نظرةٌ فابتسامةٌ فموعدٌ...فرانج روفر 2

من الحياة اليومية لمواطن سوري

الجزء الثاني والأخير

قصة جديدة أرويها رداً على أصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا) حيث حياة الانسان في (سورية الأسد) كانت دائماً غير ذات قيمة ويمكن الاعتداء عليها لأسباب مزاجية ودون مسائلة أو ردع من القانون، وهي قصة حصلت معي شخصياً وليست قيلاً عن قال.

 ذكرت في الجزء الأول من القصة كيف تعرفت في شتاء عام 1977، وحين كنت في السنة الثانية في كلية الهندسة الميكانيكية، كيف تعرفت قرب كلية الفيزياء على فتاة في صف الحادي عشر الثانوي وكيف شعرت منذ البداية بأن هناك أمر غير اعتيادي في تلك الفتاة. إلى أن أتى يوم، وكنا في نهاية الربيع وكنت أحضر لامتحانات الفصل الثاني في أيار، فاتصلت بي وقالت (أحب أن أراك). ولمن يريد المزيد من التفاصيل، فأنصحه بالعودة إلى الجزء الأول.

 طبعاً فوجئت من جديد، إذ من المتعارف عليه في بلدنا أن طلب (الموعد) يجب أن يأتي من طرف الشاب وليس الفتاة، وحين يأتي فيفترض أنها تتمنع في البداية وحين تقبله، فتقبله بمزيج من الخجل والتردد. من جهتي فلم أطلب رؤيتها خلال الأشهر الماضية بسبب هذا الشعور الخفي الذي لم يفارقني للحظة بأن هناك (إن) في الموضوع وأن الأمر ليس بالبساطة التي يبدو عليها في الظاهر. ولما سألتها مالذي تفكر فيه، أجابت بأن آخر امتحاناتها سيكون في يوم خميس بعد اسبوعين، ويمكن أن ألقاها أمام المدرسة الساعة الثانية عشر ظهراً حيث يمكن أن نتمشى إلى كافيتيريا نجلس فيها ونتحدث. ولما سألتها أليس من الأفضل وحرصاً على سمعتها أن نلتقي أمام الكافيتيريا مباشرة، أو في أي مكان آخر بعيد عن المدرسة كي لايراها أحد، قالت بأن هذا غير ضروري لأن الأمر أكثر من عادي ولايتطلب أي سرية أو خجل.

 بقيت خلال الاسبوعين أفكر بهذا (الموعد) وبهذه العلاقة ككل، فكل مافيها كان يدل على أن ورائها ماورائها، إلى أن أتى يوم (الموعد) أخيراً، وكنت قد أخبرت الفتاة أثناء مكالمة سابقة بأني لن أنتظرها على باب المدرسة مباشرة، لأن هذا إن لم يكن محرجاً لها، فهوبالتأكيد محرج لي، وقلت لها بأني سأنتظرها على رصيف سفارة الفاتيكان القريبة. وفعلاً أتت الفتاة على الموعد ولفت نظري بأنها لم تكن بلباس (الفتوة) الموحد كما هو إجباري في المدارس الثانوية، بل بملابس مدنية وأكثر جرأة من تلك التي رأيتها فيها أول مرة. ولما سألتها عن السبب قالت بأن هذه الثياب التي ترتديها اليوم وصلتها هدية منذ فترة قصيرة من (باريس)، وبأنها لن تدع (قوانين) المدرسة تجبرها على ارتداء لباس (الفتوة) السخيف إلى (الموعد) وترك ثياب (باريس) في البيت. طبعاً سألتني عن رأي بتلك الثياب، فقلت لها بأنها لاشك أنيقة ثم سألتها (ولكن ألا تعتقدين بأنها جريئة لأن تلبس في شوارع مدينة محافظة مثل دمشق؟) وهنا عادت الفتاة لتزيد من حيرتي واستغرابي حين ابتسمت وأجابت بسرعة وكأنها محضرة نفسها لذلك السؤال (مادامت الثياب تظهرني سيكسية فليس عندي مشكلة). وسبب استغرابي هذا أن النساء في بلدنا لم يعتدن استعمال مثل تلك الكلمات في الأحاديث العامة ولا الخاصة، إلا إذا كانت هناك علاقة وثيقة وقديمة ورفع كلفة، وهذا بالتأكيد مالم يكن متوفراً في حالتنا تلك. أخذنا بعدها بالمشي على جانب نهر بردى الذي يصل مابين جامع الروضة والجسر الأبيض، ثم اتجهنا ناحية شارع الحمرا مروراً بشارع الطلياني، قاصدين إحدى الكافيتيريات المنتشرة بكثرة في تلك المنطقة، ولكن لم أكن أعرف ماكان يخبئه لي شارع الحمرا قبل وصولنا إلى الكافيتريا.

 خلال مسيرنا من المدرسة إلى شارع الحمرا، بدأت أصل مابين النقاط وتتوضح الصورة أكثر واكثر وأجد أجوبة لأسئلتي، حيث لم تنقطع الفتاة خلال ذلك المسير عن التحدث عن رحلاتها كل صيف مع أهلها إلى (باريس) لشراء الملابس والاستجمام، ولا عن رحلاتها شبه الشهرية إلى (فيلة البابا) بالقرب من (الشاطئ الأزرق) في اللاذقية. كنا نسير على الجانب الأيسر من الشارع وبعكس اتجاه السيارات وكنا قد قطعنا نصفه تقريباً حين فوجئنا، أنا وهي هذه المرة وليس أنا وحدي، بسيارة (رانج روفر) تصعد على الرصيف وتمر بسرعة جنونية بجانبنا وعلى بعد لايزيد عن متر، ثم لتعود إلى الشارع وتتابع سرعتها الجنونية. بصراحة لم أكن قد استوعبت بعد مايجري، ذلك أن مشهد (الرانج روفر) وهي تقوم بحركات جنونية واستعراضية كهذه لم يكن بالأمر الغريب في دمشق، كون هذه السيارات ومثيلاتها شبه مخصصة لضباط المخابرات والجيش من (الطائفة الكريمة)، وطبعاً لأولادهم الزعران أيضاً. كان أول مافعلته أن التفت إلى الفتاة لأهدئ من أعصابها، باعتباري توقعت أن تكون خائفة ومازالت تحت تأثير الصدمة، ولكني وعلى العكس وجدت على وجهها علامات الغضب والتحدي وليس الخوف، فقلت لها معلقاً (ماأكثر المجانين في هذا البلد). توقعت أن تكون الحادثة عرضية وأن السائق المجنون أراد لفت النظر إليه وإلى سيارته ليس إلا وأنه قد مضى في سبيله، ولكن لم تمض دقائق حتى خاب ظني وعاد السائق إلينا بعد دقائق وكرر نفس العملية مع فارق أنه هذه المرة اقترب منا أكثر حتى كاد يدعسنا بالفعل، ثم فرمل بشدة وركن سيارته على الرصيف أمامنا مباشرة، قاطعاً الطريق علينا وعلى بقية المارة وسط دهشة وفزع الجميع. تمكنت من تميز السائق حين غادر مقعده ونزل باتجاهنا، فكان شاباً يافعاً بالكاد في العشرين من عمره وتبدو ملامح النعمة الحديثة على هيئته الريفية وملابسه المبتذلة وعطره الفج الذي يبدو وكأنه قد (تحمم) به. ولكن ماكان يميزه أكثر من أي شئ آخر المسدس الحربي على جنبه والذي كان (ماركة مسجلة) لرجال المخابرات والجيش وأبنائهم.

 كان الشاب يتحرك باتجاهنا وعلى وجهه علامات الغضب ونية الشر، فحضرت نفسي للأسوأ وتوقعت أن أشتبك معه في أي لحظة، وهنا حصلت مفاجأة المفاجآت في هذه القصة، حيث تقدمت الفتاة ووقفت أمامه وفي وجهها شر أكثر من الشر الذي كان على وجهه، ثم بدأت تشتمه بأقذع الألفاظ ولكن هذه المرة باللهجة (العلوية) التي لايخطئها سوري وحيث لم تترك مسبة فيها حرف (القاف) لم تستعملها. صعق الشاب لجرأتها الغير متوقعة ولكنه سرعان مابدأ بتهديدها بنفس اللهجة والكلمات و(القافات) ويتوعدها بأنه سيفعل كذا وكذا إذا لم تتجاوب معه وتتوقف عن إغاظته. إلا أنها لم تسكت له ولم تهتم بتهديداته، بل استمرت بالرد عليه والكيل له الصاع صاعين، إلى أن نطقت أخيراً بما كان على مايظهر (كلمة سحرية) حين هددته بأنها ستشكوه ل(فلان) إذا لم يتوقف عن أفعاله. ويبدو أن ذكر اسم (فلان) قد فعل فعله بالشاب، فما كان منه إلا أن عاد سريعاً إلى سيارته و(شفط) بها مبتعداً وكأن مسه السحر. كنت ما أزال تحت وقع الصدمة لكل ماحدث، وكأنه شريط رعب سينمائي مر من أمامي وانتهى بثوان، فقالت لي الفتاة: لنتابع سيرنا ونبتعد عن هذا المكان اللعين. كانت الحديقة الواقعة خلف نادي الضباط القديم أقرب مكان عام منا، فدخلناها وجلسنا على أحد مقاعدها نلتقط أنفاسنا ونهدأ أعصابنا، ثم سألتها قبل أن تحاول التهرب من الموضوع (من هذا الشاب وماذا يريد منك ... ومن أنت؟)

 شعرت الفتاة بأن عليها أن تقول كل شئ هذه المرة، فأخبرتني، بعد أن عادت للهجة الدمشقية، أن هذا الشاب هو ابن عمها ويريد الزواج منها برغبة أسرته وأن والده، أي عمها، رئيس فرع مخابرات، وأن والدها استاذ توجيه سياسي في إحدى ثانويات دمشق الرئيسية وهو، أي والدها، من هددت ابن عمها به كونه على معرفة شخصية بالرئيس في القصر الجمهوري. وأضافت أن والدها قد ترك لها حرية الموافقة على ابن عمها أو رفضه، وأنها تكره هذا الابن العم، ولذلك يلاحقها ويفشل لها أي علاقة تقيمها، ولما عدت وسألتها من مدينة هي، أجابت بأن أسرتها من (القرداحة) ولكنها مولودة في دمشق. خيم صمت قصير بعد ذلك قطعته بقولها بلهجة حزينة أن حياتها قد أصبحت جحيماً بسبب تدخل ابن عمها فيها، فهو يلاحقها كظلها ليفشل أي علاقة لها قبل أن تبدأ. من جهتي فقد تعاطفت شيئاً ما مع الفتاة، ولكني في نفس الوقت وجدت نفسي وكأني دخلت في (صراع عائلي) لاناقة لي فيه ولاجمل، وليس صراع عائلي فحسب، بل (مافيوي) بامتياز، فكلنا نعرف طبيعة (نظام الأسد) وكيف يصفي رجالاته خصومهم أو الغير مرغوب بهم حتى ولو كانوا من نفس الطائفة.

 كانت هذه ثالث وآخر مرة رأيت فيها الفتاة، وقد شعرت بأني كنت محظوظاً بخروجي من تلك القصة (قطعة واحدة). وكنت قد قرأت قصة من (أدب السجون) عن طالب في جامعة دمشق كان على علاقة مع طالبة في نفس الكلية، فتمت فبركة تهمة سياسية له وإزاحته من المشهد بارساله إلى (سجن تدمر) حيث لم يعد من هناك، لا لشئ ولكن لأن طالب آخر من (الشباب الطيبة) كان معجباً بنفس الفتاة ويرغب أن يخلو له الجو ويأخذ فرصته معها. فحتى علاقة عادية بين شاب وفتاة في بلدنا لاأحد يعلم في زنزانة أي سجن أو تحت عجلات أي (رانج روفر) يمكن أن ينتهي الأمر بصاحبها، وهناك من مايزال يقول (كنا عايشين وماشي حالنا).

وسوم: العدد 629