نظرة إنصاف إلى "المقاطعة"
نظرة إنصاف إلى "المقاطعة" (1)
ابتهال قدور
كاتبة سوريه مقيمة في
الكويت
حق مشروع هو دفاعنا عن أنفسنا،
وأوطاننا، وثرواتنا، ومقدساتنا، بل قل إنه واجب جهادي من المفترض أن لا يختلف عليه
عاقلان.
و فضاء هذا الحق تؤطره أخلاقياتنا، أما
الوسائل فتقرره إمكانياتنا المتاحة ..
ومقاطعة منتجات العدو، ومن يمول هذا
العدو، ومن يمده بالأسلحة والعتاد، ومن يقدم له الدعم المعنوي، ومن يبارك إجرامه،
ومن يجمد القانون العالمي ويجعله أبتراً...ما هي إلا واحدة من تلك الوسائل المتاحة
التي نحاول أن نفعلها، معتقدين أنها قد تجدي نفعاً، نظراً لما يشكله المال وحركة
السوق من أهمية في عالم اليوم.
هذا، انطلاقاً من حقيقة كوننا أمة
تستهلك ولا تنتج، لنُشكل بذلك الأسواق الأساسية للعالم المنتج...
وتلك حقيقة مؤلمة!!
حقيقة لا يدعي أحد أن المقاطعة بحد
ذاتها ستعمل على علاجها، بل وليس العلاج من أهدافها أصلاً.
المقاطعة لمنتجات العدو، تتعامل مع
الواقع على أنه أمر لا مفر منه على المدى المنظور!
المقاطعة تدرك أنه ما من خطط - حالياً-
تقلب حال عالمنا العربي والإسلامي وتغيره، وتتحول به من واقع مستهلك إلى واقع منتج!
لكنها مع ذلك ترمي إلى استثمار هذا
الواقع المتردي والمغلوط، لكي تنغص على العدو استقراره الاقتصادي، ولكي تحد من
أرباحه التي يجنيها متسلقاً أكتافنا، ولكي تبلغه رسالة احتجاج واستياء، وتفهمه أن
اتكاليتنا على إنتاجه لا تأخذ وجه الضعف فقط، بل يمكنها أن تأخذ شكل القوة أيضاً !
فنحن من يمسك بخيوط الاستهلاك، ونحن
من يملك التحكم فيه صعوداً أو هبوطاً.
وتنبعث من وقت لآخر صرخات ألم تطلقها
بعض الدول، حين يعلن العرب عليها حملة مقاطعة مركزة.
و تضطر بعض الشركات إلى تقديم الاعتذار
للمسلمين والعرب، لا حباً بهم ولكن تضرراً من مواقفهم التي أثرت على إنتاجها.
صحيح أن هذه الصرخات تؤنس وحشة التواكل
التي نعيشها، وتعيد لنا بعض الثقة المهزوزة بقدراتنا، وتحيي فينا الرغبة الدفينة في
خلق واقع جديد، وتعيد صياغة قناعاتنا المنهزمة،... لكن هل هذا كاف؟ أو هل في هذا
دليل على أننا نسير في الاتجاه الصحيح؟
إن البعض يرى أن معظم تلك المقاطعات لا
تجدي نفعاً!
بل أن أحد الإخوة رأى في تلك الحملات
واحدة من الأمور المسببة للإحباط !!
و للحقيقة فإن ما دعاني إلى كتابة هذا
المقال هي كلماته تلك، مع استشهاده بمعلومات لديه تفيد أنه ما من نتائج ملموسة على
صعيد الأرقام، نستطيع أن نصنفها مؤثرة أو موجعة لمن تستهدفهم حملات المقاطعة.
ووجد أن تلك النتائج الهزيلة، قد تأتي
بنتائج عكسية على نفسياتنا، حين نكتشف أن جهودنا ومواقفنا لا فائدة تذكر منها في
لغة الأرقام ...
واستوقفني رأيه، فعلى الرغم من كوني
واحدة من المدافعات عن قضية المقاطعة، إلا أنني لست ممن يحبذون التفكير ضد أنفسهم،
فلا ينبغي للدفاع عن الفكرة أن يكون عارياً عن الدليل والتحليل، وإلا كان دفاعاً ضد
النفس، وعكس الصالح العام للأمة.
مبيعات "ماك دونالد" في ارتفاع!
ومن بين الإحصائيات العديدة التي وقعت
عيني عليها سأنقل واحدة، لكونها الأشد وضوحاً وقرباً من حركة استهلاكنا اليومي...
نشرت مجلة "لونوفيل اوبسيرفاتوار"
الفرنسية في عددها 2309 إحصائية تقول أن حركة ابتعاد المستهلكين عن المطاعم لم
تؤثر على ارتيادهم لمطاعم "ماك دونالد" فقد استقبلت سلسلة المطاعم هذه ما يقرب من
58 مليون زبون يومياً في العام الماضي، بزيادة بلغت مليوني زبون مقارنة بالعام 2007
. وارتفعت أرباحه بنسبة 80% ما مقداره 3,2 مليار أورو، سيتم استثمار مليار ونصف
منها في افتتاح 1000 فرع جديد حول العالم. وفي فرنسا حيث تبلغ عدد فروعه 1134
فرعاً، ارتفعت المبيعات بنسبة 11,2% .
وتستطيع أن تعتبرمثلي بأن هذه
الإحصائية -إن صحت، وإن أخذنا الأمور بظواهرها- هي من مسببات الإحباط فعلاً، خاصة
حين نأخذ بعين الاعتبار أن هذا المطعم هو واحد من أبرز المطاعم التي تعلن ضدهم
حملات المقاطعة!
وهنا مشكلة حقيقية!
ولعله ليس من الضرورة أن نستنتج من هذه
الإحصائية ومثيلاتها، أن كل من كان يقاطع إنما كان يضيع وقته، ويكبح جماح نفسه بلا
طائل؟
كما ليس من الحكمة أن نقرر بيأس، أنه
ما من فائدة في كل مانفعل! ونرتد لنعيش حالة اليأس والقنوط السلبي، وحالة
اللافاعلية القاتلة؟!
إذ أنه من الأفضل لنا عوضا عن ذلك،
التوقف وإعادة تقييم الموقف،والتساؤل إن كنا قد أعطينا هذه القضية حقها كاملاً قبل
أن نحكم عليها بالنجاح أو الفشل، ذلك لكي لانظلم أنفسنا.
أين يكمن الخلل؟
إذا أردتم رأيي المتواضع في هذا
الموضوع...أرى أن حقيقة المشكلة تكمن في سوء الاستخدام! نعم سوء استخدام هذا السلاح
وليس في عدم جدواه!
كيف ذلك؟
يظهر سوء استخدامنا للمقاطعة في عدة
أمور منها ماهو خارجي، يتعلق بتنظيم العملية ، ومنها ما هو داخلي يرتبط بطبيعة
الفرد ونفسيته وثقافته...
وإذا ما بدأنا بالأمور التنظيمية
سنلاحظ:
عدم وجود إجماع على كونها سلاح ذو
جدوى، فعلى الرغم من دعوة الكثير من العلماء إلى تفعيلها ومنهم الشيخ الفاضل "يوسف
القرضاوي" إلا أن هناك في المقابل من لا يجد في ذلك النفع الكبير، بل ويعلن من
على منبره الديني أو السياسي أو الاقتصادي عدم جدواها! ولعلك لاحظت أن هناك من
الرافضين للمقاطعة من يعلنون عن ذلك، وهناك من لا يعلنون، خشية أن يتهموا بالتحليق
خارج السرب.وهذا يزيد في ابتعادنا عن دراسة القضية بموضوعية أكثر وبالتالي يباعد
بيننا وبين احتمالات النجاح.
ولا يخفى أن عدم الإجماع على القضية
يُضعف من أهميتها ويحد بالتالي من أعداد الملتزمين بها، وتظهر هنا ضحالة النتائج
لمواقف لم يلتزم بها الكل الفاعل.
إن انقسام هذه الأمة بمواقفها، وحالة
التردد غير المحسوم التي تعيشها، في ما يتعلق بقضية المقاطعة، هو ما جعلنا غير
قادرين على الإبقاء على صرخات الدول المتضررة عالية الوتيرة، لأن الحفاظ على
وتيرتها عالية، يتطلب منا موقفا واضحاً وواحداً، لكي يكون أقوى صدى، وأبلغ أثراً.
وبعد أن يتوحد موقفنا، وبعد أن نحدد
الخطوات والأهداف سنحتاج إلى ثقة كبيرة بجدوى هذا الموقف، وثقة أكبر بإمكانية
النجاح، بالإضافة إلى الكثير من المثابرة، والاستمرارية، وطول النفس. فالقضية إذاً
لم يتم طرحها جدياً كوسيلة ضغط دفاعية متفق عليها.
لا توجد لدى من يريد أن يقاطع خارطة
طريق واضحة، ولا توجد إحصائيات رقمية واضحة فنحن لا نعلم حقيقة من أين ننطلق ولا
إلى أين سنصل كما لا يوجد تتبع للأثر الذي تتركه المقاطعة على الشركات المستهدفة.
وعدم وجود أهداف واضحة يحط من عزيمة المقاطعين إذ لا يقدم لهم الجدوى الملموسة من
مقاطعتهم.
لا يوجد مرجعية محفزة، تربط المقاطعة
بغاية جهادية ملموسة النفع في الدنيا ومجدية الأجر في الآخرة، فتحرك الدافع الذاتي،
وتدعم الاستمرار وتعمل على إطالة نفس المقاطعين.
لا يوجد موقف رسمي يشجع عمليات المقاطعة، ولا توجد رغبة حقيقية لدى كبار التجار
والمستوردين تجعلهم يحصرون عملية الاستيراد من دول دون أخرى، أو شركات دون أخرى.
وهذا الأمر في منتهى الأهمية لأنه لو حدث لسهل على المستهلك عملية الاختيار، ووفر
عليه الكثير من التردد.
وأمام ما سبق يصبح لدينا يقين بأن
العملية لم تأخذ حقها من الاهتمام ، وهي لا تعدو أن تكون أكثر من مواقف فردية.
سلوك استهلاكي غير مدروس
وإذا ما انتقلنا للحديث عن الأمور
الداخلية، والمتمثلة في مدى القدرة والاستعداد الذاتي لدى الإنسان العربي، للالتزام
بنهج مقاطعة منظم وهادف، نجد أن السلوك الاستهلاكي الذي نشأت عليه الأجيال الصاعدة،
هو سلوك استهلاكي بلا معالم حضارية، وكيف يكون السلوك الاستهلاكي ذو معالم حضارية،
فإن تلك قضية لا غنى من البحث فيها بتوسع وتعمق.
ولكن، وبدون الدخول في الكثير من
التحليل، ومن خلال النهج الاستهلاكي السائد نسجل ما يلي:
عندما يعتاد الفرد في مجتمعاتنا على
استهلاك بلا حدود ولا قيود، ثم يأتي من يقول له "قاطع" !
فإن "قاطع" بالنسبة له تعني: امتنع عن
الكثير مما فيه متعة اعتدت عليها!
خاصة إذا كنا لا نقيد هذا الامتناع
بمنتج واحد، ولا نقيده بزمن محدد، فهو امتناع مفتوح... وهنا محك قاس جداً.
تأتي قسوته من عدم وجود رصيد ثقافي لدى
الإنسان العربي، يؤهله لكي يخوض حرب "امتناع" من هذا النمط.
لأن التربية التي تلقاها هي تربية
استهلاكية، غير قائمة على التخير والانتقاء القائم على أساس مبدئي!
فالانتقاء الشائع بيننا هو انتقاء على
أساس مادي:"اختر الأقل ثمنا" أو على أساس نوعي: "اختر الأكثر جودة، أو على أساس
مظهري: "اختر الأكثر تأنقاً".
قد تكون هناك أسس أخرى يراعيها الفرد
في مجتمعاتنا، ولكنه على أية حال، لم يتعلم أن ينتقي انطلاقا من دافع مبدأي: "اختر
ما يتناسب مع قضيتك"!
ولا يخفى ما يحيط بهذا الموقف من
مصاعب، تأتي بها مغريات العرض الناتج عن الزخم الإنتاجي الهائل، فما تعرضه الأسواق
يشكل اختباراً صعباً لقوانا، التي سرعان ما تنهار، وإراداتنا التي سرعان ما تستسلم،
لنجد أنفسنا نتنازل شيئاً فشيئاً، ثم ما نلبث أن نفلت الحبل بالكامل، لكي نعود إلى
سابق عهدنا وسلوكنا الاستهلاكي اللامبالي وكأن شيئا لم يكن!
كل هذه العوائق وغيرها، تسبب غبشاً في
الرؤية، وتمنعنا من الحكم الصحيح على مدى صلاحية المقاطعة، ومدى جدواها كسلاح ممكن.
وإذا ما أردنا أن نصدر حكماً سليماً،
فلن يكون ذلك قبل عملية تقييميه تنتج بعد ممارسة منظمة ومتأنية للقضية.
أما ما يرد من إحصائيات محبطة، فليس من
العدل الأخذ بها، والقياس عليها، والرجوع إليها كحجة للفشل وعدم الجدوى،لأننا لا
نستطيع أن ندعي أننا قاطعنا بالطريقة المثلى...وبالتالي لا نستطيع أن نتوقع نتائج
مدوية.