الفجيعة
نوال السباعي / مدريد
لاشيء يمكنه أن يعبر عن الشعور العام الذي يسود الشارع العربي والاسلامي اليوم والحين وفي هذه اللحظات الأليمة المفجعة من حياتنا ووجودنا وتاريخنا بعد ستة أشهر من سقوط بغداد الأخير , وتأجج هذه الحملة العسكرية الاعلامية النفسية الاستخبارية المسعورة على الأمة داخل أرضها وخارخها باسم الحرب على الارهاب ,لاشيء يمكنه أن يصف مانحن فيه الآن قبل أيام معدودات من دخول شهر رمضان المبارك والذي يبدو أن اللياقة تقتضي أن نسميه شهر رمضان المفجوع بنا وبدمائنا وبهواننا وأوضاعنا التي يبدو أنها أصبحت تأخذ مع كل رمضان منحى مأسويا مذهلا, سواء في فلسطين حيث تستمر المذبحة يوما فيوما وساعة فساعة في أكبر اختبار" للتّمسحة" العربية المعاصرة, أو في الجزائر حيث يُصعد من يدعون أنفسهم بالاسلاميين في كل رمضان حملاتهم الدموية التي يشيب لهولها الولدان والتي ماعاد ينفع معها تجميل ولاتستر ولاتبرير ولاحتى محاولة للفهم , أو في أماكن أخرى من هذه الأوطان المفجوعة بحاضرها المتشبثة بتاريخها الناظرة الى مستقبل موعود , تراه بعيدا وهو على الرغم من هذه الفواجع قريب قريب.
رمضان هذا العام يأتينا وقد فغر فاه فينا جرح جديد , خطير وصعب ومزلزل , هو للهاوية أقرب منه الى المعضلة , فمصيبتنا في بغداد فاقت كل المصائب-بعد سقوط القدس- لأنها لم ولن تؤدي الا الى المزيد من المبالغة في استمرار الذبح اليومي لأهل الأرض المقدسة المصابرين المرابطين المستباحة دماؤهم وأعراضهم, ولم ولن تؤدي الا الى تكريس الاستبداد المتسرطن في مقاطعات الأمة العربية الواحدة ذات الحكومات المتعددة والكراسي المؤبدة والشعوب الصامدة المتحدية في وجه أية محاولة لتغيير عاداتها القميئة وتقاليدها البذيئة وطريقة حياتها التي لاتمت لدين ولامنطق ولاانسانية بصلة , ولأن سقوط بغداد لن ولم يكن الا البوابة التي دخل منها الاستعمار الغربي من جديد الى وجودنا المتفسخ المنهار , ليفرض نفسه على أمة عجزت خلال مائة عام عن النهوض من عثرتها والوقوف على قدميها , ولأن هذا الاحتلال الذي أعاد جيوش الغزاة الى أراضينا- باسم تحرير بعضنا من ظلم بعضنا الآخر-لا يمكن تفسيره ولا تبريره حتى اليوم على الأقل الا بانهيار وفشل كل المشروعات النهضوية والتحررية الفكرية التي قامت على جماجمنا وأشلائنا وفُرضت علينا بدمائنا وأموالنا خلال المائة عام الأخيرة مطبلة مزمرة بمبادئ غريبة عن الأمة وأطر تعادي أسس قيامها وطبيعة تركيبة انسانها, فانهار البنيان من القواعد, وبدت هباء مفضوحاً كل الهياكل السياسية والثقافية وحتى العسكرية والتي كانت قد صُنعت مابين استكانة الشعوب وخيانة المتسلطين وانتهاز المستعمرين لكل الفرص, في واقع تغييب المواطن عن الفعل وعن المساهمة وعن حقه في تقرير مصيره واختيار طريقه.
فجيعة وأي فجيعة هذا الذي نراه من صمت عربي اسلامي رسمي أمام كل هذا الحجم من المذبحة الفاشية الصهيونية العنصرية الحاقدة في فلسطين , فجيعة وأية فجيعة هذا الذي يجري أمام سمعنا وأبصارنا من تهافت الأنظمة العربية وعلى الرغم من هذه المجزرة على اقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية وثقافية وانفتاحية وانبطاحية مع الكيان القاتل السفاح الوالغ في دماء الأبرياء من اخواننا لحمنا ودمنا وعظامنا والحوايا والخلايا, فجيعة وأية فجيعة هذه المؤتمرات السرية والعلنية التي تجري في الخفاء من أقصى المغرب الى أدنى الخليج بين العدو من مستعمر أو مستوطن أو محتل وبين بعض حكامنا وبعض سياسيينا وبعض عسكريينا !.
فجيعة وأية فجيعة أن يخرس الشارع العربي وبهذا الشكل المتواطيء السافل العجيب الغريب !!, على ماذا يخاف العرب ؟ وهم الذين لايملكون شيئا ولاحتى جزءا بسيطا من كرامتهم وحقوقهم ومبرر وجودهم؟!.
فجيعة وأي فجيعة هذا التواطؤ العالمي على ذبح وحرق واستئصال الفلسطينيين الباقين حتى الآن صبرا وقهرا وتشبثا فيم تبقى من أرضهم , فجيعة وأي فجيعة هذا الاغضاء الدولي وهذا التصريح الأمريكي السافر لسفاح صبرا وشاتيلا وسيناء بالمضي قدُما في قصف شعب أعزل ممتحن وايقاع عقوبات جماعية في صفوفه .
فجيعة وأي فجيعة مانراه ونسمعه ونشهده من الحروب العربية الداخلية بين حكوماتنا والجماعات الاسلامية المسلحة , فجيعة أن تتحول كل سهامنا نحو أكبادنا , فجيعة أن ننحر بأنفسنا قلوبنا , فجيعة أن نغرز المقلاع الوحيد الذي نملكه أوان المحنة في عيوننا , فجيعة أن نعجز عن محاورة شبابنا ولانملك لهم وخلال عقود متلاحقة الا السجون والتعذيب والملاحقة وحبال المشانق , فجيعة أن يستمر هذا الشرخ في جسد الأمة ومنذ ستين عاما والى اليوم دون أن يجد من يردمه أو يجسره على الأقل , فجيعة أن تكرر الجماعات الاسلامية أخطاءها مرة اثر مرة وفي بلد بعد بلد وعلى التوالي , وفجيعة مليون فجيعة أن تتبع الحكومات العربية سياسات الاجرام والقمع والتعامل مع شباب الأمة ممن يعول عليهم وحدهم في الخلاص مما نحن فيه , فتستنسخ بعضها من بعضها الآخر نفس هذه الأساليب القذرة التي لم تجدي فتيلا مرة اثر أخرى وفي دائرة مفرغة طاحنة لايبدو معها شعاع أمل ولابصيص نور ولافرجة خلاص للخروج.
فجيعة .. هذا الذي يحدث من الهروب الجماعي المليوني لشباب الأمة نحو عوالم الانترنيت الخفية ليقيموا دولتهم التي يحلمون بها هناك , ويضعوا هنالك قوانينهم وتصوراتهم واعلامهم وآمالهم وآلامهم التي تتمدد بشكل الكتروني شبحي مخيف على هامش أمة مريضة عاجزة عن منح أبنائها فرصة واحدة على الأقل يستطيعون معها العمل في النور ومع الجميع من أجل الجميع , من أجل هذه الأمة .
فجيعة ..أن نكون في مثل هذا العجز عن الحوار مع بعضنا بعضا , وبمثل هذا الشلل في استيعاب شبابنا الأحرار الثوار وفهم همومهم وتطلعاتهم واستثمار ثورتهم وصدقهم واخلاصهم , فجيعة أن لاتستفيد الامة منهم وهم الأمل الوحيد والأخير لها في البقاء والصمود والبناء وصنع الغد والمستقبل والحياة.
فجيعة هذا الذي يستشري في أروقة الانترنيت الخفية من اذكاء لنيران العداء بين السنة والشيعة في العراق وغير العراق , فجيعة أن لاتفهم الأمة في هذه المرحلة أن نشوء أي نزاع طائفي اليوم يعني الدمار والهلاك المحتم والذي لن تقوم لهذه الأمة قيامة من بعده.
فجيعة أن نعيش على هامش الأحداث التي تمور بنا كالزلازل ونحن في خدر وموات واستكانة , فجيعة أن تذهب صرخات كل هذا الحجم الضخم من مثقفي الأمة أدراج الرياح والأمة في حالة تثاؤب وكأنها تستثقل أن تفتح عينها الواحدة على الأقل لرؤية التمثيل البشع الذي يجري بوجودها وهي مازالت على قيد "حياة" تتنفس !.
فجيعة ...أن تصل رائحة الدم الفلسطيني كل بيت وبر أو مدر أو حديد واسمنت مسلح ونحن نحاول رش البهار الحارق على حسائنا لكي نمنع رائحة الدم من التسلل والاستيلاء على أدمغتنا , فجيعة أن يُطعن الانسان العربي في قلبه وهو يرى وينظر , وأن تنتهك حرمة رفح بعد جنين بعد بيت حانون بعد غزة بعد القدس بعد ...وبعد ...وبعد ...وبعد ....ونحن مازلنا في سدرنا وهواننا وعفننا ,نجلس أمام برادات حفظ جثث الشهداء نصبغ يومنا باللون الأحمر ونبكي ثم نشيح بوجوهنا وونلعن السياسة وأهلها ونهرول لشراء التمر والقمر الدين , وقليل من البامياء والسمن العربي لأنه يُصلح طبخ الرز الذي يجب أن يكون شهياً على موائد الافطار , بدأنا بتخزين مؤونة رمضان , وأعددنا قائمة بأسماء المدعوين هذا العام الى موائدالرحمة..ورحنا نراقب قائمة برامج الفضائيات المختارة للتسلية هذا العام .
رمضان وصل ..رمضان جاء هذا العام ونحن نعاني حالة مزدوجة من الفجيعة ....هنيئا لك ياأمتي رمضانك هذا ...وكل عام وأنت.......................!.