القضية السورية(قضية الصراع بين السلطة الحاكمة والإسلام)(1-2 من 6)
القضية السورية
(قضية الصراع بين السلطة الحاكمة والإسلام)
(1 من 6)
بقلم : الدكتور محمد بسام
يوسف
مقدّمة
لقد كانت سورية إحدى ضحايا التآمر والانقلابات العسكرية خلال أكثر من نصف قرنٍ من الزمن، وحُرِّم عليها الاستقرار، إلا الاستقرار الوهميّ على أيدي صُنّاع الموت وحمّامات الدم والاستبداد، من القافزين إلى السلطة على ظهور الدبابات، الذين أغرقوا البلاد والعباد بالفوضى والتخبّط والتخلّف، وأخذوا يزاودون ويحاولون عبثاً، إلصاق نتائج ما اقترفته أيديهم، بغيرهم من أطراف المعارضة، خاصةً المعارضة الإسلامية، وبشكلٍ خاصٍ الحركة الإسلامية أو (جماعة الإخوان المسلمين)!..
إنّ الحركة الإسلامية في سورية ليست حزباَ سياسياً عابراً يضمّ أطراً تنظيميةً ضيقة، فهي تمثل تياراً واسعاً في الشعب السوري، يضرب جذوره في الأعماق، وتمثل الصحوة الإسلامية المستنيرة التي شع نورها في أرجاء الأرض، وتاريخها يشهد لها أنّ أبناءها كانوا دائماً دعاة خيرٍ وتسامحٍ وحوارٍ وإصلاح .. وقد شاركوا في الحياة السياسية في كل العهود الديمقراطية، كما شاركوا في مقارعة الاستعمار، وفي حرب فلسطين، وفي الحياة الثقافية والفكرية والاجتماعية، وكان لهم نواب ووزراء في العهود الديمقراطية، وصحف، ونوادٍ، ومستشفيات، وجمعيات خيرية .. لذلك لا يمكن إلغاؤهم بقانون، أو إلغاء دورهم بِجَرّة قلم، فهم يدعون إلى الله عز وجل على بصيرةٍ بالحكمة والموعظة الحسنة، وبرنامجهم هو الإسلام، ومرجعيّتهم كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، شأنهم في ذلك شأن الحركة الإسلامية في كل أقطار الأرض .. وكذلك هم يرفضون كل أشكال العنف والتطرف، ويؤمنون بالتدرج في الخطوات، ويؤمنون بمبدأ الحوار لحل أي خلاف، وتاريخهم يشهد أنهم رجال دعوةٍ وفكرٍ وسياسة، يحترمون القوانين، ولا يَضيقون ذرعاً بالرأي الآخر، ولا يتطلّعون إلى مكاسب حزبية، بل يقدّرون كل جهدٍ يبذله غيرهم في هذا السبيل ويدعمونه .
من حق أبناء الجيل الحالي والأجيال القادمة، في سورية وخارجها .. أن يعرفوا الحقائق التاريخية والسياسية، ويطّلعوا على حقيقة موقف الإسلاميين والحركة الإسلامية في سورية، من مختلف القضايا الوطنية التي مرّت على الوطن، وما تزال تتفاعل منذ أكثر من نصف قرنٍ من الصراع المرير بين السلطات الحاكمة المتعاقبة .. والإسلام!.. وذلك للاستفادة من دروس الماضي وعِبَرِه، وللتأسيس لمستقبلٍ وطنيٍ جديد، يقوم على الانفتاح واحترام مبادئ حقوق الإنسان، التي كفلتها كل شرائع السماء، وكل المبادئ الحضارية لإنسان هذه الأرض!..
* * *
مَدْخَل
تأسّست الحركة الإسلامية في سورية عام 1945م، برئاسة فضيلة الشيخ الدكتور مصطفى السباعي، الذي سُمي مراقباً عاماً للحركة، وتم الإعلان عن أنها في سورية جزء من تنظيم الحركة الإسلامية في مصر .
كان للحركة دور إيجابي بارز في الحياة الفكرية والاجتماعية السورية، وتعدّدت نشاطاتها في كل جوانب الحياة التنظيمية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية والثقافية والعلمية، ولعل من أبرز تلك النشاطات كانت النشاطات السياسية، إذ كانت الحركة تشارك في الحياة السياسية منذ عهد الاستقلال (عام 1946م)، فدخلت البرلمانات والحكومات المتعاقبة، وكان لها نواب في البرلمان، وفي هذا الإطار نستطيع أن ننظر إليها حزباً سياسياً يحاور ويواجه ويُطلق الأفكار والآراء ويدافع عنها، ويعقد التحالفات الوطنية، ويرى الواقع الوطني بعينٍ مسؤولة، ويؤمن بالحرية والتعدّدية، ليس السياسية وحسب، وإنّما الفكرية والدينية أيضاً .. ويتحالف مع قوىً سياسيةٍ ليبراليّة، كما يتحالف مع مرشّحين مسيحيّين في معارك البرلمان .. والإسلاميون يعتقدون أنّ قوّة كل حزبٍ أو جماعةٍ إنما تنبع من الرصيد الشعبي، ونسبة البطاقات التي يمكن أن تُحصَد في صناديق الاقتراع، خلال فعالياتٍ ديمقراطيةٍ حقيقيةٍ في الوطن السوريّ .
* * *
أبرز ملامح النشاط السياسي للحركة الإسلامية
(من عهد الاستقلال إلى عهد البعث)
في إطار النشاط السياسي للإسلاميين، يمكننا أن نعدّد أبرز الأنشطة السياسية التي انخرطوا فيها، وسماتها الأساسية، وذلك في مرحلة الاستقلال والمراحل التي تلتها، حتى انقلاب الثامن من آذار عام 1963م، وفي هذا يمكن أن نقول : إن نهج الحركة الإسلامية اعتمد الأسس التالية :
1- معايشة الحكم الوطني الديمقراطي، والمقاومة السياسية للديكتاتورية والظلم والانحراف، حين كان يظهر في الحكومات المتعاقبة .
2- المشاركة في الانتخابات النيابية في كل العهود الديمقراطية (في أعوام 1947م و1950م و1954م و1962م).
3- الإسهام في وضع دستور البلاد، وصَبغه بالصبغة العربية الإسلامية .
4- مدّ الجسور باتجاه الجماعات الإسلامية من جهة، وباتجاه الأحزاب السياسية غير المعادية للإسلام (من مثل حزب الشعب والحزب الوطني) من جهةٍ ثانية .. فيما كانت العلاقة مع الأحزاب العلمانية (كحزب البعث والأحزاب الشيوعية) علاقة خصومةٍ ونزاع، بسبب العلمانية الصريحة لتلك الأحزاب، وعدائها للإسلام .
5- إصدار الصحف في مختلف المحافظات السورية، كصحيفة (الشهاب) التي كانت لسان حال الحركة، و(المنار)، و(اللواء)، و(المرصاد)، وكذلك المجلات من مثل : (مجلة الغد)، و(مجلة المسلمون) التي أصبحت فيما بعد (مجلة حضارة الإسلام) .
6- الإسهام في تشكيل كتلةٍ برلمانيةٍ سياسيةٍ داخل البرلمان .
7- تأييد القضايا العربية، مثل تأييد الشعب المصري في جلاء الإنكليز، وتأييد وحدة وادي النيل، ونصرة مصر إبان العدوان الثلاثي (1956م)، وتأييد الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي، وتأييد العراق العربي ضد المطامع الإنكليزية .. لكن أهم من هذه القضايا كلها، تأييد ودعم واضحان للقضية الفلسطينية، وذلك في كل الميادين السياسية والإعلامية والعسكرية، على رأسها خوض المعارك الجهادية المشرّفة على أرض فلسطين (في عام 1948م)، بقيادة زعيم الحركة نفسه (الشيخ الدكتور مصطفى السباعي) رحمه الله .
8- المشاركة في الانتخابات النيابية في أوائل الخمسينيات، وقد اختير الدكتور (مصطفى السباعي) نائباً لرئيس مجلس النواب في عام (1950م)، ونجح بعض مرشحي الحركة بشكلٍ فردي، وتم تشكيل ما سمي بـ (الجبهة المستقلة) في البرلمان، ولم تتمكن من المشاركة في الانتخابات بشكلٍ رسميٍ بعد انقلاب (الشيشكلي)، بسبب الإجراءات التي قام بها الرئيس (أديب الشيشكلي) ضد الأحزاب، خاصةً ضد الإسلاميين .
وكذلك شاركت الحركة في الحكومات، واستلم بعض رجالها -في هذه المرحلة- حقائب وزاريةً على المستوى الشخصي أيضاً .
9- قيادة زعيم الحركة الدكتور مصطفى السباعي لحملة (أسبوع التسلح) الشعبية (عام 1955م) لدعم الجيش السوري .
10- رفضُ الحركة مشروعَ ضمّ سورية إلى (حلف بغداد) .
11- كان لإسهام الدكتور (مصطفى السباعي) في المؤتمر الإسلامي المسيحي عام 1954م في لبنان (بحمدون)، وكذلك حواراته مع المفكرين الغربيين والمستشرقين، خلال زياراته للجامعات الأوروبية عام 1956م .. أثر إيجابي في ترسيخ الحوار بين الأديان .
12- حلّت الجماعة نفسها في عهد الوحدة مع مصر (1958-1961م)، حرصاً على نجاح تجربة الوحدة، وذلك من منطلق الحِسّ الوطني في تغليب مصلحة البلاد على مصلحة الجماعة الخاصة، فالوحدة مكسب إسلامي وطني، ولا مصلحة للجماعة ولا للوطن، في الصدام مع سلطة الوحدة الحاكمة .. وقد رفضت الجماعة التوقيع على وثيقة الانفصال لدى حدوثه في (28 أيلول 1961م)، فلم تفعل ما فعلته معظم الأحزاب القومية والاشتراكية والشيوعية التي وقّعت على تلك الوثيقة .
13- العودة إلى النشاط السياسي العلني في عهد الانفصال (1961- 1963م)، وخوض الانتخابات البرلمانية، وقد نجح عدد لا بأس به من مرشحي الحركة بالدخول إلى البرلمان : (عصام العطار، وعمر عودة الخطيب، وزهير الشاويش، ومحمد سعيد العبار، وطيب الخجة، ومحمد علي مشعل، وعبد الفتاح أبو غدة، ونبيل صبحي الطويل)، وقد ضمت كتلة الإسلاميين وأصدقائهم حوالي عشرين نائباً .
في هذه المرحلة (مرحلة الانفصال) عادت الأحزاب السورية لقيادة الشارع السوري، ومنها (حزب البعث) الذي تكتّلت وراءه القوى القومية والطائفية، واشترك بعض نواب الحركة الإسلامية في الحكومات المتعاقبة، واستلموا حقائب وزارية في حكومة (خالد العظم)، ومن هؤلاء : (عمر عودة الخطيب وزيراً للتموين، والدكتور نبيل الطويل وزيراً للصحة، ومصطفى الزرقا وزيراً للعدل والأوقاف، وأحمد مظهر العظمة وزيراً للزراعة)، وقد أحبط الإسلاميون وكتلتهم النيابية (بقيادة عصام العطار) بعض مؤامرات الانقلابات العسكرية التي حاولت تعطيل المجلس النيابي والحياة البرلمانية، من مثل : (الانقلاب الذي جاء بالدكتور بشير العظمة الشيوعي)، علماً بأن الحركة كانت قبل هذه المرحلة قد وقفت موقفاً معارضاً بعد انقلاب (الشيشكلي) تجاه إجراءاته الدكتاتورية في بداية الخمسينيات (1951-1954م)، وقبل ذلك ضد انقلاب (الحناوي) في عام 1949م، وكان لجهودها الدور البارز في إعادة الشرعية للبرلمان .. كما رفضت استلام الحكم في عهد الانفصال أكثر من مرة، ورفضت على لسان أعلى المراتب القيادية (الأستاذ عصام العطار) أن يُفرض حكمها على الشعب فرضاً .
لم يحاول الإسلاميون أن يعرقلوا الحياة الديمقراطية، كما لم يرفضوا في أي يومٍ نتائجها، ومع أنهم قد أخفقوا في بعض معاركهم السياسية على الصعيدين الشعبي والبرلماني .. فقد تقبّلوا النتائج بأريحيّةٍ سياسية، وكانت دعوتهم السياسية تؤكّد على معاني الحرّية، والاستقلاليّة، والتعدّدية، والتعاون، وبناء أسسٍ قويمة للدولة .. كما كانوا يؤكّدون دوماً على البعد الأخلاقي للدولة ورجالاتها، ويندّدون بالفساد بكل صوَرِه وأشكاله .
لقد كانت (مرحلة الانفصال) مرحلةً خاصةً لاستعادة الأحزاب والقوى السياسية نشاطها، وللتسابق فيما بينها، إلى أن ختم الانقلابيون هذه المرحلة (في عام 1963م) بانقلابٍ عسكريٍ بقيادة الضابط (زياد الحريري) ومن ورائه البعثيون، ثم تمخّض عن حكمٍ ديكتاتوريٍّ بوليسيّ، أنهى المرحلة الديمقراطية للبلاد، وما يزال مستمراً حتى يومنا هذا .
القضية السورية
(قضية الصراع بين السلطة الحاكمة والإسلام)
(2 من 6)
الصراع مع حزب البعث الحاكم
المشكلة الكبرى التي واجهها الإسلاميون ودفعوا ثمنها، هي أنهم لا يتصورون أن الجيش الذي يُبنى ليحمي الوطن، يمكن أن يكون وسيلةً للقفز إلى السلطة، وأنّ الدّبابة يمكن أن تحلّ محلّ صندوق الاقتراع!.. هذا التصوّر الذي عمل به الآخرون، فتمكّنوا من السيطرة على مقاليد الجيش والآلة العسكرية التي فرضوا من خلالها أنفسهم على الوطن والشعب، وأزاحوا عن الخارطة الوطنية كل القوى السياسية التي يمكن أن تنافسهم!..
إنّ أطيب ثمرات مرحلة الحرية في أجواء الوطن بشكلٍ عام، هي ظهور قدرة الإنسان السوري على أن يتحمّل مسؤولية الخيار الديمقراطي، وأن يعيش تجربته بنجاحٍ واقتدار، وأن يحقق تلاحماً وطنياً حقيقياً، يضم تعدّديةً عرقيةً ودينية ومذهبية وسياسية، تنصهر كلها في بوتقة عملٍ وطنيٍ شامل، تسدّده وتُغينه وتطوّره .
فالنسيج السكانيّ السوريّ يتشكّل من : عرب وأكراد وشركس وتركمان ومسلمين ومسيحيين (كاثوليك وأرثوذوكس وبروتستانت وأرمن)، وسنّة وشيعة وعلويين ودروز وإسماعيليين .. وليبراليين (حزب الشعب والحزب الوطني) .. وشيوعيين وبعثيين وإسلاميين وإخوان مسلمين!.. وكان لكل حزبٍ أو تيارٍ صُحُفُه ومنتدياته ونوابه، وأحياناً وزراؤه!.. كان الوطن يموج بالحركة والحيوية والنشاط والأمن والأمان (ما عدا فتراتٍ محدودة تعرّضت فيها الحياة الديمقراطية لبعض الانقلابات العسكرية) .. إلى أن جاءت صبيحة الثامن من آذار عام 1963م، فوَأَدَ الانقلابُ العسكري كل ما كان، وأُدخِلَت البلاد في نفقٍ مظلمٍ، ما تزال تعاني من وطأته حتى الآن!..
أولاً : نُذُر الصراع وأسبابه
إنّ خلاف الإسلاميين مع النظام السوري الحاكم، كان في الأصل جزءاً من الخلاف بين الفكر العلماني والفكر الإسلامي، إلى أن استأثر حزب البعث بالسلطة عام 1963م، واتبع أساليب القمع والإرهاب ضد خصومه السياسيين، وقام بخطواتٍ استئصاليةٍ ضد الحركات الإسلامية عامةً في سورية، وذلك تنفيذاً لمقرراتٍ حزبيةٍ بعثيةٍ اتخذت منذ عام 1965م وما بعده، إذ صُنّفت بموجبها الحركات الإسلامية ضمن القوى الرجعية المضادة للثورة، فبدأت حملات التصفية، وفُتحت المعتقلات لأبناء الحركات الإسلامية والإسلاميين، وقد كانت حالة الطوارئ والأحكام العرفية المفروضة على البلاد منذ عام 1963م، وأساليب القمع ومحاولات استئصال الآخر التي اتبعها النظام .. كانت الخطأ الأكبر والأول الذي أسّس للصراع بين الطرفين، كما أنّ الحرب المعلنة على الحركات الإسلامية وعلى الإسلاميين وتهديدات النظام لهم بالتصفية، والشروع في تنفيذ تهديداته بحقهم، واتهامهم اتهاماتٍ باطلة، وتحميلهم مسؤولية أحداثٍ واعتداءاتٍ لا علاقة لهم بها، واستمرار الاعتقالات والتصفيات في السجون، والإعدامات الظالمة من غير محاكمات، وفرض القانون رقم (49) لعام 1980م، الذي يحكم بالإعدام على كل مَن ينتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين (مجرد الانتماء)، واستمرار الملاحقات داخل الوطن وخارجه، وتنفيذ المجازر الجماعية العديدة التي باتت معروفةً للجميع، كمجزرة سجن تدمر، ومجازر حماة، وحلب، وجسر الشغور، و.. كل ذلك قاد إلى حالة الاحتقان القصوى، ثم إلى تفجّر الصراع بين الطرفين!..
ثانياً : انقلاب البعث وبداية احتدام الصراع (في عام 1963م)
لقد كان انقلاب الثامن من آذار عام 1963م كارثةً حقيقيةً ما تزال سورية تعاني منها حتى اليوم، إذ أدخِلَت البلاد في نفق حكم الحزب الواحد المنفرد المتسلط القمعيّ، فقُمِعَ الإنسان السوريّ على نحوٍ لم يسبق له مثيل في تاريخه، وأُدخِلَت سورية في مرحلة تدمير البنية التحتية الأساسية للمجتمع، عبر صراعاتٍ طبقيةٍ اتخذت فيما بعد الصبغة الطائفية الواضحة، حين فتح حزب البعث الباب على مصراعيه أمام الأقليات الطائفية، لتمسك بزمام الأمور ومفاصل القوّة الحقيقية والسلطة في البلاد، وبدأت تظهر الحالة العدائية الحزبية للإسلام، عبر تحدي قِيَمِه وعقيدته، وإكراه الناس على عقائد وسلوكياتٍ معاديةٍ لعقيدة الإسلام، وعبر منهجٍ تدميريٍ ثابتٍ أصيلٍ تمتعت به كل الحكومات المتعاقبة .
كان قفز حزب البعث إلى السلطة نقطة انعطافٍ خطيرةٍ في تاريخ سورية، فقد عمد إلى مصادرة الحريات العامة، وحلّ الأحزاب السياسية، وإغلاق الصحف والمجلات ومنابر الرأي، وفرض الأحكام العرفية، واحتكار وسائل الإعلام، وإلغاء كل دورٍ للمعارضة السياسية!.. فقد بدأ في سورية حكمٌ فرديّ، عطّل الحياة السياسية، ولاحق الأحرار وأصحاب الرأي المخالف وطاردهم، وأعلن قوائم طويلةً للإقصاء المدنيّ، كان ضحاياه مئات رجال الفكر والدين والسياسة، وتشبّث بالشعارات والأدبيّات الاستبدادية، وتبنّىعقيدة (العنف الثوري) لتصفية خصومه المخالفين له في الرأي، ولم ينجُ من عواقب هذا السلوك حتى رجال البعث أنفسهم، عبر التصفيات المصلحية التي جرت بينهم، والانقلابات العسكرية التي وقعت من قِبَل بعضهم على بعضهم الآخر!..
أمام شدّة الهجمة القمعية، وتحت وطأة الاستبداد الدمويّ، التي بدأت بفرض قانون الطوارئ الصادر بالأمر العسكري رقم (2) وتاريخ (8/3/1963م)، أمام ذلك كله .. أخلى كثير من القوى السياسية الساحةَ، وتُرك المجتمع السوريّ وحده يواجه البطش والتنكيل وعمليات التضليل الأيديولوجي والفكري!.. لكنّ الحركة الإسلامية على الرغم من أنها كانت في رأس قائمة الاستئصال .. فقد وَعَتْ أنها دخلت مرحلةً صعبةً قاسيةً من التحدي الفكري والعقدي والنفسي، فقرّرت خوض الصراع الشامل المفروض : فكرياً ودعوياً وعقدياً وتربوياً، وذلك من منطلق أنّ الدعوة فرض عينٍ على كل مسلم، وأنّ الدفاع عن عقيدة المجتمع السوري وإسلامه واجب شرعيّ لا يمكن التخلي عنه، وهذا ما بدأ يطبع الفكر الإسلاميّ وحركة الإسلاميين بطابعٍ مميّز، مختلفٍ عن سائر العهود الماضية السابقة لهذه المرحلة، كما فرض على الحركة طابع التنظيم السرّي مع المحافظة على علنية الدعوة، وذلك لتحفظ أبناءها من شرّ الاستبداد، وتحافظ في نفس الوقت على مسيرة العمل الدعويّ الإسلاميّ .
ثالثاً : تسخين الصراع في المراحل الأولى من حكم البعث (حتى عام 1970م)
تميزت هذه الفترة من حكم البعث بثلاث ميزات رئيسية :
الأولى : بطش السلطة بالقوى المعارضة لاسيما الناصريين والإسلاميين .
الثانية : وقوع سلسلةٍ من التصفيات والانقلابات الانشقاقية داخل حزب البعث نفسه، انتهت إلى إقصاء مؤسّسي الحزب الأصلاء وملاحقتهم، من مثل : (ميشيل عفلق، وصلاح البيطار، وشبلي العيسمي، ..)!..
الثالثة : اشتداد زحف الأقليات الدينية (لاسيما العلويين) باتجاه الحزب والجيش، والسيطرة عليهما، وقد تُوِّج ذلك بحركة الضابط العلوي (صلاح جديد) في 23 من شباط عام 1966م، ثم بحركة الضابط العلوي وزير الدفاع (حافظ الأسد) .
إنّ السيطرة الطائفية على أهم مراكز القوة في الحزب والجيش السوري كان قد دُبِّر بليل، فمنذ عام 1959م، تشكّلت اللجنة العسكرية للحزب (على الرغم من قرار حلّه في عهد الوحدة) من خمسة ضباط، ثلاثة منهم علويون، هم (محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد)، واثنان إسماعيليان، هما : (عبد الكريم الجندي وأحمد المير)!.. وبعد انقلاب آذار في عام 1963م، تم توسيع تلك اللجنة العسكرية، ليصير عدد أعضائها خمسة عشر عضواً هم :
- خمسة علويون : (محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد، وعثمان كنعان، وسليمان حداد) .
- اثنان إسماعيليان : (عبد الكريم الجندي، وأحمد المير) .
- إثنان درزيان : (سليم حاطوم، وحمد عبيد) .
- ستة من السنّة : (موسى الزعبي، ومصطفى الحاج علي، وأحمد سويداني، وأمين الحافظ، وحسين ملحم، ومحمد رباح الطويل) .
إن التصفيات التي وقعت في صفوف الحزب ومراكز القوى، آلت أخيراً باللجنة العسكرية إلى ثلاثةٍ من الطائفيين العلويين، هم : (محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد)، وانتهت أخيراً في عام 1970م، إلى (حافظ الأسد)، الذي كرّس نظاماً طائفياً، بعد أن تغلغل أبناء الطائفة العلوية –فضلاً عن الحزب والجيش- في كل مرافق الدولة السياسية والاقتصادية والأمنية .
من القضايا المهمة التي وقعت في هذه الفترة (1963-1970م)، وكان لها الأثر الكبير في تحديد معالم الصراع بين الإسلاميين والبعث الحاكم، ما يلي :
أولاً : تصعيد السلطة لدرجة الصراع مع الإسلاميين، بتعرّضها الاستفزازيّ للمسلمين وعقيدة الإسلام، ومن الإجراءات والسلوكيات التي مارستها السلطة :
1- إلغاء كلمة (مسلم) من البطاقة الشخصية .
2- تحويل مالية وزارة الأوقاف (ذات الموارد الضخمة) إلى الموازنة العامة، وبيع ممتلكاتها بأسعارٍ زهيدة، استغلها أعضاء السلطة المتنفذة، وأصبحوا من كبار الأثرياء .
3- إلغاء علامة مادة التربية الإسلامية من مجموع علامات الشهادتين الإعدادية والثانوية .
4- تعديل مادتي التربية الإسلامية والتاريخ بشكلٍ ضارٍ سافر .
5- التحرك نحو إلغاء المدارس الشرعية .
6- الاعتداء على القرآن الكريم في بعض المحافظات، لاسيما في حماة ودمشق .
7- الاعتداء على بعض مدرّسي التربية الإسلامية، ونقل عددٍ منهم من مدارسهم نقلاً تعسّفياً .
8- طعن أحد مؤسّسي حزب البعث، هو (زكي الأرسوزي).. طعنه بالإسلام في مقالةٍ كتبها في مجلة (جيش الشعب)، التي تحدث فيها عما سمّاها بـ (أسطورة آدم)!..
9- السخرية من الإسلام والمسلمين في مجلة (الفجر)، بنشر صورة حمارٍ على رأسه عمامة!..
10- نشر مقالةٍ استفزازيةٍ في مجلة (جيش الشعب) الصادرة عن إدارة التوجيه المعنوي للجيش والقوات المسلحة، بقلم (إبراهيم خلاص) بتاريخ (25/4/1967م)، وفيها دعا إلى (وضع الله -جل جلاله- والأديان .. في متاحف التاريخ)!..
11- اعتقال مجموعةٍ كبيرةٍ من رموز الحركة الإسلامية وقادتها في عام 1964م، من مثل : الأستاذ (عادل كنعان – مدير ثانوية الغزالي بحلب)، والصيدلي (أحمد بنقسلي)، والمحامي (عبد الرحمن قره حمود)، والشيخ (عبد الفتاح أبو غدة)، والدكتور الحقوقي (محمود بابلي) .
12- اعتقال مجموعةٍ كبيرةٍ أيضاً من رموز الحركة الإسلامية وقادتها في عام 1967م، وعدم الإفراج عنهم إلا بعد انتهاء حرب حزيران، ومن الذين اعتقلوا وسجنوا :
- في حلب : (محمد فاروق بطل، وعبد القادر الخطيب، ومحب الدين أبو صالح، وعمر الحلواني، وسعاد السمان، والدكتور فخر الدين قباوة، ومحمد الحسناوي، ومحمد ناشد، وعمر شوقي زين العابدين، والشيخ طاهر خير الله، ورياض كمال، والمحامي الشماع، ..) .
- في إدلب : (الشيخ نافع شامي، والدكتور عادل سفلو، والمحامي جلال حسون، والأستاذ إبراهيم الديب، والمدرّس أحمد قطيع، ..) .
- في حماة : (الحاج ياسين كعيد، وشاهر خلوف، وعبد المعين حزواني، والحاج مصطفى دبيس، والشيخ عبد الحميد الأحدب، والحاج بديع عدي، والمهندس رامي علواني، والأستاذ سعيد مشهور، والشيخ مروان حديد، وعبد الله السفاف، والحاج علي خير الله، ..) .
- في الساحل : (الشيخ مصطفى الأعسر، ..) .
13- وقوع كارثة هزيمة حرب حزيران في عام 1967م، التي ضاعت فيها الجولان والجبهة المنيعة جداً، حين أمر وزير الدفاع (حافظ الأسد) الجيشَ بالانسحاب الكيفي، بعد أن أعلن في الإذاعة ببلاغٍ عسكريٍ رسميٍ ممهورٍ باسمه (وزيراً للدفاع) وبتوقيعه .. سقوط عاصمة الجولان : (القنيطرة)، بيد الجيش الصهيوني، وذلك قبل سقوطها فعلياً بحوالي عشرين ساعة .
14- إسراع حكومة البعث بإعدام الجاسوس الصهيوني (إلياهو كوهين)، بعد افتضاح علاقته برموز السلطة، وذلك تغطيةً لمن وراءه .
15- تنظيم الحزب الحاكم ميليشياتٍ عماليةٍ وجمعياتٍ فلاحيةٍ ومنظماتٍ طلابية، وشحنها بمبادئه وأهدافه المعادية للإسلام والمسلمين، وبأحقاده ضد أبناء الوطن المخالفين له بالرأي .
16- صدور قراراتٍ عن المؤتمر القطري الثامن لحزب البعث المنعقد في عام 1965م، التي (تعتبر الحركات الإسلامية وخاصةً حركة الإخوان المسلمين ظاهرةً خطيرة، وأنّ الموقف منها ينبغي ألا يكون مقتصراً على الأسلوب العادي الذي يُتَّبَع مع الحركات التقليدية)!..
17- تصريح الضابط (حافظ الأسد) من (ثكنة الشرفة) في حماة عام 1964م، بأن نية الحزب تتجه باتجاه تصفية المعارضين جسدياً، حين قال : (سنصفّي خصومنا جسدياً)!..
ثانياً : وقوع بعض الصدامات بين الإسلاميين من جهة .. وبين السلطات البعثية الحاكمة من جهةٍ ثانية، ومن هذه الصدامات :
1- الاضطرابات والاحتجاجات الدامية، التي وقعت في عددٍ من المدن السورية الكبرى، بسبب مقالة (إبراهيم خلاص) التي تطاول فيها على الذات الإلهية .
2- اندلاع ثورة حماة الأولى (ثورة جامع السلطان) في عام 1964م، التي استشهد فيها أكثر من خمسين شخصاً من الإسلاميين، من مثل : (عبد الله المصري، ومنقذ صيادي، وتوفيق مدني، ومحمود نعيم، و..)، واعتقل عدد كبير منهم، وحُكِمَ على بعضهم بالإعدام، من مثل : (مروان حديد، وعبد الجبار سعد الدين، و..)، وهُدِمَ جامع السلطان بالسلاح فوق رؤوس المصلين!..
3- تصدي مجموعاتٍ من الإسلاميين (كتائب محمد) للسلطة في عام 1965م، بعد اقتحام الحرس القومي الجامعَ الأمويَ في دمشق بالدبابات والسلاح، وسقوط العشرات من القتلى والجرحى، واعتقال المئات من الشباب المسلم .
لقد أفرزت هذه الفترة من تاريخ سورية (1963-1970م) وضعاً سياسياً شاذاً، فقد انتُهكَت الوحدة الوطنية بصورةٍ بشعة، وبدأ الطائفيون يتخندقون حول الحكم البعثي الذي أصبح طائفياً، إلى أن انتهت مقاليد الأمر إلى اللجنة العسكرية الطائفية الثلاثية (عمران وجديد والأسد)، فاستأثر أعضاؤها بحكم سورية –حقيقةً وواقعاً- من بابها إلى محرابها؟!.. ثم وقعت التصفيات بين رؤوس مثلث الطائفيين العلويين، فآلت الأمور أخيراً إلى (حافظ الأسد)، الذي حوّل الحكم في سورية إلى حُكمٍ عائليٍ وراثيٍ بشكلٍ مطلق!..