القفزة الأميركية الكبرى...
القفزة الأميركية الكبرى...
هل هي ممكنة ؟!
د. علاء الدين شماع
ليست العولمة نمطاً ثقافياً اجتماعياً أو اقتصادياً غالباً يخص مجتمعاً بعينه دون سواه, أو مجموعة دول بعينها دون سواها, و التي يميزها منحى حضاري واحد يوسم على الأغلب بأنه متقدم, إنما هي تلك الخلاصة الخلاقة المتولدة من رحم تجارب كل المجتمعات الإنسانية المعاصرة ,والتي تحمل طابعاً إنسانيا بحتاً قابلاً للمثاقفة و التمثل الاجتماعي والإسقاط الحضاري مابين الأمم , في صورة تفاعل من أخذ وعطاء , سعياً وراء صوغ عالم واحد يعمه السلام و يمهد لحوار حضارات لا غالب فيه ولا مغلوب , إنها جدلية الفوارق المميزة لكل مجتمع على حده في اجتماعها البناء خدمة للإنسانية جمعاء ,وليست عدمية الهدم والقتل والتدمير وغلبة القاهر على المقهور.
إن الانصياع لمثال عولمي واحد رغبة في التقليد الأعمى , أسقط الشعوب في فخ العولمة,و خلق مشكلة وجودية أخذت تمس كل المجتمعات الإنسانية في أدق مفرداتها المميزة, حيث أنها فاقمت من أمر نرجسية القطب الأوحد ,أميركا, ومن أمر استمراء استعمال القوة المفرط من قبلها ضد المارقين على مشروعها الامبريالي , وهي تفرض ديمقراطيات شوهاء و تنمي ليبراليات منتقصة تنضوي تحت جناحها .
إن الوهدة الحضارية التي تعيشها أميركا الآن قد تمتد بها و تطول إن أبقت أمرها بين يدي تيار المحافظين الجدد و اجتراحاته غير الأخلاقية في التعامل الإنساني, ذلك أنه تيار يطبعه نمط نفس- سلوكي غير مسبوق و غريب عن المثال الليبرالي الأميركي المعهود, حتى أنه بات يمثل ثورة مضادة على هذا المثال .إنهم مثقفو أميركا البارزون و لاشك , غير أن ثباتهم على نمطية فكرية أحادية البعد ذات طابع سوسيو – ثقافي يرونه مكتنزاً , إنما ينم في حقيقة الأمر عن تمنع شوفيني في قبول الآخر حضارياً. يضاف إليها قناعاتهم المطلقة بأيديولوجيا فكر مذهبي مرتبطة بمغيب ديني .
إن مقاربة صورة الولايات المتحدة الأميركية في المخيال العربي تقترن دوماً بأنها دولة الديمقراطية الحرة , والتي أخذ يشوبها الآن ,أنها مصدر الأزمات في كل العالم, والمنطقة العربية بالذات.
إن وعي العالم السياسي لم يعد يفاضل بين صورة أميركا السلبية في سياساتها و تلك الأخرى الثقافية – الاجتماعية مهما حملت من ايجابيات, ذلك أن عولمة الكراهية التي برعت بها أميركا غطت على كل الملامح مهما كانت ناصعة , خاصة في تعاملها الفج تجاه العراق و فلسطين.
إن إدخال تغييرات جوهرية في السياسات الأمريكية في المنطقة إلى جانب الاعتماد على الدبلوماسية الإعلامية من الممكن أن يغير و يحسن من صورة أميركا في العالم العربي, إذا كانت مصحوبة بمعرفة تاريخية اجتماعية و ثقافية للمنطقة.
ذلك أن جهل أميركا بثقافة منطقتنا العربية و بنيويتها الفكرية القائمة على ثنائية العروبة والإسلام أوقعها في صدام مع العروبيين و الإسلاميين و هي لا تعرف أن تميز بين عدة هذا وذاك في مواجهتهم لها. وحربها على الإسلام الراديكالي أوردها غشاوة وعمى ألوان ساوت من خلاله بين إسلامي معتدل وقومي ملتزم من جهة و متطرف إرهابي من جهة أخرى .
أضف إلى ذلك , أن السياسة الأميركية المحابية لإسرائيل لعبت دوراً كبيراً في تغليب صورتها السلبية لدى المواطن العربي . انه فقط عندما تدرك أميركا أن قضية فلسطين هي القضية الخاصة لكل عربي . يمكنها حينها أن تحقق بعضاً من المصداقية في تقديم حل عادل لهذه القضية, ذلك أن العقل السياسي العربي لا يرى إلا تطابقاً تاماً بين السياسات الأميركية و الإسرائيلية .
إن احتلال العراق , زاد من تكريس الصورة السلبية لأميركا في المنطقة , والحرب الأهلية فيه تعطي انطباعاً أن أميركا تقف وراءها, و إثبات العكس يكاد أن يكون من الصعوبة بمكان, ما لم تجهد أميركا لإثباته من خلال خطوات ملموسة على الأرض تمهد لقيام ديمقراطية حقة تؤسس لسلام أهلي فيه, وذلك من خلال التعامل مع العراق على أنه كيان واحد لدولة واحدة وليس مجموعات أثنية وعرقية , ولها أن تنسحب منه بعد ذلك دون أن تطاردها أوهام الحالة الغير أخلاقية التي عملت على خلقها فيه. إن الحالة الأمنية المتدهورة في العراق شردت ما يقارب الأربعة ملايين عراقي نصفهم إلى دول جوار العراق ,مما بات يهدد أمن المنطقة ,ولا شك أن سيناريو تقسيم العراق الذي تلوح به أميركا سيكون كارثي النتائج في حروب تولد حروباً إلى ما لانهاية . و هذا ما نرى بوادره في حرب تلوح في الأفق بين كردستان العراق و تركيا .
و لعل أميركا الإنسانية في مساعداتها العينية و المادية لا تختلف عن تلك السياسية في زيادة تشويه صورتها, حيث أخذت تغلب على مساعداتها الإنسانية, فرض شروط الولاء والطاعة لسياساتها, و هذا ما ظهر جلياً في تأثيراتها على قرارات الأمم المتحدة في التدخل الدولي لأغراض إنسانية و مصادرة هذه القرارات لصالحها في تحقيق أغراض استعمارية وامبريالية خاصة بها, و قضية دارفور بينة وواضحة.
إن أميركا كلها عندما تتساءل لماذا يكرهنا العرب ,تقرن ذلك بالإسلام وبشكل غير مباشر بالإرهاب, و هو قرن متعمد لصياغة تساؤل مغلوط يؤدي إلى نتائج خاطئة في معالجة أمر كراهية العرب لأميركا , إن كل ما أنف ذكر ه يبين أسباب الكراهية, وليس الإسلام وهو يحضنا على نشر رسالة المحبة و الإخاء.
إن أحداث 11 أيلول أضحت مؤشراً علاماً و محدداً في صوغ العلاقات الدولية حتى أنها باتت مبرراً للشهوة الاستعمارية الجديدة , تلك الشهوة التي لا زالت تتحكم بالذهن الغربي "ذلك أن الأمم العظمى عندما لا تتألق فهي تحكم على نفسها بالتلاشي" و ألق الغرب مقترن دائماً بتحكيم منطق القوة و لا تعجزه الأسباب و المبررات لاستعمالها. انه عندما كانت السياسة الاستعمارية هي الوليد الطبيعي للنهضة الصناعية , فإنها مازالت و ستبقى بقاء تلك الشهوة و إن أتت تحت لبوس اسمه الحضارة الغربية بحجة تمدين العالم و دمقرطته , و المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي عندما قال " أن التحدي هو شرط التجاوز " كان يشير إلى أزمات كبرى قد تعترض الإنسانية والى إمكانية تجاوز قطوعاتها فقط عندما تريد ذلك.
إن على أميركا العمل على تجاوز ذاتها و أن تدع عنها شعور الهيمنة و هي تسعى نحو البقاء , أنها القفزة الكبرى بالنسبة لها ولاشك , ولن يساعدها في ذلك إلا اعترافها بحاجة البشرية إلى عالم متعدد الأقطاب , ذلك أنه ليس من مقدرة بلد بعينه مهما كانت إمكاناته أن يحل مشاكل العالم بمفرده.
إن أميركا تستحق رئيساً صادقاً يخبر الشعب الحقيقة , و العالم يستحق منها الالتزام بالمعاهدات الدولية وعلى رأسها معاهدة كيوتو للحد من الاحتباس الحراري , و تنظيم العمل الإنساني بقيادة أميركا الحرة من أجل القضاء على الفقر و الأمراض المستوطنة و الايدز, و العمل على إنهاء بؤر التوتر و الصراع في العالم و إحلال السلام.
إن الفاشية الصهيونية بمراكز نفوذها المختلفة وهي تتحكم بالقرار الأميركي يعطي انطباعاً عنصرياً عن الشعب الأميركي و هذا ما لا يرغبه و هو دون إرادته .
إن من أهم ما يمكن أن تفعله أميركا على الإطلاق , هو أن تقايض إسرائيل و تساوم عليها و إن كان بالشيطان نفسه ....ذلك أن الشيطان يراود الإنسان الفرد عن نفسه في ارتكاب الأخطاء و المعاصي , أما الصهيونية فإنها تراود الإنسانية جمعاء في إيرادها الويلات و الاحتراب المدمر فيما بينها.
لقد أرهق السيدة هيوز مسعاها في تحسين صورة أميركا المشوهة , وكان جهلها بالإسلام و ثقافات شعوبه تقف عائقاً بينها وبين تحقيق مهمتها ..... ماذا لو أن أميركياً مسلماً من أصول عربية تولى هذا المنصب ,و عمل على تجميل صورة أميركا شرط أن يكون مخلصاً لأقانيمه الثلاث؟! .
أنها على كل حال توصيفات و اقتراحات للإدارة الأميركية القادمة , ولعل في موت ربان الطائرة التي قصفت هيروشيما ما يمهد لطي صفحة , ويحفز أميركا في قفزتها الكبرى لفتح صفحة جديدة مع نفسها و العالم ... فهل هذا ممكن ؟.