دول الحق والقانون وفضيحة الحفر السوداء

فؤاد وجاني

قبل ثمان سنوات عجاف من الاحتلال مرت على الأفغانيين ، قامت المخابرات المركزية الأمريكية بالقبض على أحد المتهمين بالانتماء الى مايسمى بالقاعدة في باكستان وألقت به في حفرة سرية لايعلم قعرها سوى الله وثلة من الأفغان وعناصر المخابرات الأمريكية . السجن السري  يقع شمال شرق مطار كابول وكنيته "حفرة الملح" . قد تكون لملح المسلمين دلالة على تقاسم العيش والحلو والمر بمعنى " أكلنا عيش وملح " . لكن هناك يؤكل الملح فقط ولا عيش ، فالداخل الى الحفرة مفقود والخارج منها مولود . هذا ماحدث لأحد النزلاء الكرام بفندق حفرة الملح الشديدة البرودة والخافتة الضوء رغم أنها من الحفر ذات النجوم الخمسة . وفي عز الظهر ، وُجد الرجل مقيدا وشبه عارٍ وفوق ذلك كله ميتا في تشرين الثاني من سنة 2002 .

كانت الجثة الهامدة بمثابة الدخان الدال على نار المخالفات التي تتم تحت عنوان الاعتقال والاستجواب . لقد قُتل إنسان من لحم وشحم وعظم ودم تحت التعذيب ، وعلى أيدي موظفين ينتمون لبلاد الديموقراطية والحرية والعدالة ،  والله وحده أعلم بعدد الرجال والنساء الذين قضوا نحبهم على يد المخابرات الأمريكية سواء داخل الحفر أو خارجها .  

كانت للجريمة انعكاسات سلبية لدى الرأي العام الأمريكي وفي أروقة وكالة المخابرات المركزية نفسها وداخل مجلس الشيوخ وعلى صفحات الصحافة الغربية . الصحافة العربية وحكومات الدول العربية والإسلامية (بين قوسين دهشين) كعادتها لم تحرك ساكنا عمدا حتى لاتكشف الغطاء عن حفر لاحصر لها ولاعدد .

كانت تلكم الجريمة القطرة التي أفاضت الكأس ليهيج لعاب المنظمات الحقوقية وجمعيات الدفاع عن الحريات والأسرى والعدالة الأمريكية ، إلى غيرها من العناوين البارزة التي لم تعد تخفى على أحد ،  جزاهم الله عنا وعنكم ألف خير !

الصدفة العجيبة أنه قد تبين لاحقا أن اسم الرجل المقتول هو "غول رحمان" . ربما لو كانت الاستخبارات الأمريكية قد علمت بمعنى كلمة "غول" لتراجعت عن فعلة التعذيب ، لكن يبدو أن لاأحدا من "الاستشاريين" العرب كان موجودا حينها وإلا أتاهم بمبخرة وبعض البخور المقدس حتى يُبطل لعنة الاسم ليتبخر الرجل في الهواء ولايظهر له أثر لا في الأولين ولا في الآخرين  كما حدث لوطني مغربي كبير اسمه المهدي بن بركة في فرنسا .

والغريب أيضا أن وزارة العدل الأمريكية قالت بأن التحقيقات بشأن جريمة مقتل غول لم تسفر عن نتائج ، بينما التحقيقات ضد المسلمين والعرب لاتخيب نتائجها أبدا وتؤتي أكلها دائما وكل حين وكأنها شجر تين .

التحقيقات لن تُرجع السيد "غول رحمان" الى الحياة لكنها أحيت جدلا حول برنامج محاكاة الغرق وغيره من ضروب المعاملة القاسية للمشتبه بهم في قضايا مايسمونه بالارهاب . وقد أصبحت حفرة الملح نموذجا تحذيريا للاستخدام غير المقيد لممارسات التعذيب ضد الأسرى والسجناء .

أولى النتائج الميدانية الفورية والشكلية كانت اغلاق السجون المعروفة لوكالة الاستخبارات الأمريكية في بداية تولي أوباما للحكم ، وكأن لسان حاله يهمس  لهم سرا : "فضحتمونا ، ابنوا مزيدا من السجون السرية خارج البلاد ! " .

أما في الواقع وبعيدا عن الاجراءات المهدئة ،  فقد تمت ترقية رئيس محطة وكالة الاستخبارات المركزية في أفغانستان بعد مقتل "غول رحمان" وتم نقل الضابط الذي كان يدير السجن الى مهمات في بلدان أخرى .

أما وكالة الاستخبارات الأمريكية فقد رفضت مناقشة قضية "حفرة الملح" ، كما رفضت طلب قانون حرية الحصول على المعلومات الذي تقدم به ثلة من الصحفيين الشرفاء ، ورفضت تسليم جثة "غول رحمان" الى عائلته لدفنها ، مما يبقي عدة تساؤلات عالقة ودون إجابات .

وفي نفس الوقت ، لاتزال السجون السرية أو مايعرف ب"الحفر السوداء" التابعة للاستخبارات الأمريكية في تزايد مستمر ، سرية لأن عدد العارفين بها لايتجاوز حفنة من الأشخاص تتمثل في رئيس الولايات المتحدة وبعض المسؤولين في البيت الأبيض وقلة من ضباط الاستخبارات الكبار في البلدان المضيفة كدول الخليج والمغرب العربي والشام ودول أوروبا الشرقية وبعض دول آسيا .

ختاما، في الوقت الذي تتناقض فيه  الحفر السوداء مع أبسط مبادئ الدستور الأمريكي الذي تعتمد بنوده على الشفافية وحقوق الانسان ، فإن بعض الحكومات العربية التي تزعم أنها تتبنى مشروع دولة الحق والقانون مازالت ترحب بهذه السجون على أراضيها من وراء أظهر شعوبها في خرق واضح لأبسط مبادئ السيادة ، فما بالك بمايسمونه دولة الحق والقانون ؟ ....وقد قيل في الماضي لعريان : ماذا ينقصك ياعريان ؟، فأجاب العريان : الخاتم يامولاي! .... عمتم صباحا ومساء ومُلئتم حفرا سوداء يادول الحق والقانون .... ولاتنسوا أن من حفر حفرة لأخيه وقع فيها .... من يدري ، لعلها حفرة من حفر جهنم ....