الحزب المستحيل وفقه الاصطياد
الحزب المستحيل وفقه الاصطياد – 1
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
يعلم الناس فى الداخل والخارج أن النظام البوليسى الفاشى ، لن يسمح بقيام حزب
إسلامى أو غير إسلامى ، يخوض الحياة السياسية بطريقة جادة وفاعلة – فدون ذلك كما
يقول المثل : خرط القتاد ، أى ما يكره الناس . والقتاد هو الشوك المرّ !
لقد
سمحت السلطة لأكثر من عشرين حزباً رسمياً بالوجود . اشك أن أحداً يعرف أسماء خمسة
منها فقط . ولأصحابها حق الترشح فى الانتخابات جميعاً ، والحصول على معونة الحكومة
، وحق إصدار الصحف .. ولكن دون حق التظاهر ، أو عقد المؤتمرات فى الخلاء ، أو
مخالفة السلطة إلّا فى الأمور الهامشية ..
فى
المقابل هناك طلبات للموافقة على الإعلان الرسمى عن أحزاب إسلامية وغير إسلامية ،
مضى عليها سنوات طوال ، ولكن السلطة لم تمنحها هذا الشرف أبداً حتى كتابة هذه
السطور ، لأنها تستشعر فيها نوعاً من الخطر الذى يهدد أغلبية أنصارها ، ويمكن أن
يُطيح بامتياز الثلثين الذى يتمتع به الحزب الحاكم المهيمن أبدا فيما يسمى مجلس
الشعب. وسبق أن عصفت السلطة بحزب العمل حين رأت فيه خطراً محتملاً ، ومزّقت حزب
الوفد ، ومن قبله حزب الأحرار ، وحزب مصر الفتاة ، ودفعت أعضاء هذه الأحزاب إلى
التناحر الذى وصل فى لحظة ما إلى استخدام السلاح وإسالة الدماء والدخول إلى ساحات
القضاء .. ، وبالأمس القريب بطشت السلطة بحزب الغد الذى لم يمر على تأسيسه سوى شهور
معدودة ، والسبب أن الحزب أثبت نوعا من الكفاءة فى العمل السياسى وكسر تابو نقد
السلطة من خلال جريدته التى أغلقت إثر مسرحية هزلية تم من خلالها دق " الأسافين "
وتمزيق الحزب ،وتم اعتقال رئيس الحزب الدكتور أيمن نور – وصيف الرئيس مبارك فى
انتخابات الرئاسة عام 2005م .
من
المستحيل إذاً أن تقبل السلطة بقيام حزب للإخوان المسلمين ، خاصة بعد أن أثبتوا
جدارة فى الانتخابات التشريعية عام 2005م ، وكادوا يُهددون أغلبية الثلثين التى
يستند إليها النظام البوليسى الفاشى الذى لم يجد غضاضة فى استخدام العنف ومنع
الناخبين من الإدلاء بأصواتهم والتزوير العلنى الفاضح فى دوائر بعينها ، يعلم
القاصى والدانى أن نوابها الحقيقيين من الإخوان المسلمين . بل إن مجموعة من الدوائر
فى محافظة كفر الشيخ وغيرها ، ما زالت حتى اليوم وبعد دورتين من المجلس الحالى بلا
نواب ، لأن النظام متاكد يقينا أن إجراء الانتخابات فيها سيأتى بنواب على غير هواه
من المنتمين إلى الإخوان أو المستقلين .
ومع
ذلك فإن فقهاء الاصطياد فى الحياة العامة ، ولا أقول السياسية - حيث لا توجد سياسة
حقيقية فى بلادنا – يُصرّون على النظر إلى جماعة الإخوان المسلمين فى صورة الدولة
ذات الحكومة التى تجب محاسبتها ومعارضتها ومناهضتها ، وكأنها تحكم وتُشرع وتقضى ..
مع أنها تمثل فريقاً من الناس يتعرضون للقهر والحصار والهجاء ، أمام نظام بوليسى
فاشى يملك كل أدوات القمع والملاحقة وأبواق التشهير دون أن يردعه قانون أو يمنعه
دستور .
وقد
ظل فقهاء الاصطياد ، وأغلبهم موالون للسلطة البوليسية الفاشية ، واليسار المتأمرك ،
يُلحّون على أن الجماعة يجب أن يكون لها كيان سياسى يُعبّر عنها ، له برنامج ومنهج
، حتى تستطيع السلطة أن تتعامل معه وتعترف به وتدمجه فى الحياة العامة أو المدنية
كما يُسمونها .
وراح مثقفو الحظيرة وكتاب البلاط يعزفون على وتر ، أن الجماعة ليس لها برنامج لحل
المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وهو ما يجعل تقبلها فى
الداخل والخارج غير ممكن ، ويُثير كثيراً من الشكوك حول نواياها وأهدافها ..
فى
الوقت ذاته ، كانت الاتهامات تأتى من اليمين واليسار ، فى تناغم ملحوظ مع إيقاع
السلطة البوليسية الفاشية ، بأن الجماعة تهدف إلى إقامة دولة دينية تقطع أيدى الناس
وأرجلهم ، وتجلدهم ، وتجزّ رءوسهم بالسيف ، مما يُهدد الوحدة الوطنية ، ويُقسّم
البلاد ، ويعصف بحق المواطنة .
ومع
أن جماعة الإخوان منذ نشأتها تولى الجانب التربوى الأهمية القصوى ، وتسعى لأن يصل
الإيمان إلى أصحاب كراسى الحكم ، ولا يسعى أصحاب الإيمان إلى الكراسى ، فقد فرض
عليها أن تُشارك فى الحفاظ على العقيدة والشريعة وأن تتحمل فى سبيل ذلك متاعب لا
تنتهى ، ويبدو أنها لن تنتهى فى وقت قريب ، لأنها تقدم نمطاً مغايراً للعمل والأداء
السياسى ، يُزعج النمط السائد والأداء الفاسد ، وهو مالا يقبله النظام البوليسى
الفاشى ، ولا ترتضيه القوى الاستعمارية المتوحشة ، التى لا ترضى بأوطان حيّة تعمل
وتتعلم وتنتج وتُبدع وتتأبى على التطويع والتسليم والتبعية .
وعندما أعلنت الجماعة عن رغبتها فى قيام حزب يُشارك فى تأسيس حياة سياسية حقيقية ،
كان حدثاً مثيراً بلاشك ، ترقبت الجماعات الوطنية بل العالم الإسلامي أصداءه وتابعت
أبعاده .
ويمكن القول : إن خصوم الجماعة قبل مؤيديها علقوا أملاً كبيراً على برنامج هذا
الحزب ومعطياته بوصفه معبراً عن الكتلة الشعبية الحقيقية الأكبر داخل مصر ، بل هى
الكتلة النموذج للبلاد العربية والإسلامية ، لأن مصر . شاءت أو أبت – هى عقل
الإسلام ، والدفة التى تحكم حركته وفقاً لدفع الرياح وامتلاء الشراع .
ومن
المؤسف ، أن فقه الاصطياد تعامل مع برنامج الحزب المستحيل ، وأصفه بالمستحيل لأن
السلطة لن تسمح به أبداً ، بمنطق " ولا تقربوا الصلاة " أو " فويل للمصلين " ،
لدرجة أن قرأنا لبعض اليسار المتأمرك مقولات ساخرة من الرؤية الاقتصادية
والاجتماعية للحزب ، على شاكلة : " الاقتصاد الملتحى ! " .
أفهم أن يقبل الناس برنامجاً أو يرفضوه . هذا حقهم الذى ينبع من حق الإنسان فى
الإيمان والكفر "
فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ...
"
( الكهف : 29 ) . ولكن الانتقاء أو الاصطياد ، وتأسيس الرفض عليه ، دون النظر إلى
مجمل البرنامج ، يُمثل عسفاً واضحاً ، وظلماً بيّناً ، ويُشير إلى نزعة تسلطية تنبع
من طبيعة السلطة البوليسية الفاشية ، التى لا تقبل حواراً ولا جدلاً ، وتُسقط كل
الادعاءات حول ما يُسمى الفكر الجديد وضمير الجمع فى شعار " بلدنا بتتقدم بينا "
الذى يُروج له منظرو السلطة وكتابها .
لقد
سمحت لنفسى ، وقد وصلنى برنامج الحزب – القراءة الأولى – مؤخراً ومتأخراً ، أن
أناقش القضايا التى أهملها فقهاء الاصطياد ، وسأبدأ بما أراه أكثر أهمية من موضوعات
السياسة والاقتصاد ، أعنى قضايا الإنسان فى بنيانه الوجدانى والروحى ، فهذه القضايا
هى المحرك الأساسى للتصوّر والتطبيق .. بدونها تصبح السياسات والاستراتيجيات
والاقتصاديات والتنميات وما شاكل ذلك مجرد محاولات عشوائية ، تُصيب أحياناً وتُخطئ
فى كثير من الأحايين ..
قضايا البنيان الوجدانى والروحى ، لا يختلف عليها أحد – فيما أتصوّر – لأنها تملك
سندها من العقيدة والتراث والتاريخ .. وفى المقال القادم بإذنه تعالى نبدأ
المناقشة.