حلب المُحرَّرة.. قصة صمود ملحمية

محمد عبد الكريم النعيمي

محمد عبد الكريم النعيمي - المدينة المنورة

[email protected]

لا أنكر أن دافعاً ذاتياً نفسياً كان خلف رغبتي في التوجه إلى سورية المحررة، بالإضافة إلى أسباب متعلقة بطبيعة عملي، فما يتراكم في النفس من ملل ويأس وهبوط همة في بعض الأحيان، لا يداويه ويجليه إلا مخالطة شعبٍ لا وَصْفَ لكفاحه المرير في سبيل كرامته وأرضه ومبادئه.

أحياناً يكون الطريق إلى وجهتك الخطرة والمشتعلة، أولى بالقلق وأحرى بالإرهاق، خاصة مع استغلال المُهرّبين الجشع لحاجة الناس المُلحّة في التنقل بين الأراضي السورية والتركية، وإغلاق المعابر الحدودية - غير المفهوم للسوريين! - من قبل السلطات التركية في هذه الفترة، والذي قد يكون الحذر الأمني المرافق للانتخابات البرلمانية التركية خلفه!

كان مقدّراً تناولُ جرعةٍ إنعاشية زائدة وغير منتظرة في بداية دخول سورية المحررة، فسائق التاكسي الذي سينقلنا إلى وسط مدينة حلب، لم يكفّ عن الحديث المتفائل لمستقبل سورية رغم الآلام الجسام، يُفاخِرُ باستشهاد ولده البكر في جبهات الجهاد والنضال، وبإصراره على الصمود مع أسرته الصغيرة في الداخل، دون أن يراوده أدنى تفكير في الهجرة، لأن في الهجرة - بحسبه - تحقيقاً لأهداف النظام في إفراغ البلاد، والعبث بتركيبته المجتمعية والطائفية.

رضاه وقناعته - الظاهرة على مُحَيّاه السمح - بأقل القليل من أجرة النقل، مقارنة بجشع المهرّبين ومن لفّ لفّهم في غابة التهريب، أظهر لي رأسَ خيطٍ لكشف سرّ الصمود الأسطوري للسوريين في المناطق المحرَّرة.

طوال الطريق المتشابك القرى، تلمح وجوهاً منهكة التقاسيم، مستبشرة الملامح، تزرع ما أحرقته صواريخ الحقد، وتبني ما هدمته براميل المغول، غير عابئة بسقوطها غير المنقطع، وغير مبالية للأفق المسدود للحلّ أو الحسم المرتقب.

"هي ثورة تمضي ببركة الله وعنايته وحفظه" .. يصيح السائق منفعلاً، وهو يبدي امتعاضه من تشرذم الفصائل المعارضة، وتفرّق الكلمة.

وتصدّق حديثه شعاراتٌ ولافتات ورايات - لفصائل متباينة وأحياناً متناحرة - تطالعك على جدران المباني وقوارع الطرق والحواجز، تكرّس الانقسام وتطيل عمر النظام!

يتجلّى في حلب المدينة هذا التدافع الفكري - الذي يتطور أحياناً إلى تدافع عسكري - بصورة واضحة، فالكمّ الهائل للمشاريع الفكرية التي غزت العقلَ السوري بعد عقود من الركود والاستحواذ البعثي، أدى إلى صدمة فكرية مفاجئة، انعكست - في ليلة وضحاها - بصورة ممارسات دخيلة على ثقافة المجتمع، بل وتخطت الممارسات إلى المظاهر العامة، فاللحى الكثة.. والشعور المسدلة.. واللباس الأسود.. ظاهرة هي أشبه بـ "موضة" الواقع المأزوم، الهاربِ من جلده وهويته الوطنية، لأنها هوية جاهلية وَفق الفكر الوافد الجديد، الذي يُقحم الدِّين في خصوصياتٍ ثقافية لا تمسّ جوهرَ دين ولا قشورَه!

لا أزعم أنني تحدثت مع الكثير من هؤلاء، ولكن من الحديث الذي يتاح لك مع بعضهم، ستلحظ قبولاً - ولو شعورياً - لأفكارك الإسلامية أو المدنية التي قد يعتبرها قبل نقاشك معه شركية أو علمانية، خاصة إذا كانت طبيعة الفكر الذي صادفه أولَ مرة وتمكّن منه، طبيعة استحواذية تخوينية إقصائية للآخر، لا تختلف عن العقلية البعثية في احتكار الحقيقة المطلقة!

في خضم صراعات هؤلاء الفكرية والعسكرية، يعيش الشعب في صمت، ويعمل بكدٍّ كمَن سيعيش أبداً، ويرنو إلى راية الثورة بنظرة حنين، بما تحمله من ذكريات أيام عفّة الثورة، قبل أن تلوّثها الأيديولوجيات المُتاجِرة بالشعارات الدينية بغرض الاستقطاب!

يتداول الشعب في جلساته وسهراته قصص البطولات والتضحيات، وأخبار المآسي اليومية، ويتابع أخبار الجبهات، تماماً كما يتسامر بالطرفة ذات الطابع السياسي الذي فرضته الثورة.

خلال تجوالك في الأحياء المدمّر أكثر من 70% من مبانيها وبنيتها التحتية، تتعالى أصوات الباعة وتختلط في أذنك، يُسمع خلالها - دون أن يقاطعها! - دويُّ انفجار هنا أو هناك، لا يستدعي من اهتمام الناس سوى نظرات إلى السماء ترقب طيران الموت وتستكشف وجهته!

من المعتاد كثيراً أن يُقصف مسجدٌ أو مبنى أو شارع كنتَ فيه قبل دقائق معدودة، لم ينقذك منه إلا لطفُ الله، ويدُ القدر الخفية.

في بعض الأحياء أكوام من الرمال والحجارة تحجب الرؤية - قدر المستطاع - عن قناصة الأسد، ولا يفصل بينها وبينهم إلا عدد من المباني!

لا تزال بقايا لافتات على الجدران، تذكّر الحلبيّين بأن مدناً وبلداتٍ في أنحاء القطر السوري، ما زالت تشاركها قصة الصمود الملحميّة هذه.