الفلسطينية بعد انتخابات المجلس التشريعي , من أهم الاختبارات الإسرائيلية التي نجح فيها عباس بامتياز بهدف الوصول إلى أنابوليس, وكانت أهم مظاهر التوجه الانقلابي هو تجريد حكومة اسماعيل هنية من أي صلاحيات حيث يعتبر القادة الفتحويون المناصب الأمنية والصحية والسياسية والمالية ما هي إلاّ إقطاعات خاصة أو مزارع مسجلة بأسمائهم ولا يحق لغيرهم من الفلسطينيين الاقتراب منها مطلقاً حيث أشاعت قيادة فتح الجريمة والاختلاسات والاضطراب الأمني والشللية والفوضى من أجل إفشال تجربة إسلامية وليدة في مهدها وبدعم من رأس السلطة عباس , وعندما أعادت حماس تصويب الأوضاع وإحلال الأمن اتهمها هؤلاء بالانقلاب , ولم يتفضل أحدهم علينا بشرح مفهوم الانقلاب حيث أنهم يعتبرون أن رفض رؤساء الأجهزة الأمنية لأوامر وزير الداخلية أمر عادي وأن يتلقى ما يسمون أنفسهم سفراء الأوامر الإدارية من وكيل وزارة الخارجية الفتحوي وليس من الوزير الحمساي هو أمر قانوني وحين يخضع التلفزيون الحكومي والشؤن الخارجية والصحة والعدل والتجارة والتموين والأمن والتعليم والاتصالات لأوامر المرتزقة واللصوص في قصر الرئاسة وليس إلى الوزير المختص ,,ألا يٍٍكون هذا انقلاباً فعلياً قد قام به عباس ؟؟
أما الاختبار الإسرائيلي الآخر الذي اجتازه عباس بسهولة فهو نجاحه في المهمة التي كلّفه بها أولمرت وهي القيام بجولة على الدول العربية لإقناع الزعماء العرب لإرسال موفديهم إلى مؤتمر أنابوليس وتم فعلاّ تهافت الوزراء العرب على الحضور , ومن المهام التي الأخرى التي قام بها عباس بتكليف من أولمرت و بوش دون أن ينجح فيها هي محاولة عباس إقناع الدول العربية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل وهو ما دعى تسيفي ليفني وزيرة الخاجية الإسرائيلية إلى توجيه عبارة لحكام الدول العربية (لا تكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم) . ولكن على إسرائيل أن لا تنسى أهم خدمة قدمها عباس لها وهي شرعنة قتل الفلسطينيين , ففيما كانت الطائرات والدبابات الإسرائيلية تقتل الفلسطينيين بالعشرات في خان يونس ونابلس خلال المؤتمر, كان السيد عباس وطاقمه يعانقون أعضاء الوفد الإسرائيلي بل ويوزعون الابتسامات على شاشات التلفاز , ويستخفون بعقول الناس حين يسألهم الصحفيون عن المجازر ليرد عريقات عليهم بأن هذه تضحيات من أجل السلام .
وهكذا فإن مسيرة أنابوليس ابتدأت منذ تسنّم عباس وشلًّته الرئاسة ولا نعلم متى ستنتهي هذه المسرحية المشؤومة التي يجسد فيها عباس و زمرته دور الخدم والعبيد أمام الصهاينة .
* كاتب فلسطيني