صفحات من ملامح البيئة الأدبية في حمص خلال تاريخها الحديث
صفحات من ملامح البيئة الأدبية في حمص خلال تاريخها الحديث
ممدوح السكاف
بدايات الحركة الأدبية في سورية خلال القرن التاسع عشر..
كانت الحياة الفكرية حوالي منتصف القرن التاسع عشر، وفي أواخره على وجه التعيين خابية الروح ، منـزوية النَفَس ، إن لم نقل مفقودة غائبة في الشرق العربي بسبب سياسة العثمانيين في التجهيل وندرة المدارس ، لذا لم يكن ثمة أصلاً حركة أدبية بالمعنى المعروف والمصطلح الأكاديمي لهذا التعبير، لأن ظلَّ اللغة العربية كان منحسراً في تلك الآونة بعد أن أصبحت التركية هي اللغة الرسمية السائدة في الدواوين الحكومية وأداة لتخاطب والتفاهم على ألسن الكثيرين من العرب تحت عوامل الضغط والإرهاب
ولأن الصحافة كانت في بدائية تحريرها وبزوغها
أولاً وهي موجهة لتبجيل أعمال السلاطين ونشر أخبار الحكومة ثانياً ، ولأن الشعراء
على قلتهم كانوا ينظمون في المناسبات الاجتماعية الضيقة أو قل العائلية والإخوانية
شعراً فيه إسفاف وهلهلة ، تحتشد أبياته بالحلِى البديعية والنكات اللفظية فيسمج
ويتثاقل ويميل إلى أن يكون أوزاناً موسيقية فارغة من المعاني العميقة والصور
المجلوّة ولأن الأمية كانت فاشية بين الجميع ، فالقلة جداً من صفوة الشعب وأبناء
الأسر الأرستقراطية كانت تقوى على القراءة والكتابة . وعلى الرغم من ذلك فقد ظهر في
هذه الفترة بعض الشعراء الحمصيين الذين قارعوا غلاة الأتراك والمتعصّبين للنـزعة
الطورانية وانتصروا للقضية العربية والإحساس القومي نذكر منهم الشيخ أمين الجندي
المتوفى سنة 1841م ، والذي عاصر حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام .
الأقلام الشعرية تواجه الاحتلال
الفرنسي للوطن
ثم بدأ النشاط الأدبي يدب في سورية منذ العشرينيات من هذا القرن
معبراً عن آمال الشعب العربي في سورية ورغباته في كسر القيود وتحطيم السلاسل ، فقد
كانت تلك الحقبة حافلة بالأحداث الوطنية المتتابعة التي تحفز القرائح والأقلام
للتعبير عن مكنونات النفوس المضطربة غضباً وغيظاً تجاه الاستعمار الفرنسي من مثل
الثورة السورية عام 1925م ومظاهرات الشعب المتلاحقة في سورية ضد المستعمرين
الفرنسيين .
وكان هذا الاستيقاظ الأدبي ينصبُّ في أكثره بقالب الشعر لأنه
الفن المتقدم آنذاك الذي يحتوي العواطف ويصهرها ويترجمها ويتمثل شحناتها النفسية
ولأنّ بقية الفنون الأدبية الرائجة حالياً كالقصة والرواية والمسرحية لم تكن معروفة
إلا كبدايات يومئذ في الشرق العربي وإنْ كانت قد وصلت في الوقت ذاته إلى قمة
ازدهارها في الغرب المتحضر .
ولم يكن مفهوم الثورة واضحاً في النفوس في أثناء الاحتلال
الفرنسي لسورية بل كان معنى الوطنية وما يصحبها من القداسة والاحترام والحب لتراب
الوطن هو الذي يشتعل في قلوب الشباب المنصرفين يومئذ إلى تشكيل الأندية الأدبية
والفنية والاجتماعية والتمثيلية يوجهون أعضاءها داخلياً توجيهاً سياسياً يهدف إلى
محاربة الأجنبي المحتل متخذين من مقرّاتهم أمكنة للاجتماعات وبث الدعوة التحررية
وإلقاء الخطب وتوزيع المنشورات المضادة للسلطة الفرنسية على الأفراد العاملين .
وكان لهذه التجمعات الوطنية أصوات شعرية تستغلها في المناسبات الجماهيرية إلقاء
ونشراً ، لاسيما أن الوعي الوطني كان في أوج ازدهاره بعد انتشار المدارس وإقبال
الطلاب على العلم والتحصيل الدراسي وافتتاح المعاهد الخاصة وذيوع الفرنسية
وترجماتها على الألسن ما خلق جواً فكرياً بين المواطنين شجّع على المطالعة والإنتاج
وحدا بأصحاب المواهب الأدبية أن يدخلوا ساح الكلمة ليحاربوا أعداء الحياة والحرية .
عوامل ولادة
الثقافة الفكرية الجديدة في حمص
وقد كانت الصحافة المهاد الأول الذي احتوى معطيات الأدباء
الطالعين وفتح صدره لثمرات قرائحهم ، فعلى صفحات ( المقتبس ) لأحمد كردعلي و ( ألف
باء ) ليوسف العيسى و ( فتى العرب ) لمعروف الأرناؤوط و ( فتى الشرق ) لأديب
الساعاتي و ( صدى سورية ) ليوسف شاهين و ( التوفيق ) لتوفيق الشامي ورفيق فاخوري
والثلاث الأخيرات صدرت في حمص
تجسَّد نضال الأدباء الأدبي .
كما كانت الندوات الأدبية والاحتفالات الوطنية والدينية
والمظاهرات الشعبية ومنابر الجمعيات الخيرية والكتل الحزبية والمقاهي الموزعة في
أحياء مدينة حمص مجالاً لتنفس الشعراء وإلقاء القصائد في الموضوعات المختلفة تبعاً
لنوع المناسبات وتاريخها وغرضها .
" وكان ( الجامع الكبير ) في حمص " سوربوناً " مُصَغرَّاً
والتشبيه هنا يتعلق بالناحية العلمية الصرف دون المساس
بالطابع الديني للمسجد ففي صحنه الواسع ومُصَلاّه
الخارجي الفسيح وغرفه المتعددة هنا وهناك كان جيش لجب من الجيل الجديد على مرّ
سنوات لا تتجاوز الخمس يجد موئلاً للدراسة في المسجد ، يستوي في ذلك طلاب التجهيز
أو الشرعية أو طلاب من أي مدرسة كانوا.. ولا أزعم أنه في تلك الفترة كان يحفل بأنجب
الطلاب وأذكاهم وأخبثهم أحياناً
فقط، بل كان يحفل
بالمثل ببعض الأغبياء ، لكنه في جميع الأحوال يحتشد بهؤلاء
الذين يقرؤون بضراوة ويلتهمون كل شيء من الشعر إلى الأدب إلى الفكر ، إلى " الرسالة
" و " الثقافة " و " الرواية " وكل أدباء تلك الموجة المصرية : طه حسين والحكيم
والعقاد والرافعي والمازني ودريني خشبة والزيات وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل والبشري
، ومن الأدب الصوفي إلى الأدب الغربي المترجم ، ومن الفلسفة الإسلامية إلى الفلسفات
الغربية ، إلى علم النفس ( جميل صليبا ) والارتقاء ونظرية داروين (إسماعيل مظهر )
ومجلات الهلال المقتطف والأزهر، ومن لبنان (المكشوف ) لفؤاد حبيش ولكتابها وشعرائها
العديدين جداً و (الأمالي ) للحوماني ، والصحف السورية التي تنشر الأدب والشعر
والأبحاث وأسماء الشايب وشكيب الجابري وأبو ريشة وصلاح المحايري وشفيق جبري ونجيب
الريسّ .
كانت الحصيلة الأدبية في حمص مجلة " البحث " أصدرها رفيق فاخوري
ورضا صافي ومحيي الدين الدرويش وأحمد الجندي والمرحوم علي الأبرش ( وقد توفي في "
بوردو " في فرنسا عام 1936 ) ونبيه سلامة ووجيه الخوري وبرهان الأتاسي . كما أصدر
الفاخوري والدرويش (أوابد الشعر ) وتسلّم هؤلاء وغيرهم
نشاطاً أدبياً تعليمياً غرس في نفوس الطلاب الجد وحب اللغة والشعر، وكانت صحيفتا "
حمص " الأسبوعية التي صدرت عام 1909 ولاتزال تصدر حتى يومنا هذا ، و " صدى سوريا "
إخباريتين ولكن تنشران أدباً .
دور الفرق المسرحية ونشاطها في حمص
وكانت النهضة المسرحية في صالات حمص الكثيرة والفرق التي ترد
حمص من مصر ودمشق وحلب بما في ذلك فرق حمص نفسها تخلق ذوقاً أدبياً صرفاً مسرحياً
(1) وغير مسرحي ، لاسيما إذا كان النص فصيحاً كمسرحيات
خالد بن الوليد وعبد الرحمن الداخل ومسرحيات شوقي " كليوباترة " و " قيس وليلى "
ومسرحيات لكتاب عرب أو مقتبسة . وكانت معظم الحفلات الموسيقية تقدم إمّا بموشحات من
الشعر أو بقصائد لشوقي أو أبي فراس أو غيرهما من الشعراء يغنيها مطربون مشهورون
يفدون إلى حمص بالذات أو مطربون من أبناء المدينة لهم صيت ذائع(2) .
النوادي
والمياتم مقرات لإلقاء المحاضرات والندوات
كل ذلك أبقى الذوق الأدبي والشعري نامياً وواضحاً يرافقه نشاط
فكري وخطب سياسية ومحاضرات أدبية تقام في ندوات واسعة بمناسبات قومية أو خاصة ، ومن
تلك الندوات الشهيرة : الميتم الإسلامي ، المدرسة الأرثوذكسية، النادي الأرثوذكسي ،
مكتب الكتلة الوطنية ، مكتب عصبة العمل القومي ، وكان يحاضر فيها أدباء وشعراء
مشهورون من لبنان ومن المهجر ، بالإضافة إلى عبد الرحمن الكيالي وسعد الله الجابري
وتوفيق شيشكلي وحسن مراد ووصفي قرنفلي والخوري عيسى أسعد ورضا صافي ومحيي الدين
الدرويش ومحمد روحي فيصل ونذير الحسامي وسليمان المعصراني ومراد السباعي .
الجيل
الجديد في حمص يقبل على قراءة الأدب الغربي
كانت حمص كبقية المدن السورية تعج بالأحداث السياسية الداخلية
في فترة 1935وما بعدها وكانت معاهدة 1963 وسط تلك
الأحداث وأوجها ، وكان هذا الوسط وسطاً سياسياً يجتذب الأدباء والمثقفين المؤيدين
والمعارضين منهم.. وكانت هذه الأمواج وصراعات الأحزاب في الداخل تأخذ طريقها إلى
الجيل الجديد بقوة وعنف، وبزغت الصحف والمجلات والكتب الأدبية وكانت أسعارها رخيصة
ومقبولة ووسائل الاطلاع سهلة ما جعل الجيل الجديد يقبل على التهام الزاد الفكري
بنهم وكان الأسبوع الواحد يحفل لدى كل مثقف بقراءة العديد من الكتب، ولم يعد
المنفلوطي مما يقرأ إلا لتجديد الأسلوب لدى الطلاب.. ومسرحيات توفيق الحكيم الأولى
و " عوة الروح " و " عصفور من الشرق " قرئت أول مانشرت ، وكذلك الأدب الجاهلي لطه
حسين وحديث أربعائه ، وحديثه عن أبي العلاء وأيامه ، وكذا العقاد والمازني وأساطير
اليونان بأسلوب دريني خشبة . وبدأ محمد مندور يكتب في النقد ويترجم لجورج ديهاميل (
دفاع عن الأدب ) وينشر " نماذج أدبية " و " في الميزان الجديد "
وكان مايدور في القاهرة من تيارات يدور مثله في حمص ولكن بشكل
مصغر . ومع هذه الموجة تدخل فترة الأربعينيات ، وتدخل معها الحرب العالمية الثانية
، وبدخولها حملت معها الشيء الحافل بالجديد جداً ، فها هي تيارات الأدب الغربي
الفكرية والسياسية تأتي مع المجلات والصحف والكتب والراديو ، وتلمع أسماء تقرأ
باستمرار مدة الحرب : إيليا أهرببورغ ، آراغون ، إبلزا تريولي ، جورج ديهاميل
فرانسوا مورياك ، جان بول سارتر ، ريتشاردز ، وتشيع الكثير من كتب اليسار
والاشتراكية والمذاهب الأوروبية الفلسفية وكانت ثمة كتب محرمة ، فسمحت الحرب وتحالف
الحلفاء بدخولها وقراءتها "(3) .
أهمية المكتبات الخاصة والعامة في نشر
الوعي لدى القرّاء
وكان للمكتبات في حمص دور هام أساسي في تثقيف أجيال الأربعينيات
والخمسينيات ، ومن هذه المكتبات ماهو عريق وآخذ بدور التوجيه في المطالعة. ومبدئياً
كانت مكتبة ( عبد المؤمن الشيخة ) ولاتزال إلى الآن المرجع الأول في اللغة والآداب
والمعجمات والمراجع الأمهات ، ومكتبة ( عبد السلام السباعي ) كانت المرجع الأول
للزاحفين نحو الكتب والمجلات باللغات الأجنبية ومكتبة زكريا عبارة , في منـزله كانت
مستودعاً لمشحونات الكتب الواردة من مصر وحلب وهي تعجُّ بكل أصناف القديم والحديث
تباع كتبها بأرباح زهيدة وأسعار بخسة .
كما لعبت ( المكتبة العامة ) دوراً جاداً في إنشاء أجيال
الخمسينيات.. وكنت نواة المكتبة في المركز الثقافي في حمص وسايرت حركة الزخم في
المطالعة العلمية الرصينة لدى الطلاب والمثقفين على السواء .
الحلقات
الثقافية في مقاهي حمص
وكان للمقاهي المنتشرة في وسط حمص وضمن شوارعها الرئيسية خلال
الأربعينيات حتى نهاية الخمسينيات كمقهى ( جورة الشياح ) و (الروضة ) و ( منظر
الجميل ) و ( الفرح ) و ( فريال ) دور هام وأساسي كذلك في تنشيط الحركة الأدبية
والفكرية والثقافية ، فقد كانت تتوزع في أرجائها حلقات الأدباء والمفكرين والمثقفين
ورجال السياسة وزعماء الأحزاب ، وكانت هذه الحلقات تستعرض النتاج الأدبي الذي كان
ينشر في صحف المدينة أو العاصمة أو في بيروت والقاهرة ، فتعالجه باهتمام كبير وتسهب
في الحديث عنه فتطريه أو تذمّه مُعللةً في الحالين.. وكانت المعارك محتدمة بين
أفراد هذه الحلقات وتدور لسانياً أو على شكل مساجلات صحفية تتجسد في مقالات لاهبة
موضوعية أو انفعالية، وتعالج أساليب التعبير الكلاسيكية المتوارثة أو طرق التعبير
المستحدثة ومسألة الأدب الحر والأدب الموجَّه وقضية السلام والحرب، والمعسكر الشرقي
والغربي.. إلى ماهنالك من قضايا تستحق النقاش وتثير التساؤلات وكان الأدباء يدلون
بدلوهم فيها ويوضحون مواقفهم من خلالها بصراحة وجرأة ، محافظين في كتاباتهم على أدب
الحوار وأخلاقياته وما فيه من احترام وتوقير بين الناقد والمنقود ، ومذهبه في الأدب
والحياة ، على الأعم الأغلب . في مثل هذا الجو السياسي والوطني والاجتماعي
والثقافي نشأت وترعرعت مواهب الروّاد الأوائل للشعر في حمص ، وقد تبلورت مع مرور
الزمن وتعاقب السنين في ثلاثة تيارات أدبية رئيسة لثلاثة أجيال زمنية هي الكلاسيكية
والرومانية والواقعية ، والحديث عنها يطول ويتشعب .