أنا وديك الحبش ...

نحتفل هنا في الولايات المتحدة بعيد الشكر.  يتناول فيه الشعب الأمريكي ما يزيد عن المائتان وخمسون مليون طن من لحم طير الحبش و من فطائر ( القرع الحلو ) و من الخبز و .. و .. و ..

هذه السنة تضامناً مع كل احداث مناطقنا العربية الدامية، من موت أطفال سورية غرقاً على شواطئ العالم الى أولائك الذين يموتون تحت نيران القصف الفرنسي وصولاً الى من يموتون في المعتقلات المصرية وصعقاً وغرقاً في مياه الأمطار وبالجملة من يموتون في الضفة الغربية عن طريق إعدامات ميدانية لكل فلسطيني او فلسطينية يضع يده في جيبه او حقيبة يدها وكذلك تضامناً مع من يحصدهم الموت في قطاع غزة سواء عن طريق القصف الصهيوني او عن طريق اغراق الإنفاق التي يدخل عبرها الغذاء والدواء والحياة في ضل الحصار لقطاع غزة.  تضامناً مع كل هذا الموت قررت أن لا يكون هناك إحتفال بديك الحبش في بيتنا.  قررت أيضاً أن لا يموت طير الحبش والذي نقوم بذبحه في كل عام حيث نفضله طازجاً ولا نحبه مجمداً. 

وبما أن أطفالي لا ذنب لهم في قراراتي التعسفية هذه قمت بإرسالهم إلى بيت جدتهم لأمهم لمشاركة بقية الشعب الأمريكي في هذه المناسبة والوليمة التي تقام في كل بيت هنا في الولايات المتحدة الأمريكية. بقيت أنا وديك الحبش الأبيض الكبير وحدنا في المنزل. أخذت أمشي أنا وديك الحبش في حديقة المنزل أنظر إليه أحياناً وأتجنب نظراته إلي أحياناً أخرى حتى ثاقب أن جلست على مقعد .. كانت الشمس قد إختفى ضوئها تماماً والمنزل في شبه عتمة كاملة وذلك أيضاً تضامناً مع العديد من مدننا العربية والتي ينقطع عنها الكهرباء، عتمة تعم ارجاء البيت إلا من ضوء شمعة بسيط كان يتسلل إلى حيث نجلس أنا وديك الحبش في حديقة المنزل وكأنه ضوء شمعة من شموع الحزن التي تعم العاصمة باريس حزناً على مائة وبضعة وعشرين فرنسياً قضوا لا نعرف كيف ولا على يد من، شموع اعادت لباريس اسم عاصمة النور تلك الشموع على عكس شمعتي أنا وديك الحبش والتي بالكاد تضيئ شيئاً على الإطللاق حزناً على ارواح الآلاف ممن ماتوا ويموتون في عالمنا العربي في كل يوم.

وجدت نفسي أقول لديك الحبش .. هل تعلم بأنك مدين لي بحياتك اليوم؟ كان من الممكن أن تكون الآن محشواً ومحمراً تتوسط مائدة عليها كل ما تتمني العين وتشتهي النفس. هل تعلم أنك مدين بحياتك إلى مدينة القدس والقاهرة وبيروت وحلب ومدينة غزة؟  هل تعلم أين مدينة غزة؟ هل تعلم كم جائع يود أن يطال رقبتك في كل المدن العربية التي أحدثك عنها؟ هل تعلم أن هناك ما يزيد عن الثلاث مائة مليون عربي يعيشون في عتمة كهذة وهم يحسبون انهم يعيشون في وضح الحياة؟  وهل تعلم أن هناك أكثر من ستة بلايين إنسان على وجه الارض لم تحرك ساكناً على كل الموت الذي يدور ويقع على الملايين في دولنا العربية؟ لم يرحموهم كما رحمتك ولم يتضامنوا معهم كما نتضامن معهم أنا وانت اليوم.

قلت لديك الحبش .. والمشكلة ليست هنا. المشكلة هي أن الإحساس أصبح معدوماً عند حكام البشر. في الضفة في الرياض في عمان في القاهرة في دمشق في الدوحة في باريس في موسكو .. هنا في واشنطن ، المشكلة هي إنعدام الإحساس عند البشر تجاه ما يعانيه البشر في عالمنا العربي. وها أنا أشعر بك وأصدر عفواً عام أن لا تموت ، أما هم فلا يشعرون بوجوب إصدار مثل هذا العفو عن ثلاث مائة مليون عربي ان لا يموتوا جوعاً ومرضاً وقصفاً وحصاراً. يبدوا أنك تملك حظاً لا تملكه الشعوب المطحونة في عالمنا العربي. نعم هذه الدنيا حظوظ حظك آيه الديك أقوي من حظ ثلاث مائة مليون عربي!

قلت له هل تعلم أن لدينا ملوك وروؤساء وأمراء في دولنا العربية يشبهونك تماماً في الإمتلاء وفي المظهر وحتى في المشية؟ لدرجة أنك واحد من أمثالنا الشعبية حين يقولون ( يمشي كديك الحبش ) أو عندما يقال ( يزهو بنفسه كديك الحبش ) نعم يا شريك عتمتنا الإختيارية هذه .. لدينا ملوك ورؤساء وحكام وأمراء يمشون مشيتك ويزهون زهوك بين شعوبهم المطحونة الهزيلة الجائعة ، أنت على الأقل يمكن الإستفادة من لحمك أما هؤلاء الملوك والزعماء العرب فلا فائدة من عقولهم ولا لحومهم. أخذت أنظر إلى ريشه الشديد البياض وبنيته التي تدل على حرص المزرعة التي أتى منها من إعتناء بصحته ورعايته حتى بلغ إلى هذه الدرجة من الصحة والعنفوان ثم قلت له .. هناك الملايين من أبناء بلادي العربية عاشوا حياتهم بأكملها ولم يجدوا ربع العناية الصحية التي تم توفيرها لك منذ خرجت من البيضة وحتى يومنا هذا، وهناك منهم من لا بريق لجلده ولم يعرف معنى أن يتوفر له مجرد الماء النظيف ليشربه ناهيك عن تنظيف وتلميع ريشه .. عفواً أقصد جلده. وبحسبة صغيرة تجد أن تكاليف العناية بعشرة ديوك حبشية مثلك كافية لإعالة عائلة من خمسة أفراد لعام كامل في دولنا العربية .. عجيبة هذه المفارقات اللإنسانية عندما تقارن بين عيشة ديك الحبش هنا في الولايات المتحدة وبين عيشة الإنسان في عالمنا العربي.

رفعت رأسي ونظرت إلى ديك الحبش فوجدته وكأنه كان جاثياً على الأرض قدميه من تحته وكأنه جالس على بيضة فحسبته نائماً فإقتربت منه فلم ( يجفل ) لإقترابي منه فلكزته بقدمي فإذا به يسقط على جنبه. أسرعت وأضأت الأضواء في المنزل المبرمج علي أحدث طراز فإذا بالبيت تشع به أضواء قد تكفي لإضائة ربع الضفة الغربية وجميع قطاع غزة وجزء من مدينة عمان الاردنية وبظغطة زر أخرى كنت أتحدث مع سنترال الطوارئ ( الإسعاف ) وفي خلال ثواني كانت معدات الإسعاف تهرع إلى المنزل وكأن هناك في الشارع الذي يقع فيه منزلنا قد وقع حادث جلل.  تكوم المسعفون حول ديك الحبش في محاولات مستميتة لانقاذه. هناك من وضع على منقاره كمامة أكسجين خاصة بالطيور وذاك يدلك عضلة قلب ديك الحبش وآخر على الهاتف يستشير خبيراً في صحة ديوك الحبش من ولاية مجاورة وأخيراً تقدم إلي كبير المسعفين ينقل الي خبر وفاة ديك الحبش الثمين وأسباب وفاته واضعاً يديه حول كتفي ويحدثني بحرارة صوته يملأه الحزن والأسى وهو يخبرني أن هذا النوع من ديك الحبش تقوم الشركة التي تقوم بتربيته ( بعلفه ) بطريقة تضمن إكتمال إمتلائه وذلك لتناوله وهو في أقصى حالات إكتماله .. قال والعبارات تكاد تخونه من الحزن قائلاً يؤسفني أن أخبركم أن الديك قد مات من شدة ( الشبع ).

وسوم: العدد 644