ملف المرأة

إعداد : هيثم الأشقر

المرأة بين جهل المسلمين وغزو الآخرين (1)

قد يكون من الظلم الشديد أن نتحدث عن مشكلة المرأة بمعزل عن مشكلة الرجل ، بل لنقل مشكلة الإنسان ، ذلك أن تحرير المراة نتيجة طبيعية لتحرير الإنسان ، كما إن الوعي العام والإطار الدلالي لأي أمة هو الذي يحدد الأسباب الحقيقية للظلم الواقع على المرأة أو الرجل أو الطفل أو الكهل .

بالرغم من أهمية الحديث عن المرأة وقضاياها المختلفة إلا أننا نشعر بشيء من الأسى كوننا نضطر للحديث في هذا الموضوع أو ذاك عندما يسلط الغرب الأضواء عليه ويجعله مادة لحديث الناس وإهتمامهم ، الأمر الذي ينذر بشر مسيطر ، فذلك معناه أننا نفكر عندما يريدون منا التفكير ونوجه زوايا النظر إلى حيث يريدون ونشعر بالمشكلة الفلانية عندما يأذنون ... وهذا يعني أنهم ناجحون في صياغة عقولنا وتفكيرنا بالإتجاه الذي يريدون .

كان الأولى بنا أن يكون لنا مراصدنا الفكرية والعلمية الخاصة بنا والتي تقوم هي بتجديد الأولويات والإهتمامات وزوايا النظر الضرورية لهذا الموضوع أو ذاك ، مستعينة بآلة إعلامية إسلامية نظيفة قادرة على تنفيذ هذه المهمة .

ولكن أما ونحن هكذا سوق ساذج للمواد الإعلامية الصهيو صليبية ولعملائهم ( الطابور الخامس ) فلا أمل في أن نستعيد المبادرة الحضارية لما فيه مصلحة المسلمين والإنسانية جمعاء .

ونحن في مجلة المنار إذ نتحدث عن قضية المرأة فلأننا مضطرون للإدلاء بدلونا تصحيحاً للفكر المتشتت بالطرح الغربي وتنويراً للطريق المظلم بشبهات العلمانيين الذين سيطروا على صناعة العقول من وقت مبكر ، نحن لا ندعي إحتكار الحقيقة فالخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين ولكنه الواجب الذي دفعنا لإستنهاض الهمم والتنسيق بين نخبة من المفكرين والكتاب للمشاركة في ملف موثوق لعله يكون سبباً في وعي يرفع عن الأمة هذه الغمة ، أو الشرارة لمزيد من الفكر والطرح النير وعلى كل حال فإنه مهما تشابكت التحديات وتفاقمت المشكلات فى أمتنا يبقى لقضية المرأة حضورها المميز، بل تبقى لها صلات مباشرة أو غير مباشرة بالتحديات الاجتماعية والاقتصادية، بل والسياسية.. فالمشكلات الاجتماعية ناجمة فى معظمها عن أخطاء تربوية، والتربية مناطها المرأة - فى الأساس - والمشكلات الاقتصادية تقف على قمتها البطالة التى تعود إلى سوء توزيع العمالة النسائية والتحدى السياسى يشمل بين ما يشمل غياب وعى المرأة بحقوقها السياسية وعجزها عن غرس مفاهيم الشورى والحوار فى ممارساتها التربوية.

ولذلك فإن إثارة قضية المرأة ليس تكرارًا لما قيل من قبل، ولا دقًا على وتر يحلو للعلمانيين الضرب عليه لانتزاع المرأة من سياقها الدينى والأخلاقى، وإنما هو ضرورة ثقافية وفكرية تهدف على المدى البعيد إلى إنصاف المرأة المسلمة من جاهليتى التغريب والتشدد معًا، وتنقية مسيرتها من الشوائب التى عطلت حركتها، وقيدت دورها، وحرمتها حقوقها التى كفلها لها الإسلام، لتشارك فى نهضة مجتمعها وتقدمه.

إن الحديث عن قضية المرأة.. هو فتح لملفات المجتمع كله، وحين تصل نساؤنا إلى درجة الوعى الكامل بحقوقهن وأدوارهن من المنظار الإسلامى فإن هذا يعنى نقلة إيجابية للمجتمع كله إلى الأمام، إذ يضمن مشاركة فعالة للنساء مع الرجال فى صنع التقدم.

وفى هذا الملف تقدم «المنار» توصيفًا لقضية المرأة.. مركزة على تمزقها بين الرؤية العلمانية المفرطة، والفهم المشوه للإسلام، فترصد حال المرأة قبل الإسلام وكيف صار بعده، حيث قدمت لنا المرأة المسلمة فى عصور الدولة الإسلامية نماذج وضيئة تثبت أن التحرير الحقيقى للمرأة لم يضمنه سوى الإسلام، كما تكشف النقاب عن خفايا مؤتمرات المرأة الدولية والحركة النسائية الغربية ونواياهما الخبيثة تجاه المرأة المسلمة.

وفى الوقت نفسه يسلط الملف الضوء على الشبهات التى يجتمع العلمانيون والغلاة معًا على إثارتها ووضعها حاجزًا بين المرأة والتحرير الإسلامى لها.

كما يقدم رؤية اقتصادية لحقوق المرأة، وكيف تداخلت هذه الرؤية الأصيلة مع الادعاءات المصطنعة، وينقل شهادات نساء الغرب على تحررهن الذى حولهنَّ إلى دُمى بلا إنسانية أو كرامة، لتدرك كل مسلمة قيمة الكنز الذى بين يديها فلا تفرط فيه، ولا تهرول وراء من يدعون الحرص على مصلحتها، بينما لا يبغون إلا هلاكها دنيا ودينًا.

 

وضع المرأة قبل الإسلام

مما لا شك فيه أن الإسلام جاء بمنهج متكامل شامل ولم يغفل جانباً من جوانب الحياة إلا وقدم له تصوراً ناضجاً يتناسب والنضوج البشري الذي توج بالرسالة المحمدية خاتمة الرسالات ، وقد أعطى الإسلام كل من الرجل والمرأة الدور المناسب المناط به خدمة للدور الإنساني العام الذي خلقنا من أجله وهو عبادته تعالى وإعمار الأرض ، قال تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة على الجبال ............ ) .

لذلك لم يجد المسلمون مشكلة في وضع المرأة خاصة وأن القرآن يضم سورة خاصة عنها ، كما اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم غاية الإهتمام بالمرأة لدرجة أنه أوصى بها في حجة الوداع وأمر بالرفق بهن مشبههن بالقوارير .

وإذا أردنا أن نعرف عظمة الإسلام في تحرير الإنسان بشكل عام والمرأة بشكل خاص تعالوا معنا لنقرأ عن وضع المرأة قبل الإسلام :   

 

كانت سقط متاع حتى أنقذها الإسلام

حول هذا العنوان كتبت الأستاذة نهاد الكيلاني * فقالت :

عبر القرون الطويلة، وفى الحضارات والمجتمعات القديمة، اختلف الناس فى تحديد قيمة المرأة وفى تقدير مكانتها الاجتماعية، فالقوانين الخاصة بالمرأة كانت تتسم فى أغلب الأحيان بعدم العدل، وتستغل ضعف المرأة الجسمانى الذى كان يستغله أكثرهم حين يتنكر لحقوقها الطبيعية والمدنية والآدمية، حتى إن الكثيرين كانوا يشكّون في قيمتها الإنسانية، وذلك ما دعاهم إلى فرض الافتراء عليها وإرهاقها بالأعمال الشاقة ومعاملتها معاملة دونية.

ففى الحضارة الصينية كانوا يعتبرونها متاعًا يباع ويشترى، وكانوا يعتبرون ولادتها شؤمًا وسوءًا.

وفى الحضارة الهندية: كانت المرأة تابعة للرجل طوال حياتها.. تقدم له فروض الطاعة والولاء دائمًا، وكانت كالسلعة فى يد أبيها يتصرف فيها كيف يشاء، وكانت كالرقيق عند زوجها يستعبدها مدى الحياة.

كما لم يكن لها الحق فى التصرف فى أموالها وأملاكها، بل تكون كلها تحت مطلق تصرف زوجها، هذه صورة لما تكون عليه فى حياة زوجها، أما إذا مات فالوضع أسوأ والحال أبشع، يحكم عليها بالموت حرقًا، فإذا لم تحرق تنبذ فيكون حكمها حكم الأموات بين الأحياء.

أما المرأة عند البابليين والآشوريين فهى مهانة ومضطهدة، وكانت البنت سلعة عند أبيها ، إذا تعرض للفقر عَرَضَها للدعارة، وكان من قوانينهم أن من ضرب بنتًا وماتت لم يحكم عليه بالقصاص، وكانوا إذا حوصروا يخنقون زوجاتهم لكيلا يستهلكن ما عندهم من طعام.

وكانت الزوجة تعاقب بالموت لمجرد الشك، وكان عندهم ما يسمى بالدعارة المقدسة، فكل امرأة بابلية كانت تجلس فى هيكل الزهرة مرة فى حياتها، وعليها أن تضاجع رجلاً غريبًا، وإذا لم يأت تجلس سنوات تنتظر حتى يأتيها أى رجل فيضاجعها، وتحلل مما عليها من واجب للآلهة!

وفى بلاد فارس كانوا لا يحبون ولادة البنات، ويعتبرون المرأة فى الأدوار الطبيعية كالحيض والنفاس نجسة لا يجوز لها مخالطة الناس، فكانت تضرب لهن الخيام فى ضواحى المدينة بعيدًا عن البيوت، وكان يجب على الخدم الذين يقدمون لهن الطعام والشراب أن يلفوا مقدمة أنوفهم وآذانهم وأيديهم بلفائف من القماش الغليظ حتى لا يتنجسون إذا مسوهم أو مسوا خيامهم أو الأشياء المحيطة بهم حتى الهواء.

وكذلك كان وضعها عند الرومان فتم تجريدها من كل حقوقها المدنية فى مختلف مراحل حياتها، واعتبرت من المبيعات التى يبتاعها الرجل من الأب بمقدار مادى، وليس لها الحق فى مناقشة زوجها وله حرمانها من الإرث إن شاء.

وعند اليونان لم تكن إلا بطنًا يدفع النسل، فكانت المرأة الولود تؤخذ عارية من زوجها لتلد للوطن أولادًا من رجل آخر.

وقال عنها أرسطو: «إن الطبيعة لم تزود المرأة بأى استعداد عقلى يعتد به، ولذلك يجب أن تقتصر تربيتها على شؤون التدبير المنزلى والأمومة والحضانة، وما إلى ذلك».

وكان أفلاطون يضع النساء فى مرتبة الأطفال والخدم، ويعلن أن الرجال هم أرقى منزلة من النساء.

وفى الشريعة اليهودية المحرفة يُنظر إلى المرأة اليهودية على أنها خطيئة منكرة، وفى سفر الجامعة « أمرّ من الموت المرأة التى هى شباك وقلبها شراك ويداها قيود»، وهى مملوكة لأبيها ثم لزوجها، وعقد زواجها يسمى «عقد سيادة» والزوج «سيد المرأة».

وفى النصرانية المحرفة المرأة شر لابد منه، والرجل رأس المرأة وعليها طاعته المطلقة، وتكون نجسة ومدنسة فى الحيض والولادة، ولا يجب أن يقربها أحد أو تلمس هى أى شيء حتى لا تدنسه.

وفى الجاهلية كانت المرأة توأد طفلة، وتهان بنتًا، وتورث إذا مات زوجها.

 

رأي آخر في وضع المرأة قبل الإسلام

إلا أن ( عابدة العظم ) تناولت الموضوع بشيء من الموضوعية العلمية وأكدت أن العدل وإنصاف المرأة  لم يخلُ منه عصر من العصور ولكن بنسب مختلفة وما يميز نظرة الإسلام هو وضعه القواعد والقوانين لهذه الحقوق وفي ذلك قالت الأستاذة ( عابدة العظم ) : كل المؤلفين والباحثين الذين كتبوا عن المرأة بإسهاب عن وضعها في الجاهلية ، كلهم أشبع الجانب السلبي وصفاً حتى لم يعد فيه مكاناً للمزيد ، إلا أن أحداً منهم لم يتكلم عن الجانب الآخر المشرق التي تمتعت به بعض النساء في ذاك العصر ! ذلك أن الوضع المزري ( للمرأة في الجاهلية ) لم يكن سائداً ولا شاملاً لكل النساء اللاتي عشن في تلك  الحقبة فلم يكن الوأد سلوكاً عاماً وإنما اختصت به قبائل قليلة ، ولم تكن كل النساء تورث وتزوج قسراً وإنما بعضهن ، وفي الجاهلية عاشت نساء مرفهات مكرمات منهن أم النبي صلى الله عليه وسلم ، واستطاعت بعض النسوة الوصول إلى المراكز المرموقة ، فكانت منهن الشاعرات والأديبات واللاتي شاركن في الحياة العامة واعترف لهن الرجال بالتفوق والفضل ومازال ذكرهن جارياً بيننا إلى اليوم منهن هند بنت عتبة ذات الفصاحة والجراءة والثقة والحزم والرأي ، حتى قالوا إنها امرأة عظيمة الخطر ، وكان أبوها يحترمها ويؤمرها على نفسها ، ومنهن خديجة بنت خويلد التي كانت من بيت عز وجاه وذات عقل راجح فنشأت مكرمة ، وكان لها مال وفير أدارته على مزاجها ، ولم يستول قرابتها من الرجال على إرثها ، بل استأجرت هي الرجال لتجارتها ، ولما أعجبها النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه هي الخطاب وتزوجته ...

والخلاصة أن وضع المرأة على مدى العصور كان كوضعها في الجاهلية وهو كوضعها اليوم ، أي كل عصر فيه النساء المعززات المكرمات وفيه المظلومات ، وفيه الأديبات المفوهات والعاملات والمتفوقات ، وفيه المغلوبات والمقهورات على أمرهن ، والشيء الذي يتغير ويتفاوت مع مرور الزمن هو نسبة المكرمات إلى نسبة المظلومات ، والحق أن الأغلبية الساحقة من النساء ظلمت وهضم حقها على مدار التاريخ ، وخاصة الفقيرات والوضيعات النسب ، وما أكثرهن !

وفي بعض الحضارات نالت المرأة منزلة مرموقة ، ومكانة أغنى من مكانة الرجل وكان الولد ينسب إليها ، والرأي يؤخذ منها . ومازالت بعض الشعوب إلى اليوم تجعل الكلمة الأولى والأخيرة للأم ، والأمر والنهي لها وجدّها من دون سائر الرجال ...

 

مكانة المرأة قبل الإسلام وبعده

نعمة الزوجية :

أما الدكتور محمد نبيل جامع - أستاذ الاجتماع – فإنه يلفت النظر للفرق بين مكانة المرأة قبل الإسلام وبعده، ويشير إلى أن قضية المرأة ما زالت قضية أخذ ورد، فيقول: إن المرأة بدأت منذ مطلع القرن العشرين، ومعها صفوة من الرجال، تنفض عن نفسها آثار الظلم البين الذى أوقعته عليها قيم المجتمعات البالية بأيدى الرجل الذى قهرته هذه القيم وجعلته منفذًا لها، فبدا هو الظالم المستغل للمرأة، والقاهر لها، فكان هذا الظلم قديمًا قدم التاريخ، وكان الإسلام قمة فى العدل والرحمة بالإنسان، وحقق للمرأة إنسانيتها الكاملة، فكانت مع الرجل شطرين لنفس واحدة يتوادان ويتراحمان ويتكافلان ويتكاملان، وتتساوى المرأة مع الرجل فى المسئولية أمام الله. وبتدهور المجتمعات الإسلامية وميلها عن تلك القيم السماوية اجتاحت المادية أرجاء الأرض، وعادت بعض آثار الظلم القديم للمرأة مرة أخرى فى ثياب مختلفة إلى أن قامت حركات التحرر النسائى العالمية، والتى تجسدت بصورة مؤسسة عالمية فى اعتبار هيئة الأمم المتحدة عام 1975م عامًا للمرأة، ومع هذا لا تزال قضية المرأة قضية معلقة تنتظر العودة للاستغاثة بالقيم السماوية التى لم تترك للبشر حق الاختيار فى حسم هذه القضية.

ولو عاد التائهون، وعدنا معهم نستغيث بالقيم السماوية، ونسلم لرحمة الله وسنته لوجدنا الهدى السليم لمهمة المرأة الإنسانية ودورها فى المجتمع الإنسانى السامى.

إن الله جعل المحل العادى للمرأة بيتها وكلف غيرها أن ينفق عليها، ومع ذلك لم يحرم عليها أن تعمل، ولا أن تتعلم، ولا أن تتملك، ولا أن تكتسب، ولا أن تشارك برأى، بل على العكس من ذلك... نجد فى كل عصر أن المرأة كانت تعمل وتتقاضى على عملها أجرًا، وأنها كانت تتعلم وكان يؤخذ عنها العلم.. حتى القتال فإن تاريخنا يذكر أن نساء شاركن فى معارك وقاتلن، فالإسلام لم يحرم على المرأة أن تتعلم بل فرض عليها أن تتعلم بعض العلوم، ولم يحرم عليها أن تعمل، بل هناك أعمال ينبغى أن يقوم بها النساء، ولم يحرم عليها أن تقاتل ولكنه لم يوجب عليها القتال، ولكن هذا كله مشروط أن تكون ضمن الحدود التى لا يجوز أن تتجاوزها المرأة إلى التبرج وخلوة الأجانب بها واختلاطها بمن لا يحل وفتنتها.

ولا شك أنه عند الإجابة على التساؤلات السابقة لا زال الكثير من نساء العصر الحديث يتأففن منها، ولهن بعض العذر فى ذلك بردود أفعالهن التى برزت بعد أن مالت المجتمعات المعاصرة ومال معها الرجل المعاصر عن المنهج الإسلامى ، ولذلك فالإجابة على هذه التساؤلات مرهونة بالتزام الرجل مع المرأة، بل قبلها، بالمنهج الإسلامى حتى لا تتعرض المرأة لصور الظلم والاستغلال والامتهان التى فرضتها عليها النظم الوضعية المعاصرة وطغيان الحياة المادية المتزايدة.

 

ما الذي قدمه الإسلام للمرأة

تقول الأستاذة ( عابدة العظم ) :

* لم يترك الإسلام وضع المرأة مذبذباً معلقاً بالقوانين الأرضية ليرفعوا من شأنها حين يريدون أو يظلموها بلا رقيب ولا حسيب ، فإنصافها والعدل فيها ليس خاضعاً لهم أو وضعها الاجتماعي ( نسبها ومالها وجمالها ) وإنما هو أمر إلهي يجب عليهم الإلتزام به تماماً ( في كل الأوضاع وفي كل الأوقات ) شاؤوها أم أبوا .

* وحمى الإسلام المرأة من الظلم والتعسف فلم يتركها تحت سلطة المشرعين ليغلوا ويعسروا ، وإنما وضع بنفسه القوانين والأحكام التي تخصها ، وأثبتها في القرآن لتبقى جلية قطعية إلى يوم الدين .

* والإسلام هو الذي استطاع وقف الرجال المتجبرين عن اضطهاد النساء وغير نظرتهم إليها ورفع مكانتها لديهم وأوجد لها احتراماً ومهابة ( منذ نزل وعلى مدى عدة قرون ) حين جعل للمرأة ـ أماً ـ المكانة الأعلى وحين أوصى بها بنتاً وأختاً وزوجة وبما جاء به من أحكام ساوت بين الجنسين في الإنسانية وفي الأهلية وفي الحقوق والواجبات وفي الأجر والثواب فارتفعت أعداد العاملات والعالمات مدة من الزمن وظهرت إبداعاتهن وتفوقهن ثم ومع غياب روح الإسلام غابت الوصاية بالنساء ورزحت المرأة من جديد تحت نير الحرمان من الحقوق والظلم والتهميش .

ومنذ نهاية القرن الماضي ظهرت محاولات جادة عديدة في محيطنا ( من علماء ومفكرين وشيوخ مسلمين ) لإعادة مكانة المرأة إليها إلا أن أغلبها باء بالفشل بسبب غلبة العادات والتقاليد البالية على القيم الإسلامية الأصيلة ! وللأسف لم تبدأ المرأة المسلمة بالحصول على حقوقها إلا عندما دخل الاستعمار إلى بلادنا وبدأ بتغيير عاداتنا ، ولذلك علينا أن نعترف أن الغربيين كانوا هم الأسبق في عصرنا هذا لرفع الظلم عن المرأة والارتفاع بها ، والمرأة عندهم أحسن حالاً بمرات من المرأة عندنا فهي إنسان كامل الأهلية وتتمتع بحقوق كثيرة ، والمفكرين الذين نادوا بتحرير المرأة في مطلع هذا العصر ( أمثال محمد عبده ورشيد رضا ) بدر ذلك منهم بعد الإطلاع على حياة الغربييين والاحتكاك بهم ، فتنبهوا وبدأوا ينادون برفع الظلم عن المرأة . ولا أدري لماذا يحاول الدعاة نفي هذا الفصل عن الغربيين وذمهم وتصوير وضع النساء عندهم بأبشع الصور وهو ليس كذلك !

وأقول لكم هذا عن علم إذ لي قريبات ومعارف يعشن هناك من عشرات السنين وهن سعيدات بما يلقينه من احترام وتقدير وقد أخبرنني أن القوانين في الغرب تنصف النساء وتقتص لهن من أزواجهن ـ إن آذينهن ـ مادياً ومعنوياً ، وعامة النساء هناك في حال جيد ومريح فلماذا ننكر هذه الحقيقة ؟ ولماذا نستغرب انبهار المرأة المسلمة بالمرأة الغربية والمرأة في مجتمعاتنا محرومة من أبسط حقوقها فيمنعها زوجها من الخروج لزيارة أهلها في حين صعدت المرأة في الغرب إلى المدار الخارجي للأرض ؟ وكون المرأة هناك تضرب وتتعرض للإغتصاب فإن ذلك لا يعني أن كل النساء في حالة مزرية ، فالشر موجود في كل مكان والمرأة في بلادنا تضرب وتتعرض للإغتصاب ويستولي الرجل على مالها ويظلمها ويضطهدها و ... فالحال متشابه ولا يكاد يخلو مجتمع من الظلمة وضعاف النفوس .

على أن قول الحق والإعتراف بالفضل والريادة لهؤلاء الغربيين لا يعني أننا راضون عن الطريقة التي يتبعونها في حياتهم ، ولا يعني أننا نود السير على نهجهم ذراعاً بذراع ، ولا يعني اقتباس قوانينهم واتباع أسلوبهم ، فشريعتنا غير شريعتهم وقيمنا مختلفة عن قيمهم ، ولكن إن لم نسرع ونحرر نساءنا على الطريقة الإسلامية وبما يرضي الله ورسوله ، تحررن ( مع سيطرة العولمة ) على الطريقة الغربية ، فتخيروا أيها الناس .

 

الغربيات يتطلعن إلى «التحرر»

ماذا يمكن أن تقول المرأة المسلمة المتغربة حين تعرف كم تندم الغربيات على ما اقترفته فى حق أنفسهن حين انسقن وراء شعارات التحرير ومارسن حريتهن بلا ضوابط من الأخلاق والقيم فخسرن السكينة والأمان والعفة والإحساس بالتكامل مع الرجل واستشعار الكرامة وغيرها من المعانى التى أظل بها الإسلام المرأة وحماها من أعاصير الأفكار التى تخرجها عن فطرتها وتشوه هذه الفطرة الناصعة.

الغربيات اللاتى عشن فى مناخ التحرر الأنثوى وانغمسن فيه حتى آذانهن يقدمن شهادات تؤكد فشل هذا المناخ وتهافته.. شهادات على المرأة المسلمة أن تقرأها وتعيها جيدًا قبل أن تنزلق فى مهاوى خدعة تحريرها.

■ (أليس شفاوزر) امرأة ألمانية تحمل راية الدفاع عن الحقوق الإنسانية للمرأة فى مواجهة استغلالها فى تجارة الخلاعة، اقترحت قانونًا لمكافحة الخلاعة، قدم للبرلمان الألمانى، فهذه واحدة من الحركات فى الغرب التى يسعى النساء من خلالها لتحرير المرأة من الامتهان والاستغلال الجنسى وجعل المرأة وسيلة للمتعة.

■ وكتبت عالمة اجتماعية أمريكية تدعى (أندريا دوراكن) تحت عنوان (خلاعة): بدافع اللذة يربطوننا وكأننا قطع لحم، ويعلقوننا على الأشجار ويصورون الاغتصاب ويعرضونه فى السينما وينشرونه فى المجلات.

■ وتقول الكاتبة الأمريكية (هيلين ستانبرى): «إن المجتمع المسلم مجتمع كامل وسليم ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التى تقيد الشاب والفتاة»، ثم تقول: «ولهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم امنعوا الاختلاط وقيدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب فهذا خير لكم من الإباحية والانطلاق ومجون أوروبا وأمريكا».

■ عارضة أزياء مشهورة، فى الثامنة والعشرين من عمرها من عالم العطور والفراء ودنيا (الموضات) والأزياء تقول: إن بيوت الأزياء جعلت منى مجرد صنم متحرك، مهمته العبث بالقلوب والعقول.. فقد تعلمت كيف أكون باردة قاسية مغرورة فارغة من الداخل.. لا أكون سوى إطار يرتدى الملابس، فكنت جمادًا يتحرك ويبتسم، ولكنه لا يشعر، ولم أكن وحدى المطالبة بذلك، فكلما تألقت العارضة فى تجردها من بشريتها وآدميتها زاد قدرها فى هذا العالم القاسى البارد، أما إذا خالفت أيًا من تعاليم الأزياء فتعرض نفسها لألوان العقوبات، التى يدخل فيها الأذى النفسى والجسمانى أيضًا، ثم تضيف عشت أتجول فى العالم عارضة لأحدث خطوط الموضة، بكل ما فيها من تبرج وغرور، ومجاراة لرغبات الشيطان فى إبراز مفاتن المرأة دون خجل ولا حياء.

وتقول: «لم أكن أشعر بجمال الأزياء فوق جسدى المفرغ إلا من الهواء والقسوة، بينما كنت أشعر بمهانة النظرات واحتقار أصحابها لى شخصيًا واحترامهم لما أرتديه» هذا ما قالته (فابيان) عارضة الأزياء الفرنسية الشابة البالغة من العمر ثمانية وعشرين عامًا، وذلك بعد إسلامها وفرارها من ذلك الجحيم الذى لا يطاق، وتوجهها إلى الحدود الأفغانية لتعيش ما تبقى من حياتها وسط الأسر المسلمة، وهو كلام واضح لا يحتاج إلى تعليق.

■ وتقول الممثلة المشهورة: (بريجيت باردو) كنت غارقة فى الفساد الذى أصبحت فى وقت رمزًا له، لكن المفارقة أن الناس أحبونى عارية ورجمونى عندما سترت نفسى، عندما أشاهد الآن أحد أفلامى السابقة فإننى أبصق على نفسى وأقفل الجهاز فورًا ، كم كنت سافلة.. قمة السعادة للإنسان الزواج.. إذا رأيت امرأة مع رجل ومعهما أولادهما أتساءل فى سرى: لماذا أنا محرومة من مثل هذه النعمة.

■ أما ممثلة الإغراء المنتحرة مارلين مونرو فقد كتبت ردًا على فتاة مهووسة بالفن، وتسألها النصيحة.. نصحتها فيه بأن تنقذ نفسها قبل فوات الأوان، وبألا تنخدع ببريق الشهرة الزائف، حتى لا تصل إلى ما وصلت إليه، وقالت: إنها تحتقر نفسها وتندم على اليوم الذى دخلت فيه مجال الفن، فحرمت نفسها من الأمومة ودفء الأسرة، وتحولت إلى مجرد رمز جنسى وضيع.

والملاحظ أن المجتمع الغربى قد بدأ يعود إلى القيم الإسلامية بعد أن جرب البديل العلمانى فقد انتشرت فيه ثقافة العفة التى تدعو إلى صيانة جسد المرأة قبل الزواج وتنبذ الانحلال الجنسى، وعرفت شبكة الإنترنت - مع المواقع الإباحية - مواقع تدعو المرأة إلى العودة إلى القيم الأصيلة، بل إن بعض الجمعيات النسائية فى ألمانيا والنمسا بدأت تروج لتعدد الزوجات وتعتبره حلاً أمثل لتقليل عدد اللقطاء والحفاظ على الكيان الأسرى، كما شهدت بعض البرلمانات الأوروبية مشروعات قوانين تدعو إلى تجريم العرى فى الإعلانات وإساءة توظيف جسد المرأة فى الفن.

 

الغزو الغربي للمرأة المسلمة

من التحرير إلى الجندر

برغم المكانة العظيمة التى حظيت بها المرأة فى ظل الإسلام، خاصة عصوره الأولى، فإن حال المرأة فى العصور المتأخرة لا يمثل الرؤية الإسلامية المتميزة للمرأة، فالأمة الإسلامية التى علمت العالم كيف يحترم المرأة تعانى اليوم من غزو غربى بدعوى تحرير المرأة.

ومع التراجع الحضارى للأمة الإسلامية تنامت طموحات الغرب فى اقتلاع ثقافة المرأة المسلمة، وهويتها، وبدأت تترجم هذه الطموحات إلى إجراءات عملية، وذلك من خلال ما يسمى بثقافة العولمة التى امتدت إلى الجوانب الثقافية، والاجتماعية، وتهدف إلى توحيد النظم الأخلاقية، بل والدينية فى نظام واحد شديد البعد والاغتراب عن خلفياتنا الحضارية.

فى هذا الشأن ترى الدكتورة ( أمانى أبو الفضل ) - أستاذة الأدب الإنجليزى، وعضوة الاتحاد الإسلامى بالأمم المتحدة - أن أول ما رأت الشعوب الإسلامية من إجراءات لتغريب المرأة المسلمة كان على يد الأمم المتحدة من خلال وكالاتها المتخصصة سواء للثقافة «اليونسكو»، أو لشئون المرأة «الليونيفيم»، أو الطفولة «اليونيسيف» عندما بدأت فى تجاوز حدود عملها، وهو تقديم المساعدات المالية والخدمات الفنية للدول المحتاجة، واتجهت إلى مجال التنظير وسن القوانين الاجتماعية عن طريق عقد مؤتمرات دولية، وإصدار وثائق دورية ملزمة للدول الأعضاء بقوة المعونات، وأول ما رأينا من هذه المواثيق كان فى مؤتمر السكان والتنمية الذى عقد فى القاهرة عام 1994، الذى كان بمثابة صدمة حضارية لمعظم شعوب العالم، وتلاها بعد عام فى بكين المؤتمر التالى المعروف بمؤتمر المرأة عام 1995، والذى كان شعاره كما ورد فى وثيقته «إعادة صياغة المجتمع عن طريق رؤية العالم من خلال عيون النساء».

ثم تلاه مؤتمر المستوطنات البشرية عام 1996، ثم القمة الأخطر، قمة الطفل، والتى يعتبرها البعض تتويجًا لهذه الجهود.

والراصد لتطورات هذه المؤتمرات يلحظ أنها مهما اختلفت توجهاتها، فإنها تسعى لإزاحة نمط الأسرة عن المجتمع، واستخدام المرأة للوصول لهذا الهدف، فأهم ما يسترعى الانتباه فى مؤتمر المرأة هو تعامله مع المرأة على أنها فرد، وذلك بإخراجها من سياقها الأسرى والاجتماعى على أنها إنسان منفرد فى الإرادة والنظام الحياتى، والأهداف بغير ما ارتباط بزوج أو طفل أو مجتمع.

ثم دعت هذه المؤتمرات إلى إطلاق الحرية للمرأة للعلاقات الجنسية المثلية تحت عنوان: «إطلاق الحرية للأسر المتعددة الأنماط»، ثم الدعوة إلى المساواة بين الرجل والمرأة عن طريق القول بإلغاء كل الفروق بين الرجل والمرأة، وعدم الاعتراف بها سواء كانت فروقًا بيولوجية من نتاج الطبيعة أو كل ما ينتج عن هذه الخصائص العضوية من توزيع لأدوار الحياة.

ودعت هذه المواثيق إلى حق الفتيات تحت سن الزواج فى التعامل مع مراكز الصحة الإنجابية، ووسائل تنظيم النسل، إلى جانب الإلحاح الشديد على حق الإجهاض، وجعله آمنًا، سواء للمتزوجات أو غير المتزوجات.

مع الإصرار الدائم على إخراج المرأة للعمل مهما كانت ظروفها وظروف أسرتها، وذلك بالإيحاء لها بدونية الأدوار الأخرى كالزوجية، والأمومة، ورعاية الآباء المسنين .

 

مسارات التدمير

وتضيف الأستاذة ( سهيلة زين العابدين ) أن المرأة تعرضت للغزو الغربى بدعوى تحرير المرأة من خلال مجموعة مسارات كل منها يخدم الآخر، ويتمم مساعيه وأهدافه، وهى:

أولاً - التمويل الأجنبى للجمعيات الأهلية النسائية، ويستهدف هذا التمويل تسخير هذه الجمعيات لخدمة أهداف مموليها، وفى مقدمة الممولين المؤسسات الأمريكية التابعة للحكومة الأمريكية مباشرة، وتمويلها جزء من ميزانية الولايات المتحدة، ويتحكم فيها الكونجرس الأمريكى، ويطلب مقابلها معلومات، وبذلك تتحول تابعة للكونجرس فى بلادها دون أن تستطيع الإفلات من هيمنته عليها؛ لأنه يعرف كيف يقبض على عنق العميل عن طريق تقسيط المنحة، وليس إعطاؤها دفعة واحدة.

ثانيًا - الاتفاقات الدولية: ومن أخطر هذه الاتفاقات، اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة «سيداو»، وأصبحت سارية المفعول من 1981، والتى تتكون من عدد من البنود تتناول كافة جوانب الحياة العامة والشخصية للنساء.

وتعد هذه الاتفاقية بمثابة قانون دولى لحماية حقوق المرأة، وتلزم الدول الموقعة عليها باتخاذ كافة التدابير للقضاء على التمييز بين الرجال والنساء، ويمارس الآن الضغط على دول العالم الثالث لتوقيع هذه الاتفاقية فى مقابل رفع بعض الديون عنها، أو تقديم معونات هى فى أمس الحاجة إليها.

ثالثًا: المؤتمرات العالمية للمرأة: والتى تستبعد الدين، وتدعوا إلى فصله عن حياة المرأة، وتنظر إليه على أنه ممارسات نابعة من تراث وتقاليد المرأة الفقيرة مع اعتبار الأسرة والأمومة والزواج من أسباب قهر المرأة، وترك الحرية للمرأة فى جميع الأعمار فى أن تحدد نوعها الجنسى وممارسة العلاقات الجنسية مع من يروق أو تروق لها دون تقيد بزواج، واستغلال جسد المرأة كوسيلة لتسويق المنتجات الصناعية، إضافة إلى جعل المرأة كسوق مفتوحة لاستهلاك المنتجات.

 

ثقافة الجندر

وتنقلنا الدكتورة ( مكارم الديرى ) - أستاذة الأدب والنقد بجامعة الأزهر والناشطة فى العمل النسائى - إلى دور الحركات النسوية الغربية فى اختراق المرأة المسلمة، ومحاولة الوصول إليها، فتقول: إن المرأة الغربية مازالت تعانى من مشاكل لا حصر لها من تداعيات المساواة الكاملة فى الحقوق، والتى أثقلتها بالكثير من الأعباء والمخاطر فى المقابل، ومن أخطرها المساواة فى الحقوق الجنسية الحرة، والممارسات الشاذة مع الجنس، والاستغلال الجنسى سواء بإرادتها أو بغير إرادتها، واستغلالها كسلعة جنسية فى الدعاية، والإعلام، بل وأصبح الفقر من نصيب المرأة أيضًا فى إطار الحرية الجنسية، وما يثمر عنها من أطفال تتولى رعايتهم الأم، مما زاد من أعبائها النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وهذا يدل دلالة واضحة على الفشل الذريع الذى منيت به الحرية.

ومع هذا الفشل فإنها تسعى إلى تعميم رؤيتها، وفرض نموذجها على العالم من خلال الاتفاقات العابرة للقارات فى تجاهل تام للخصوصيات الثقافية والحضارية والدينية والاجتماعية للشعوب.

وقد مرت الحركات النسوية الغربية فى سبيل تحقيق الحرية والمساواة بمراحل عدة بداية من المطالبة بالحصول على الحقوق المدنية والإنسانية، التى وهبها الإسلام للمرأة منذ أربعة عشر قرنًا، مرورًا بتحقيق الحرية الكاملة فى الحقوق الجنسية، ووصولاً إلى المساواة فى النوع «الجندر».

وتضيف د. مكارم: أن الحركات النسوية طرحت فكرة النوع «الجندر» كوسيلة لتحقيق المساواة بين الجنسين، برفض الاختلافات البيولوجية، وبناء نوع جديد من خلال طرح ثقافة اجتماعية جديدة لا تستند إلى التقسيم البيولوجى القائم على معايير الأنوثة والرجولة، ولكنه نوع اجتماعى محايد «جندر» لا ذكرًا ولا أنثى قابل لكل الأدوار التى يقوم بها كل من الرجال والنساء.

والهدف من وراء ذلك، كما ترى هذه الحركات النسائية، تعميم ثقافة الجندر، أو النوع الاجتماعى الواحد الرافض لطبيعة الاختلاف البيولوجى بين الجنسين، والذى على أساسه تتحدد الوظيفة القطرية لكل من الزوجين (وهو زوجة تحمل وتلد وترضع وتصبح أمًا، ووالد يكون سببًا فى إنجاب هذا الطفل، ويترتب على ذلك حقوق وواجبات لكل منهما نحو الآخر)، أما رفض طبيعة الاختلاف البيولوجى يعنى ضياع الكثير من هذه الحقوق والواجبات التى بدونها لا تقم للأسرة أى قائمة.

تهدف أيضًا ثقافة الجندر للقضاء على الأدوار الثابتة فى الأسرة من خلال تبادل الأدوار مع الرجل، فليس ثمة عمل يخص المرأة - وحتى وإن كان إرضاع الطفل وتربيته - ولكى تتحقق للمرأة الحرية الكاملة تسعى الحركات النسوية إلى تغيير وضع المرأة ووظيفتها فى المجالات الخاصة (الأسرة)، وفى المجالات العامة (المجتمع)، وذلك بقلب القيم الثقافية السائدة، بما فى ذلك الدين والتقاليد، وزيادة فرص التعليم والعمل أمام المرأة، والتحرر من مسئولية الزواج.

واستمرارًا لرصد أهداف الجندر تقول د. مكارم: تهدف أيضًا ثقافة الجندر إلى القضاء على علاقات القوة بين الجنسين، فإذا كانت العلاقات بين الجنسين قد تشكلت اجتماعيًا فيمكن إذن تغييرها على أساس ثقافى واجتماعى.

وبفعل هذه الأفكار السابقة التى دخلت حيز التنفيذ من خلال الأمم المتحدة، والتى يسيطر عليها بعض الشواذ يمكن سيادة هذه المفاهيم فى العالم، وتعميم ثقافة الجندر التى تتبنى المفهوم الغربى لتحقيق المساواة بين الجنسين، والتى تعتمد على سيادة القيم المادية على حساب القيم الأخلاقية، ورفض القيم الرئيسية، وبالتالى رفض القيم الاجتماعية القائمة على نظام الأسرة والزواج والأمومة والأبوة، وأصبحت تؤسس صورًا بديلة للزواج التقليدى «بين رجل وامرأة»، وبدأت بتعريف جديد لشكل العلاقات بين الرجل والمرأة، وتعريفًا جديدًا لمن هى المرأة، ومن هو الرجل فى ضوء ثقافة الجندر، وهو تعريف لا تحكمه معايير بيولوجية، بل يخضع للاختيار والتنشئة «فالجندريون» لا يعترفون إلا بجنس واحد تجعله التنشئة والسياق الاجتماعى رجلاً أو امرأة.

 

أسيرة بين فكى الغلو الإسلامي والغلو العلماني

كانت موسوعة «تحرير المرأة فى عصر الرسالة» للعلامة الراحل الأستاذ «عبد الحليم أبو شقة» ثمرة جهد بحثى استمر أكثر من عشرين عامًا - توصل فيه الأستاذ أبو شقة (رحمه الله) عبر تحريه للقرآن والسنة واستشهاده بالوقائع التى شهدها العصر الإسلامى الأول، إلى أن تحرير المرأة الحقيقى من جاهلية الفكر والعمل لم يتحقق إلا فى الرؤية الإسلامية، وقد تناولت الموسوعة فى أجزائها الستة مشاركة المرأة المسلمة فى الحياة الاجتماعية والسياسية، وعلاقتها بالرجل وزيها ، وغير ذلك من القضايا التى بحثها العالم الراحل أبو شقة من خلال دراسته الجامعة للقرآن والسنة وصحيحى البخارى ومسلم.

وإذا كان أبو شقة (عليه رحمة الله) قد أثبت بشكل عام ريادة الإسلام فى تحريره للمرأة، فقد التقط المفكر الإسلامى الكبير د. محمد عمارة خيطًا آخر فى قضية تحرير المرأة من المنظار الإسلامى حين فند شبهات خمسة تعتبر مجالاً خصبًا لتشويه الرؤية الإسلامية للمرأة من جانب العلمانيين والغلاة على حد سواء.

وهذه الشبهات هى: ميراث المرأة وشهادتها، ونقصان عقلها ودينها، وولاية المرأة والقوامة.

ويرى د. عمارة أن تفنيد هذه الشبهات.. جهاد فكرى مطلوب يسفر فى المحصلة النهائية عن تكريس فقه «التحرير الإسلامى للمرأة»، وإزالة الحواجز المعيقة لهذا التحرير، حيث اجتمع طرفا الغلو الدينى واللادينى على إثارة هذه الشبهات التى يحسبها المنتمون إلى الفصيل الأول مانعًا دينيًا من اكتمال أهلية المرأة، ومن مشاركتها فى العمل الاجتماعى العام ويحسبها غلاة العلمانيين عقبات إسلامية تحول دون اكتمال أهلية المرأة فتجعل منها - من ثم - نصف إنسان، ولذلك يدعون إلى إسقاط الحل الإسلامى لتحرير المرأة والتماس هذا الحل فى النموذج الغربى لهذا التحرير.

ونقدم فى العرض التالى ثمرة (جهاد) د. عمارة الفكرى لدحض الشبهات الخمسة.

 

ليست نصف إنسان

صحيح وحق أن آيات الميراث، فى القرآن الكريم، قد جاء فيها قول الله (سبحانه وتعالى): {للذكر مثلُ حظ الأنثيين} (النساء: 11)، لكن كثيرين من الذين يثيرون الشبهات حول أهلية المرأة فى الإسلام، متخذين من التمايز فى الميراث سبيلاً إلى ذلك، لا يفقهون أن توريث المرأة على النصف من الرجل ليس موقفًا عامًا ولا قاعدة مطردة فى توريث الإسلام لكل الذكور وكل الإناث.. فالقرآن الكريم لم يقل: يوصيكم الله فى المواريث والوارثين للذكر مثل حظ الأنثيين.. وإنما قال: {يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين}، أى أن هذا التمييز ليس قاعدة مطردة فى كل حالات الميراث، وإنما هو فى حالات خاصة، بل ومحدودة، من بين حالات الميراث.

بل إن الفقه الحقيقى لفلسفة الإسلام فى الميراث تكشف عن أن التمايز فى أنصبة الوارثين والوارثات لا يرجع إلى معيار الذكورة والأنوثة، وإنما لهذه الفلسفة الإسلامية فى التوريث حكم إلهية ومقاصد ربانية، ذلك أن التفاوت بين أنصبة الوارثين والوارثات - فى فلسفة الميراث الإسلامى - إنما تحكمه ثلاثة معايير:

أولها - درجة القرابة بين الوارث - ذكر أو أنثى - وبين المورِّث - المتوفى - فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب فى الميراث.. وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب فى الميراث، دونما اعتبار لجنس الوارثين.

وثانيها - موقع الجيل الوارث من التتابع الزمنى للأجيال.. فالأجيال التى تستقبل الحياة، وتستعد لتحمل أعبائها، عادة يكون نصيبها فى الميراث أكبر من نصيب الأجيال التى تستدبر الحياة، وتتخفف من أعبائها، بل وتصبح أعباؤها - عادة - مفروضة على غيرها، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات.. فبنت المتوفى ترث أكثر من أمه - وكلتاهما أنثى - بل وترث البنت أكثر من الأب - حتى لو كانت رضيعة لم تدرك شكل أبيها، وحتى لو كان الأب هو مصدر الثروة التى للابن، والتى تتفرد البنت بنصفها، وكذلك يرث الابن أكثر من الأب وكلاهما من الذكور!

وفى هذا المعيار من معايير فلسفة الميراث فى الإسلام حِكَم إلهية بالغة ومقاصد ربانية سامية تخفى على الكثيرين! وهى معايير لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة على الإطلاق.

ثالثها - العبء المالى الذى يوجب الشرع الإسلامى على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين، وهذا هو المعيار الوحيد الذى يثمر تفاوتًا بين الذكر والأنثى، لكنه تفاوت لا يفضى إلى أى ظلم للأنثى أو انتقاص من إنصافها، بل ربما كان العكس هو الصحيح!

ففى حالة ما إذا اتفق وتساوى الوارثون فى درجة القرابة، واتفقوا وتساووا فى موقع الجيل الوارث من تتابع الأجيال مثل أولاد المتوفى، ذكورًا وإناثًا، يكون تفاوت العبء المالى هو السبب فى التفاوت فى أنصبة الميراث، ولذلك لم يعمم القرآن الكريم هذا التفاوت بين الذكر والأنثى فى عموم الوارثين، وإنما حصره فى هذه الحالة بالذات، فقالت الآية القرآنية: {يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين}، ولم تقل: يوصيكم الله فى عموم الوارثين.

والحكمة فى هذا التفاوت، فى هذه الحالة بالذات، هى أن الذكر هنا مكلف بإعالة أنثى - هى زوجه - مع أولادهما، بينما الأنثى الوارثة - أخت الذكر - إعالتها، مع أولادها، فريضة على الذكر المقترن بها، فهى مع هذا النقص فى ميراثها بالنسبة لأخيها، الذى ورث ضعف ميراثها، أكثر حظًا وامتيازًا منه فى الميراث، فميراثها مع إعفائها من الإنفاق الواجب هو ذمة مالية خالصة ومدخرة، لجبر الاستضعاف الأنثوى، ولتأمين حياتها ضد المخاطر والتقلبات.. وتلك حكمة إلهية قد تخفى على الكثيرين.

تلك هى بعض ثمرات استقراء حالات ومسائل الميراث فى علم الفرائض (المواريث)، التى حكمتها المعايير الإسلامية التى حددتها فلسفة الإسلام فى التوريث، والتى لم تقف عند معيار الذكورة والأنوثة، كما يحسب الكثيرون الذين لا يعلمون!

وبذلك نرى سقوط الشبهة الأولى من الشبهات الخمس المثارة حول أهلية المرأة، كما قررها الإسلام.

يتبع