لا سلام مع الاستيطان
لا سلام مع الاستيطان
جميل السلحوت
لا يُشكل اعلان الحكومة الاسرائيلية طرح مناقصة لبناء ثلاثمائة وحدة سكنية في جبل أبو غنيم ما بين القدس وبيت لحم قبل أن يجف مداد لقاء أنابوليس مفاجأة لمن هو متابع للسياسة الرسمية الاسرائيلية . هذا الاعلان الذي صاحبه اعلان آخر لاقامة مستوطنة جديدة لربط مستوطنة معاليه أدوميم مع القدس . فاسرائيل كدولة قامت على الاستيطان ، واستقطاب يهود العالم للاستيطان فيها تنفيذاً للفكر الصهيوني حتى قبل عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في سويسرا عام 1897 .
واسرائيل منذ احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السورية وسيناء المصرية في حرب حزيران 1967 العدوانية ، باشرت الاستيطان في هذه المناطق بعد الحرب مباشرة ، لأن الفكر الصهيوني قائم على التوسع والاحتلال . فالكل يذكر كيف أن اسرائيل قامت بضم القدس العربية المحتلة في 28 حزيران 1967 بقرار من الكنيست -البرلمان الاسرائيلي- ، أي قبل مرور ثلاثة أسابيع على الحرب ، وقامت بهدم حارتي الشرف والمغاربة داخل أسوار القدس القديمة بعد أن شردت مواطنيها الفلسطينيين ، وقامت ببناء حي استيطاني يهودي مكانها محاذ لحائط البراق – الحائط الغربي للمسجد الأقصى – وقامت بتلك الأعمال العدوانية في مخالفة واضحة لقرارت مجلس الأمن الدولي، وللشرعية الدولية وللقانون الدولي وللوائح حقوق الانسان، ولاتفاقات جنيف الرابعة ،وعلى مرأى ومسمع العالم أجمع وفي مقدمتهم الدول العربية، ثم تواصل الاستيطان بشكل مبرمج ومدروس ومتواصل، وبما أن قادة اسرائيل يجيدون بامتياز فن ادراة الصراع ، ويظهرون أمام العالم كضحايا ، ويحولون ضحاياهم الى مجرمين ومخربين وقتلة، بفضل طاحونة الاعلام الصهيوني التي تُغطي العالم ، ونتيجة حتمية لغباء وضعف الاعلام والدبلوماسية العربية ، فإن اسحق رابين رئيس أركان الحرب الاسرائيلي الذي قاد حرب حزيران 1967 أعلن في حينه " أن اسرائيل لا تنوي بناء مستوطنات في الأراضي المحتلة ، وما نقوم به هو اسكان مؤقت لعائلات الجنود الذين يعسكرون في هذه الأراضي " ثم ما لبث الاسكان أن تحول الى مدن استيطانية، قطعت أوصال الضفة الغربية المحتلة، وأحاطت بالمدن والقرى والتجمعات السكنية الفلسطينية ، وحولتها الى مجرد جيوب سكنية قديمة ، وسط مدن استيطانية حصينة وحديثةـ كما تظهر الخرائط الجوية ، ولإيضاح ذلك بشكل مبسط ، فإن عدد الوحدات السكنية الفلسطينية في القدس العربية المحتلة وضواحيها كان قبل حرب حزيران حوالي اثني عشر ألف وحدة ، وهو الآن حوالي ثلاثين ألف وحدة ، في حين كان عدد الوحدات السكنية اليهودية في نفس الفترة صفر ، وأصبح الآن حوالي ستين ألف وحدة سكنية ، يقطنها حوالي ربع مليون مستوطن .
وبما أن الصراع الفلسطيني الاسرائيلي يتمحور أساساً حول الأرض، وحول السباق الديمغرافي ، فإن اسرائيل ومنذ احتلالها للضفة الغربية تعمل جاهدة للحدّ من البناء العربي الفلسطيني ، وتحاصر السكان، وتقطع أرزاقهم وتسومهم سوء العذاب في محاولة منها لاجبارهم على الرحيل ، فإنها في نفس الوقت تقوم بالبناء الاستيطاني بطريقة منفلتة ومجنونة ، وتشجع اليهود على الاستيطان بتقديم اغراءات مالية واعفاءات ضريبية لهم من أجل جذبهم للاستيطان في الأراضي المحتلة لفرض سياسة الأمر الواقع .
ولعل المرء – خصوصاً من لا يعيشون في الأراضي المحتلة ولا يعرفون الواقع – لا يتوقعون مدى خطورة بناء ثلاثمائة وحدة سكنية في جبل أبو غنيم واقامة حيّ استيطاني جديد ما بين معالية أدوميم والقدس، في ظل وجود عشرات آلاف الوحدات السكنية في 207 مستوطنات ، يقطنها أكثر من نصف مليون مستوطن في الضفة الغربية ، ولإيضاح ذلك فإن المسافة من القدس القديمة الى وسط بيت لحم هو سبعة عشر كيلو متر ، يمتد البناء اليهودي فيها الى مشارف بيت لحم ، وجاءت مستوطنة جيلو لتحيط بيت لحم وبيت جالا من الشمال بشكل ملاصق ، ولتتواصل الى الشرق مع مستوطنة جبل أبو غنيم ، ولتتواصل مع الغرب مع تجمع غوش عتصيون الذي يصل الى قرية الخضر والى التعامرة ، لتصبح مدن بيت جالا وبيت لحم وبيت ساحور محاصرة من جميع الجهات ومقطوعة عن امتدادها الفلسطيني بشكل كامل باستثناء شارع يوصلها الى العبيدية شرقاً ، ويوصلها بالخليل عبر شارع يمر من وسط المستوطنات ، ويضاف الى ذلك حصار القدس ومنعها من التواصل مع امتدادها الفلسطيني بشكل كامل . حتى دون وجود جدار التوسع الاحتلالي الاسرائيلي الذي جعل من المدينة سجناً كبيراً .
وقبل هذا وبعده فان الحزام الاستيطاني فصل الفلسطينيين عن أراضيهم الزراعية المحيطة بالمدن والقرى .
ولا غرابة في صدور تصريحات لوزراء اسرائيليين تؤكد أنه ليس من حق أحد بما في ذلك الولايات المتحدة حامية اسرائيل وداعمتها بلا حدود بالاحتجاج على الاستيطان الجديد ، لأن منطقة أبو غنيم والقدس جزء من اسرائيل بعد قرار الكنيست الاسرائيلي بضم القدس العربية المحتلة في حزيران 1967 . وهذا يُثبت بوضوح أن قرار الكنيست هو النافذ في اسرائيل ،وأن لا قيمة لقرارت مجلس الأمن الدولي وللقانون الدولي أمامه ، وهم محقون في ذلك ، لأن سياستهم ومنذ قيام الدولة العبرية تتنكر للقرارات الشرعية الدولية ، وتجد الحماية والدعم من دول عظمى وفي مقدمتها الولايات المتحدة ، وما يقابل ذلك من تخاذل عربي واسلامي رسمي يصل الى درجة الفضيحة ، وواضح أن اسرائيل تنفذ مقولة رئيس وزرائها الأسبق بنيامين نتنياهو في كتابه " مكان بين الأمم " والذي تُرجم الى العربية تحت عنوان " مكان تحت الشمس " القائلة أن العرب يرفضون كل شيء تقوم اسرائيل به أو تطرحه عليهم ، ثمّ لا يلبثون أن يتكيفوا معه " و لا يغيب عن المواطن العربي الفلسطيني الذي يكتوي بنار الاحتلال أن اسرائيل قد ضاعفت البناء الاستيطاني وعدد المستوطنين مرات ومرات منذ اتفاق أوسلو ، وهي في سباق مع الزمن لفرض وقائع على الأرض تمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة ، والوصول الى حل عادل ودائم .
ومن حق المرء أن يتساءل عن جدوى مواصلة المفاوضات، وعلى ماذا سيتفاوض المتفاوضون في ظل مواصلة الاستيطان السرطاني ، أم هو تكيف مع الأوضاع كما قال نتنياهو .