سوريا في ذكرى حرب أكتوبر:استحالة التكرار وصعـوبة الخيار

سوريا في ذكرى حرب أكتوبر:

استحالة التكرار وصعـوبة الخيار

أنس العبدة

    انسداد الأفق السياسي غالباً مايدفع إلى تبني الحل العسكري، فالحروب تبدأ  وتنتهي بقرار سياسي ، وهي أولاً وأخيراً تخدم الاستراتيجية السياسية لصانع القرار . هذا ماحدث بالضبط قبل ثلاث وثلاثين سنة عندما قرر أنور السادات أن يعلن عن نيته بشأن اتفاق سلام مع إسرائيل . لم يجد الرئيس المصري آنذاك ضيراً من أن يعلن ذلك على الملأ عام  1971 من على منصة مجلس الشعب في القاهرة بعد أن بعث برسالة

مماثلة وواضحة إلى غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل عبر وزارة الخارجية الأمريكية،فكان بذلك أول زعيم عربي يَقبل علنا بمبدأ السلام مع إسرائيل. جاء الرد من  إسرائيل بالرفض، وعبثاُ حاول مساعد وزير الخارجية الأمريكي جوزيف سيسكو تليين الموقف الإسرائيلي. شعر الرئيس المصري بالإحباط عندما أيقن أن صنّاع القرار في إسرائيل والولايات المتحدة لايأخذونه على محمل الجد، وقرر حينها خوض حرب كان قد بدأ الإعداد لها سلفه من قبل. كانت الظروف الموضوعية مواتية لمثل هذا التحرك، فالجيش مازال يمتلك إرادة القتال، والشعب تواق إلى رد الاعتبار، هذا بالإضافة إلى وجود داعم عسكري وسياسي متمثل في الاتحاد السوفييتي، وغطاء سياسي واقتصادي توفره الدول العربية. وهكذا كانت الحرب على جبهتين في آن واحد وتوقيت دقيق ومدروس مما أحدث صدمة قاسية لإسرائيل التي كانت تعيش مرحلة متقدمة من الغرور والشعور بالأمن بعد حرب الأيام الستة. وعلى الرغم من النجاحات المبدئية على الجبهتين، ورغم التضحيات الكبيرة والشجاعة الفردية للجندي السوري والمصري إلا أن النتائج العسكرية لحرب أكتوبر جاءت على غير ماتمناه الجانب العربي. لكن هذا لم يمنع السادات من الاستثمار السياسي لهذه الحرب من خلال تقديم نفسه مرة أخرى وبصورة أكثر إقناعاً للجانب الأمريكي. وحصل السادات على ماكان يطمح إليه من قبول الولايات المتحدة وبدأ وزير خارجيتها هنري كيسنجر بممارسة هوايته المفضلة في التنقل بين العواصم باسطاً شراكه لهواة المفاوضين.

كان هذا مشهد البارحة، أما اليوم فإن رفض إسرائيل للعروض السورية المتكررة للعودة إلى مائدة المفاوضات يذكّرالكثيرين بما حدث من قبل وما يمكن أن يحدث إذا ما استمر هذا الرفض. ورغم وجود شيء من التشابه بين المشهدين إلا أن الفارق بينهما كبير، فالظروف الموضوعية التي ساعدت على الارتقاء من حالة العجز إلى حالة المواجهة الشاملة قبل واحد وثلاثين عاماً لم تعد موجودة الآن. ففقدان الاتحاد السوفييتي كداعم عسكري وسياسي محوري في العالم، وضعف التغطيةالسياسية والاقتصادية العربية التي دخلت مرحلة من السبات الشتوي، والأهم من هذا كله هو قيام النظام السوري بإضعاف عوامل القوة الداخلية مما أدى إلى حالة من الوهن أصبح معها خيار المواجهة العسكرية الشاملة مع إسرائيل خياراً غير واقعي. وفي المقابل فإن خيار التنازل الكامل والتحول إلى المعسكر الآخر يبدو أيضاً غير منطقي ومحفوف بالمخاطر لأن مسلسل التنازلات قد ينتهي بتنازل النظام عن نفسه.

كل المؤشرات الحالية تدل على أن القيادة السورية تنزع إلى استخدام أسلوب طالما تمرست عليه لأكثرمن ثلاثين عاماً خلت وهو الاستفادة من الأوراق التي تملكها واللعب بها والمراهنة على عامل الوقت واحتمال تغيّر الظروف الدولية والإقليمية في محاولة جادة للتصدي للضغوطات الموجهة لها من كل جانب. لكن المشكلة هي أن هذا الأسلوب مكشوف تماماً للمعسكر الآخر والأوراق التي ستطرح معروفة لديه أيضاً. الورقة الأولى هي الورقة اللبنانية وتحتل المرتبة الأولى من حيث الأهمية الاستراتيجية للقيادة السورية، أما الورقة الثانية والثالثة فهما متعلقتان بالفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حماس والجهاد ثم الحالة العراقية على الترتيب. كما أن النظام السوري يضع في اعتباره عدة نقاط منها:

أولاً:الإدارة الأمريكية متورطة في العراق وهي على أبواب انتخابات رئاسية حاسمة، وبالتالي فإنها ولو نجحت في اجتياز عقبة الانتخابات فإنها- أي الإدارة – ستفكر ملياً قبل التورط في مغامرة عسكرية جديدة في منطقة الشرق الأوسط عامة وفي سوريا خاصة.

ثانياً: النظام يسيطر بشكل أمني كامل على سوريا ولبنان مما يعطيه دون سواه مقدرة فائقة على كبح جماح اللاعبين المحليين خاصة في لبنان. الإدارة الأمريكية تقر وتدرك أهمية ذلك.

ثالثاً: المعارضة السورية سواء الداخلية منها أو الخارجية معارضة هزيلة وغير فاعلة. أما المعارضة اللبنانية وإن كان صوتها عالياً داخل وخارج لبنان إلا أنها مهمشة وبعيدة عن مؤسسات الدولة اللبنانية.

رابعاً: ليس لدى الإدارة الأمريكية بديلاً مقنعاً وذا مصداقية ليحل محل النظام السوري، لذا تجد نفسها – سواء أحبت ذلك أم لا -  مضطرة إلى التعامل معه حتى حين.

كل هذه الاعتبارات تعطي القيادة السورية جرعة من الثقة للاستمرار في لعب الأوراق والمراهنة، وقد بدأت، ففي الحالة العراقية نجد أنها تتعاون وبشكل جدي مع الإدارة الأمريكية في مسألة تأمين الحدود ساعية بكل جهد إلى استجلاب التعاون العسكري الأمريكي لما لذلك من أمل في إمكانية فتح قنوات الحوار المسدودة مع واشنطن. لذا ليس غريباً أن يعتبر المتحدثون الرسميون السوريون زيارة وليم بيرنز إيجابية  وبناءة رغم ماجاء به من إملاءات وشروط، فالنظام السوري يعاني عزلة حقيقية ويسعى بكل ماأوتي من قوة إلى كسر هذه العزلة والوصول إلى قلب الإدارة الأمريكية حتى لو كان ذلك على حساب حلفه السابق مع فرنسا، فهو يدرك أين تكمن مفاتيح الحل. وهو مستعد أيضاً لتقديم تنازلات فيما يتعلق بالفصائل الفلسطينية وإن كان بمقادير أقل من الحالة العراقية. لكن الورقة اللبنانية ستبقى الأكثر أهمية والأعمق استراتيجية، لذا فقد عمد النظام إلى ربطها بموضوع الانسحاب من الجولان وسيسعى النظام السوري إلى إعداد "كوكتيل" معقد من التنازلات والتفاهمات والمراهنات وخلط الأوراق لضمان أمرين اثنين:

ضمان البقاء، واستمرارية النفوذ في لبنان. الإدارة الأمريكية تدرك ذلك جيداً فهي تصرّ- بناءً على منطقها الجديد في التعامل مع الشرق الأوسط – على تخلي القيادة السورية عن جميع أوراقها وبدون شروط. كلا الطرفين يعتقد أن لديه أمل في النجاح ولو جزئياً من خلال هذه المواجهة غيرالعسكرية.

ولعل الشعب السوري هو الغائب الأكبر عن هذا الصراع لأن النظام لايعتقد أنه بحاجة ماسة إلى الشعب، ولكن الشعب السوري سيكون أول من يدفع ثمن هذا الصراع بالإضافة إلى مادفعه وما زال يدفعه بسبب سياسات النظام الحالي. ولا أدلّ على هذا من مقولة عجيبة لنائب وزير الخارجية السوري وليد المعلم عندما سئل على شاشة الجزيرة ضمن برنامج حوار مفتوح قبل أيام عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا فأجاب بأن مسألة الديمقراطية مربوطة بتنفيذ إسرائيل لكل قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة !!! بمعنى آخر فإن الرسالة التي يريد "المعلم" توصيلها لنا جميعاً هي أن الديمقراطية بعيدة عن الشعب السوري بُعد المشرقين. هذا تماماً مايعنيه النظام، فلا إصلاح ممكن، مع الإصرارعلى عدم التغيير لأنه يعتقد أن التغيير يعني الانهيار.

إن مطالب الولايات المتحدة وإسرائيل واضحة، كما أن مطالب الشعب السوري واضحة أيضاً، وماعلى القيادة السورية إلا أن تختار....