ميشال عون.. الذي لا ينطق عن هوى!

محمد قواص

ميدل ايست أونلاين

في تعليقه على أحداث "السابع من أيار" عام 2008، انتشى الجنرال ميشال عون في الإعلان عن صوابية خياره في توقيع ورقة التفاهم مع حزب الله عام 2006، ذلك أن الحزب خلال هذه الاحداث هاجم مناطق سنّية وأخرى درزية، لكنه لم يهاجم، حسب تصريحاته، مناطق مسيحية.في أعقاب هذا الانتشاء، اتهمه الخصوم بأنه يتبنى خطاباً ذمياً يُعيد المسيحيين إلى زمن انقضى، ويضعُ أمنهم وبقاءهم في عهدة مزاج المسلمين (الشيعة هذه المرة)، ما يفرض عليهم جزية الطاعة والانصياع لمنطق القوي وشروطه.

وفي ذروة حججه الحديثة لاقناع تيار المستقبل بتبني ترشيحه رئيساً للجمهورية اللبنانية، يكتشف سيّد الرابية أن وجوده في بعبدا سيتيح له ضمان أمن عودة سعد الحريري إلى البلد. في المقاربتين يخضعُ زعيم التيار الوطني الحرّ لمنطق القوي ويَعِدُ بالتعاطي معه والتوسّط لديه بصفتة قدراً نهائياً محبباً لا مناص منه.

لكن المقاربة العونية هذه ليست طارئةٌ على تاريخ الرجل منذ أن كان ضابطاً في الجيش، مرورا بقيادته لهذا الجيش، انتهاء بتوّقه، الذي لم يتوقف، لتبوّء منصب الرئاسة في لبنان. وإن كان يُسجّل للرجل وقوفه في مرحله مروره في قصر بعبدا في أواخر الثمانينات ضد القوات السورية، فإن منطق العلاج بالقوة تعارض مع أبجديات المشهديّن المحليّ والاقليمي اللذيّن انتجا "الطائف"، وبالتالي أخرجه، كما أخرج سمير جعجع من بعده، من المشهد السياسي اللبناني لعقد ونصف من الزمن.

غير أن سمير جعجع خرج من سجنه وعاد إلى المشهد السياسي متبنياً الاجماعات الوطنية العامة سواء في جانبها الدستوري، أو تلك التي ولّدها حدث اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أطلّ قائد "القوات" معترفاً بالشراكة مع الآخر، متبنياً التعددية بصفتها ثراءً، متخلياً عن ايديولوجيا الخصوصية المسيحية المتفوّقة التي طبعت الفكر السياسي المسيحي منذ الاستقلال، وظهرت أعراضها المتوترة خلال الحرب الأهلية.

من جهته، بدا أن ميشال عون عاد من منفاه ليسترد ملكاً لا ليسترد وطناً. بدا الرجل، منذ إطلالته الأولى في مطار بيروت، قادماً لتصفية حسابات، حانقاً على الوطن الذي خذله، معنّفاً مستقبلية بان "إسكتوا"، موحياً بالقوة التي "خلّدت" حكايته في ومن قصر بعبدا.

لم يبدّل الرجل بوضوح موقفه من "طائف" البلد، رجع غير معترف بخمسة عشر عاماً أنتجت تيارات ورجال وغيّبت جماعات وشعارات.انتقل من نقيض المنفى وأسبابه الى نقيض العودة وأسرارها. عاد الرجل وفي خلده الرئاسة في بعبدا، ومن أجل ما هو هدف سامي، انقلبت قناعات وتبدلت تحالفات، وراح يسعى في دمشق وطهران لاستيراد أعجوبة تحقق مبتغاه بعد أن جفّت المعجزات داخل البلد.

في بهلوانية، باتت تقليدية عند الجنرال، ينتبه ميشال عون، بعد حوالي العقد على مغادرة منفاه الفرنسي، أن تحالفه مع الشيعة (وفق ما شرح حيثياته في شريط مسرّب مؤخراً)، ليس كافيا لتعبيد طريقه نحو بعبدا.يرتجلُ الرجل بضيق، ودون تردد، وبين ليلة وضحاها، انفتاحاً على السنّة في البلد، لعلّ في حواره مع تيار المستقبل تليينا لـ "فيتو" عدميّ على طموحاته الرئاسية.في داخل مقاربتيه بالتحالف مع الشيعة والتفاهم مع السنّة تفوح قناعة لدى الجنرال من أن من يختار الرئيس المسيحي هم المسلمون، وبالتالي فإن خطابه "الارثوذكسي" القاضي بانتخاب المسيحيين للنوابهم، وبالمناسبة لرئيسهم أيضاً، لا يغذي إلا استهلاكاً انتخابياً شعبويا، يأتي هذه المرة خارج أي سياق.

يتيحُ اقتراح الجنرال الاخير بتعديل دستوري انتخاب الرئيس في دورتين شعبيتين (أي بالاقتراع المباشر) الأولى مسيحية والثانية غير مسيحية.في ذلك تأكيد آخر أن الكلمة الفصل في النهاية في تحديد هوية الرئيس هي لغير المسيحيين، طالما أن من سيختاره المسيحيون سيكون مرشحاً غير ملزم، وأن الصوت المسلم هو من سيؤكد أو يرفض خيار المسيحيين. فما الذي يريده الجنرال مما اسماه "مبادرة انقاذية"؟

ما يبادرُ به ميشال عون ليس بعيداً عن مزاج حزب الله. يراقبُ الحزب بصمت مناورات الجنرال غير آبه بتفاصيلها المنسجمة مع طموحات حليفه الرئاسية.ما يهمّ الحزب هو الكلام عن تعديل دستوري. أمر ذلك يرفع المحرّم، ويتيح فتح بازار الاصلاح الدستوري على نحو قد يعيد إحياء فكرة المؤتمر التأسيسي الذي سبق للسيّد حسن نصر الله الدعوة إليه.

مبادرة الجنرال مرفوضة من الخصوم، كما تمّ التصريح بذلك، ولا يبدو أن هناك اجماعاً حولها من الحلفاء (وقد تمّ التعبير عن ذلك أيضاً). وبالتالي فإن المطلوب من المبادرة احداث ضجيج عقيم حول مسألة انتخاب الرئيس لا تخصّب حلاً ناجعاً، لا بل تؤكد ثابتة أن الحلّ التوافقي هي عند الجنرال، وأنه وحده، وحتى اشعار آخر، من يمنع هذا التوافق. وأن مبادرته الأخيرة إقرار بأن الفراغ الرئاسي طويل يحتمل مبادرات وفتاوى خارج سياق اليوميات وراهنها.

تأتي "مبادرة" الجنرال في وقت باتت مسألة انتخاب رئيس للجمهورية، على أهميتها بالنسبة للبنان، هامشية ثانوية إذا ما قورنت بالتطورات الحديثة الخطيرة في المنطقة منذ الزلزال في العراق.

على أن الجنرال قد لا ينطق عن هوى. فالسياق الإقليمي الخطير هذه الأيام، قد يربك ثوابت ويأتي بتبدّلات جيو استراتيجية كبرى، ما قد يطيح ببلدان وحدود وأنظمة. أمر ذلك قد يُفهم في لبنان موسماً مؤاتيا لتبدّلات وتغيّرات تعبث بنظامه السياسي وتقلب مشهده العام. من ذلك، فإن المعركة (المبادرة) العونية الجديدة، المتأسسة من جديد على فكرة الاستقواء بـ "القوة"، قد لا تكون غريبة عن معارك أخرى تُخاض في كل المنطقة، بحيث لا شك سيتتشكّل في خواتيمها نظام إقليمي جديد.

هو قطار يسير إلى ما هو مجهول. يعشقُ الجنرال ما هو مجهول ويكره ما هو معلوم مقيت.

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي