انهيار السلطة تهديد لليهود وتذكير للطحالب السياسية

تصاعد الحديث الإعلامي وارتفعت وتيرة التصريحات السياسية حول انهيار السلطة، تزامنا مع سخونة الأعمال الجهادية من قبل الشباب الغاضبين في فلسطين، وبعد الزيارة الثانية لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري لفلسطين المحتلة، حذر كيري دولة الاحتلال من مخاطر انهيار محتمل للسلطة الفلسطينية، قائلا إنه سيؤدي إلى حالة من شأنها أن تهدد أمن إسرائيل والشعب الفلسطيني (الجزيرة نت 6/12/2015). وهنا يبرز التساؤل السياسي حول مستقبل السلطة الفلسطينية في ظل الانتفاضة، وخصوصا مع تعنت الكيان اليهودي أمام التحركات الأمريكية وعرقلته لحل الدولتين، مما يتطلب إعادة تفكيك المشهد السياسي حول العلاقة ثلاثية الأبعاد بين أمريكا وكيان اليهود والسلطة الفلسطينية.

بداية، لا بد من توضيح الموقف الأمريكي الحالي فيما يتعلق بتحريك مسار الحل  السياسي: إذ كان جلّيا منذ زيارة كيري الأولى أن جعبته السياسية فارغة، وأن أمريكا تريد لفلسطين أن تكون في حالة سكون، إذ تركّز حاليا على إخماد الحرائق الإقليمية المتفجرة في أطراف العالم الإسلامي، والتي اشتعلت بعد الشرارات الثورية، أضف إلى ذلك أن أمريكا تمر بحالة الجمود السياسي (المسمّاة "البطة العرجاء" في السنة الانتخابية)، وأن أوباما بدأ يدخل –إن لم نقل دخل بالفعل- في حالة من الإحباط السياسي من نتنياهو أمام رفضه المبدئي لحل الدولتين، والقائم على رؤية تلمودية تميّز بها حزبه (الليكود)، المصرّ على الهيمنة غير المنقوصة على كل فلسطين. ولم تتفتق الزيارة الأولى عن أكثر من ضجيج إعلامي حول تركيب كاميرات للبث المباشر في المسجد الأقصى.

ولم يحدث أي تغيير في ذلك الموقف مع زيارة كيري الثانية، وانتهت دون أيّ تغيّر ملموس في الأجواء والخلفيات، ولم تحمل زيارة كيري أكثر من مجرد وعود بإغراءات اقتصادية، وظلّت جعبته، ومن خلفه طاولة أوباما، فارغة من ملفات سياسية يمكن أن تحدث تغييرا في مسار الأحداث. وكان أوباما قد أكّد قبل أسابيع موقفه المحبط، عندما قال "لا حل قريب لقضية فلسطين".

وتراجع الحضور الإعلامي للحلول السياسية -من مثل المشروع الفرنسي ومسار اتفاق الهدنة في غزة- وذلك مع تصاعد أخبار العمليات الفردية التي ينفذها شباب عزّل من أي سلاح فصائلي. وقد علّت أصواتهم فوق أصوات القادة والسياسيين، الذين تم ترويضهم على دبلوماسية الحلول السياسية، والعلاقات الدولية، وعلى المجاملات السخيفة مع الأنظمة العربية المتخاذلة.

ويبدو أن القوى السياسية والفصائلية رغم تزاحمها- لا زالت فاشلة في ركوب موجة هذه الانتفاضة حتى الساعة، إذ إن الخطاب الفصائلي-المدجّن- مناقض في المضمون (السلمي) وفي الحراك (السياسي) لأنفاس الشباب الثورية والهبة الدموية. ولذلك فليس ثمة من فسحة –في المدى القريب- لتحريك مسار الحل السياسي، لا عبر تسخير الفصائل، ولا من جهات أوروبية ولا من قبل أمريكا. وقد صرح بعض قادة فتح بما يعبر عن حالة الفراغ السياسي هذه بالقول إن "كيري لا يمكن أن يقدم شيئا للفلسطينيين، وهو يبيع الأوهام بل ويضغط على السلطة" (فلسطين الآن24/11/2015).

ولذلك إن جلّ ما تقوم به أمريكا من تحركات هو من باب إدارة الأزمة، بلا أفق لحلها، وذلك لإبقاء ملف القضية بأيديها لئلا تزاحمها القوى الأوروبية، أو روسيا التي حاول رئيس المكتب السياسي لحركة حماس –مشعل- استدعاء دورها. وهي تقوم بذلك تحت الثابت السياسي القائم على الحفاظ على حل الدولتين، وبالتالي إبقاء السلطة الفلسطينية، ومن هنا لا يمكن تحميل تصريحات كيري حول انهيار السلطة أكثر من التهديد لليهود أولا، ثم تذكير قادة السلطة بما يعتبرونه "منجزات"، من أجل ديمومة الركون إلى التوجيهات الأمريكية.

وتقوم أمريكا بتلك التحركات، وهي تدرك أنها مدفوعة حاليا للركض على قشاط متحرك، وهي تقدم أطروحات فضفاضة وبأسلوب تقديم حبوب "أسبرين"، من أجل إيقاف التصاعد المستمر للانتفاضة، حتى لا تتحول إلى ظاهرة ثورية تنسف ما بناه جنرالاتها من عقيدة التنسيق الأمني، وحتى لا تسحب البساط من تحت أرجل "الفلسطيني الجديد" الذي صنعه الأمريكان، ممن يستبيح توجيه البندقية للمقاومين والرافضين لنهج السلطة، بينما يستخدم البندقية ذاتها لحماية المستوطنين، حتى وهم يقتحمون البلدات الفلسطينية، ولو حرّقوا أطفالها ودنّسوا مساجدها.

وفي السياق ذاته، فإن الجدل الذي دار في دوائر صنع القرار اليهودية –بعد زيارة كيري- حول سيناريو انهيار السلطة يحمل تأثير بعض القيادات اليهودية المعنية بتذكير نتنياهو بخطر حل السلطة. وهو واقعيا ليس إلا مجرد ضجيج فارغ من المضمون، إذ من المؤكد أن الجنرالات الأمنية لا يمكن أن توافق عليه، وهي التي تثمن الدور الكبير لأجهزة السلطة في غسيل أدمغة شباب فلسطين، وفي "تأديب" المقاومين والثائرين منهم، "بأدب" الاستخذاء والانبطاح.

نعم، ستبقى السلطة قائمة طالما التقت المصالح النفعية للطحالب السياسية التي تعتاش في مستنقعها  مع المصالح الأمنية اليهودية، تحت مظلة الرؤية السياسية الأمريكية بحل الدولتين. إذ إن إنشاء السلطة الفلسطينية هو مشروع أمني أمريكي بامتياز، ولا يمكن أن تتخلى عنه أمريكا بسهولة: فهو الصورة المخفّفة لحل الدولتين، وهو التنفيذ العملي لسياسة أمريكا القائمة على أنّ "أمن إسرائيل هو من أمن أمريكا"،

ثم إن السلطة تجتهد في ضبط الانتفاضة على أيقاع ما يطرحه رئيسها من مقاومة سلمية تراق فيها دماء أبناء فلسطين أمام الهمجية اليهودية، لصياغة "رواية عاطفية" تخدم نهجه التفاوضي، وتحسّن مجلسه ونبرة صوته على طاولة المفاوضات التي لا يجد عنها بديلا، ولا يرضى بغيرها سبيلا، بل صرّح –من قبل- أنه سيقف بالقوة ضد أية انتفاضة عسكرية.

إذن فإن سلطةً هذه حالها وهذا مقالها، جديرة بأن تأخذ شهادة جودة أمريكية، وشهادة خدمة يهودية، تحافظ بهما على ديمومتها، وعلى حياة طحالبها السياسية، مهما أزكمت رائحتُها الأنوف.

أما توجهات حكومة اليهود فإنها تركز على وقف الانتفاضة، لا على واقع السلطة أو انهيارها، وهم يشعرون بتهديد أعمال الانتفاضة على معنويات ونفسيات اليهود، وخصوصا أنهم أصحاب عقلية أمنية بامتياز، كما وصفهم القرآن: "لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ". ولذلك فهم يصعّدون من القبضة العسكرية، ومن مستوى رد الفعل الدموي. ويحاولون الضغط عن طريق ربط البحث في كافة القضايا المتعلقة بالمسار السياسي والتسهيلات الاقتصادية بوقف الانتفاضة.

وأمام هذا الـتآمر المستمر على فلسطين وقضيتها، وعلى كل هبة مخلصة فيها، لا بد لأهل فلسطين أن يصدعوا بإسلامية القضية، وبطابعها العسكري الذي يتطلب تحريك الجيوش، وإبراز بعدها السياسي الذي يتطلب فضح المؤامرات وشحن الأمة ضد الحكام المتخاذلين والمتآمرين عليها. وهذا كله يوجب على أهل فلسطين الالتحام مع ثورة الأمة نحو الخلافة الراشدة الثانية، التي تقضي على الاحتلال اليهودي وعلى كل وجود استعماري.

وسوم: العدد 647