برامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تنشر البطالة والأمّية والمرض والجوع في مصر وتنقل ثرواتها إلى البنوك الغربية (98)

(كانت تدابير صندوق النقد الدولي أساسا "إجراءات تقشفية". وقد تجلّى ذلك بوضوح من خلال المراسيم التي صدرت من قبل الحكومة لتثبت لصندوق النقد الدولي أنها جادة في تبنّي الإصلاحات "المطلوبة" المنصوص عليها في صندوق النقد الدولي، وتضمنت زيادات متتالية في أسعار الكهرباء، واسطوانات الغاز، والغاز الطبيعي وزيت التدفئة والزيت المستخدم في محطات الكهرباء. ووفقا للإصلاحات التي وافق صندوق النقد الدولي فأن تدابير التقشف هذه سوف تكون عنيفة في غياب شبكات الأمان الاجتماعي، وما عُرف عن شروط صندوق النقد الدولي الكلاسيكية من تخفيض قيمة العملة ، وستكون لها آثار ضارة شديدة على تكاليف المعيشة لغالبية المصريين بالنظر إلى أن مصر تستورد نحو 40 في المائة من الغذاء وأكثر من 60 في المائة من القمح، وأن المصريين ينفقون حوالي 40 في المائة من دخلهم على الغذاء)

الباحث الاقتصادي

محمّد مسلّم

(إذا لم تتم مقاومة برامج صندوق النقد الدولي، فأنها تهدد بإلغاء إنجازات الانتفاضة المصرية. إن عقودا من التجربة المصرية الليبرالية الجديدة توضح بجلاء، إن هذه التدابير سوف تقوم بتعميق الفقر، والعوز، وتآكل مستويات المعيشة للغالبية العظمى من الشعب. في الوقت نفسه، فإن التدفقات المالية ستساعد على تعزيز وتوطيد سيطرة النخب التجارية والعسكرية المصرية الضيقة بصفتها الطبقة الوحيدة في المجتمع المستفيدة من المزيد من تحرير الاقتصاد. التوسع في الشراكات بين القطاعين العام والخاص، على سبيل المثال، سوف يوفر فرصا هائلة لأكبر المجموعات التجارية في البلاد لشراء حصص الملكية في مشاريع البنية التحتية الكبرى وغيرها من قطاعات الخدمات المخصخصة)

الباحث الاقتصادي

آدم هنيّة

 

 

المحتوى

_______

(مصر قبل 2011: برامج صندوق النقد: آثار اجتماعية سيئة وهزالة في النمو الاقتصادي - تلفيقات بيانات صندوق النقد الدولي - الصندوق يلغي دعم الحكومة المصرية للغذاء مع ارتفاع اسعاره في العالم - مصر ما بعد 2011 : الصندوق يعود إلى سياساته قبل 2011 برغم تصريحاته الكاذبة - وهذه هي الإصلاحات "الجديدة": زيادة اسعار الكهرباء والبنزين والغاز وزيت التدفئة وتخفيض العملة وإلغاء دعم الغذاء للفقراء - تخفيض الصندوق للعملة الوطنية مفتاح زيادة الأسعار والتضخم وتدمير الاقتصاد وإشعال الاحاجاجات الشعبية - الصندوق يواصل تدمير الشعب المصري: تخفيض الأجور (البطالة) وميزانيات التعليم (الأمية) والصحة (المرض) والخبز (الجوع) - صندوق النقد الذي دعم نظام مبارك يواصل مشروعه بعد الانتفاضة لدعم الإنتقال إلى الحرّية والديمقراطية! - مواصلة سلب ثروات مصر تحت غطاء دعم الفقراء وتحقيق الديمقراطية - تسريع "الإصلاحات" الهيكلية الاقتصادية لصندوق النقد [الخصخصة وبيع القطاع العام وإلغاء الدعم ..إلخ] شرط تقديم القروض لمصر - "سيادة القانون" و"اللامركزية" و"الحكم الرشيد" و"الديمقراطية" لإلغاء أي دور للدولة في السوق - الرقابة الديمقراطية على الاقتصاد انتهاك للحرية والحكم الرشيد ؛ الصندوق الدولي: بوعزيز أحرق نفسه من اجل حرّية السوق - برامج صندوق النقد للتكيف الهيكلي وقروضه ستنقل الثروة من مصر إلى البنوك الغربية ؛ ديون مصر 35 مليار دولار تدفع 3 مليارات دولار سنويا كفوائد عنها - قروض الصندوق والبنك الدولي يستفيد منها الفاسدون ويدفعها فقراء مصر - أوباما : القروض يجب أن تُستخدم بموافقة الحكومة الأمريكية - مؤسسات التدمير الاقتصادي تتكاثر كرؤوس الشياطين وكلها تريد نهب ثروة مصر : مؤسسة أوبيك الأمريكية - رأس شيطان آخر يريد نهب ثروة مصر: البنك الأوروبي لإنشاء والتعمير - استنتاج: برامج صندوق النقد ستجهض إنجازات الانتفاضة المصرية - رأس المال الخليجي يشارك في خطة التدمير وتصفية القطاع العام في مصر – مصادر هذه الحلقات)

 

يتناول الباحث الاقتصادي "محمّد مسلّم" في دراسته المهمة : "صندوق النقد الدولي والعالم العربي : دروس غير مستفادة" وبدقة حال مصر قبل انتفاضتها عام 2011 وبعدها من خلال تحليل سلوك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمؤسسات المالية الغربية الأخرى قبل وبعد عام 2011 في سعيها لتدمير اقتصاد مصر ونهب ثرواتها وإفقار الشعب المصري :

مصر قبل 2011: برامج صندوق النقد: آثار اجتماعية سيئة وهزالة في النمو الاقتصادي

___________________________________________________

"مثل نظيراتها العربيات، واجه الاقتصاد المصري أزمة شديدة بحلول نهاية الثمانينات ، استند النمو في السبعينات  إلى نموذج الاقتصاد الريعي الذي يعتاش على إيجارات في شكل مساعدات وتحويلات المهاجرين المالية وعائدات النفط وعائدات قناة السويس. مع انهيار أسعار النفط العالمية في الثمانينات، لم يعد بإمكان هذا النموذج من النمو أن يستمر. وخلال الجزء الأخير من العقد، واجهت مصر مشكلة دين خارجي كبرى ، وارتفاعا في معدلات التضخم، واختلالا في توازن ميزان المدفوعات. جلبت مشاركة مصر في حرب الخليج عام 1990 تخفيفا كبيرا من عبء الديون الضخمة وحزمة برامج إقراض مصممة لتحرير الاقتصاد اقترحها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. في عام 1991، وقّعت مصر على قرض التكييف الهيكلي مع صندوق النقد الدولي ، وبدأ تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي. تضمنت المرحلة الأولى من برنامج الإصلاح فترة سريعة من الاستقرار انخفض فيها العجز المالي بشكل كبير، وانخفض معدل التضخم، واستقر سعر الصرف الإسمي nominal exchange rate (عدد وحدات العملة المحلية التي يمكن أن تشتري بها عملة أجنبية). وعلى الرغم من أن مصر اتبعت توصيات صندوق النقد الدولي، وشرعت في تحرير التجارة والخصخصة ، فإن النمو الذي تحقق في التسعينات كان ، على غرار بلدان عربية أخرى طبقت برامج صندوق النقد الدولي ، قائما على الطلب المحلي، وليس على التصدير.

برنامج الاستقرار السريع الذي رُوّج له من قبل صندوق النقد الدولي واستغرق النصف الأول من التسعينات ، حصل قبل ان تعدّ الحكومة نفسها لتحسّس قضية الفقر. وحسب مؤشرين من مقاييس الفقر، حساب خط الفقر الوطني ومقياس 2 دولار أمريكي في اليوم ، تفاقم الفقر بين 1990-1991 و1995-1996 . ومن ثم، كان من الواضح أنه تم اتخاذ قرار الضغط من أجل تحرير الاقتصاد على الرغم من الآثار الاجتماعية السلبية المباشرة، مع توقع أن النمو الاقتصادي في نهاية المطاف سوف يكون هزيلا. في النصف الثاني من التسعينات ، اعتُبرت مصر التلميذ الأنموذج لتوافقات واشنطن [برامج صندوق النقد والبنك الدولي] حيث أظهرت معدلات النمو واتجاهات الفقر إشارات إيجابية. خلص تقييم من قبل صندوق النقد الدولي في عام 2010 إلى أن "التقديرات تشير إلى حصول نمو قوي خلال 2005-2008  ساهم في انخفاض بنسبة 14 في المائة في نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر في مصر.

تلفيقات بيانات صندوق النقد الدولي

____________________

ومع ذلك، فإن التدقيق القريب في البيانات يكشف واقعا مختلفا .فوفقا لبعض الباحثين الاقتصاديين الذين أجروا دراساتهم في عام 2015 ، هناك ثلاث ملاحظات حول النمو الذي حدث في تلك الفترة يجب أن تؤخذ بالإعتبار . أولا، على الرغم من توقعات إجماع واشنطن بأن الاستقرار الكلي ورفع القيود من شأنه أن يحفز النمو التصديري،  فإن النمو المصري في الواقع كان مدفوعا إلى حد كبير بالاستثمارات العامة في مشاريع البنية التحتية الضخمة. ثانيا، النمو التصديري، وبخاصة النمو التصديري التصنيعي الذي يخلق الوظائف ، كان متواضعا. بقيت استثمارات القطاع الخاص ثابتة على نحو 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وبقيت الصادرات مستقرة عند حوالي 21 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وظل خلق الوظائف والأعمال متخلفا عن الإضافات إلى القوى العاملة، في حين أصبح العمل "غير رسمي" على نحو متزايد . ثالثا، ظل ميزان المدفوعات يعتمد على الموارد القديمة، مثل عائدات قناة السويس وتحويلات العاملين في الخارج.

وبمقارنة الاتجاه التصاعدي في نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 2000 – 2009 مع الارتفاع المقابل في فقر الدخل (عندما يفشل دخل العائلة في الوصول إلى معدل الدخل الذي تحدده الدولة) يسلط الضوء على وجود مشكلات جوهرية في طبيعة النمو الاقتصادي في مصر. على سبيل المثال، على الرغم من أن متوسط ​​معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي الإسمي بلغ4.5  في المائة على مدى السنوات الأربع حتى عام 2009، فإن هذه المعدلات لم تسهم في تخفيض فقر الدخل. وعلاوة على ذلك، إذا كان أحد يعتقد بأن توزيع الدخل في مصر، كما يُقاس حسب معامل جيني Gini coefficient ، قد تحسن بصورة طفيفة خلال العشر سنوات الأخيرة، فمن المتوقع أن يكون نمو البلاد أكثر عدالة وإنصافاً. ولكن حتى الآن لم يكف فقر الدخل عن الارتفاع في مصر منذ عام 2000 .

الصندوق يلغي دعم الحكومة المصرية للغذاء مع ارتفاع اسعاره في العالم

__________________________________________

وخلال هذه المرحلة، يبدو أن صندوق النقد الدولي قد تجاهل هذه الإشارات الواضحة على الانحدار، واستمر على وصفات السياسة نفسها على الرغم من الآثار السلبية على المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية في الاقتصاد المصري. في أبريل نيسان 2010، أوصى صندوق النقد الدولي بتعزيز التدابير التقشفية لاحتواء الإنفاق العام على الأجور ودعم الغذاء والوقود في الوقت الذي تواجه فيه البلاد ارتفاع أسعار المواد الغذائية بسبب تذبذب الأسعار العالمية. وفي الواقع ، قبل أشهر من اندلاع الثورة في عام 2011، كان صندوق النقد الدولي يشيد بالأداء الاقتصادي في مصر، وكذلك بالإدارة السليمة للاقتصاد الكلي والإصلاحات الهيكلية.

مصر ما بعد 2011 : الصندوق يعود إلى سياساته قبل 2011 برغم تصريحاته الكاذبة

_________________________________________________

على الفور تقريبا بعد الثورة، أطلقت شراكة دوفيل في قمة الثمانية في مايو 2011 والتي قدمت لمصر إطارا واستراتيجية للتحول الاقتصادي الذي ستقوده المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير والبنك الأوروبي للاستثمار.

مرة أخرى، ومثلما حصل في البلدان العربية الأخرى التي خضعت لبرامج صندوق النقد الدولي "الإصلاحية" ، كان صندوق النقد الدولي في البداية يوفّر الأرضية للتفاؤل ارتباطا بدوره الجديد في مصر في الأيام الأولى التي أعقبت ثورة عام 2011. أقر صندوق النقد الدولي أن تقديم المشورة بشأن السياسات السابقة والثناء على الأداء المصري كانت في غير محلها في الماضي ، وبدت بياناته وكأنها إشارة إلى وجهة نظر مختلفة جدا في الإتجاه نحو المستقبل. على سبيل المثال أعلن عدنان مازاري ، نائب مدير قسم الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق، أن دعم الوقود في مصر كان خطوة تراجعية وينبغي الاستعاضة عنها بتحويلات موجهة جيدا لمصلحة الفقراء. وقال مازاري أن استبدال دعم الوقود الذي يعود بالفائدة في المقام الأول على الأغنياء، بشبكات أمان اجتماعية قوية للفقراء من شأنه أن يؤدي إلى إعادة توزيع الثروة بطريقة من شأنها أن تساعد بدورها على تخفيف احتمالات الاضطرابات الاجتماعية الناجمة عن إيقاف الدعم. كما بدا كأن صندوق النقد الدولي قد تبنى دعم التعليم والإنفاق على الرعاية الصحية كمقدمات للنمو الاقتصادي . في الواقع، فإن موظفي صندوق النقد الدولي قد أوصوا "بتحويل موارد الميزانية إلى الاستثمار في البنية التحتية، والتعليم، والصحة لتحسين آفاق النمو والنتائج الاجتماعية في مصر".

في نهاية المطاف، عندما تشارك صندوق النقد الدولي مع الحكومة المصرية، أظهرت السياسات التي روّج لها القليل جدا من الاتساق مع المطالبات الواردة أعلاه. بدأت المفاوضات للحصول على قرض جديد لمصر من صندوق النقد الدولي الجديد في منتصف عام 2011 خلال زيارات بعثة صندوق النقد الدولي للبلاد. حصل اتفاق بصورة أولية بين الحكومة وصندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 3  مليار دولار يوم 5 يونيو عام 2011، ولكن ووجه باحتجاجات من المجتمع المدني احتجاجا وانقسامات في الرأي العام على العواقب الاقتصادية المترتبة على الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي. تفاصيل مُسرّبة حول الخطة الاقتصادية المتفق عليها قوبلت بمعارضة متزايدة ، وفي نهاية المطاف، أعلنت السلطات المصرية أن الخطط لقبول القرض قد أسقطت، مع إعلان من واحد من المستشارين إلى أن هذا كان نتيجة "ضغط الرأي العام".

وهذه هي الإصلاحات "الجديدة": زيادة اسعار الكهرباء والبنزين والغاز وزيت التدفئة وتخفيض العملة وإلغاء دعم الغذاء للفقراء

_____________________________________________________

التدابير التي تم التفاوض بشأنها مع صندوق النقد الدولي وتمت الموافقة عليها في الاتفاق المبدئي الذي تم التوصل إليه كانت أساسا "إجراءات تقشفية". وقد تجلّى ذلك بوضوح من خلال المراسيم التي صدرت من قبل الحكومة لتثبت لصندوق النقد الدولي أنها جادة في تبنّي الإصلاحات "المطلوبة" المنصوص عليها في صندوق النقد الدولي. وتضمنت هذه المراسيم زيادات متتالية في أسعار الكهرباء، واسطوانات الغاز ، والغاز الطبيعي وزيت التدفئة والزيت المستخدم في محطات الكهرباء. ووفقا للإصلاحات التي وافق صندوق النقد الدولي عليها يجري التخطيط لخفض عجز الميزانية بنسبة 20 في المائة في السنة المالية التالية والعجز في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5 في المائة في 2016/2017، مما يدل بوضوح على أن تدابير التقشف سوف تكون عنيفة. في غياب شبكات الأمان الاجتماعي، فإن هذه التدابير، إلى جانب ما كان متوقعا، عن شروط صندوق النقد الدولي الكلاسيكية من تخفيض قيمة العملة ، ستكون لها آثار ضارة شديدة على تكاليف المعيشة لغالبية المصريين. وبالنظر إلى أن مصر تستورد نحو 40 في المائة من الغذاء وأكثر من 60 في المائة من القمح، وأن المصريين ينفقون حوالي 40 في المائة من دخلهم على الغذاء، فإن آثار الارتفاع المتوقع في الأسعار بسبب الضغوط التضخمية يمكن استنتاجها بسهولة. تعليق مقترحات قرض صندوق النقد الدولي جنبا إلى جنب مع الاضطرابات الاجتماعية الناجمة عن ذلك ، يعني أنه قد تم تأجيل هذه التدابير.

في يونيو 2012، عادت الحكومة المصرية إلى صندوق النقد الدولي مع طلب رسمي هذه المرة لاستئناف المفاوضات على قرض، وهذه المرة بمقدار جديد هو 4.8 مليار دولار. تم التوقيع على الاتفاق المبدئي في نوفمبر 2012، وتضمن مجموعة من تدابير التقشف التي طرحها صندوق النقد الدولي مرة أخرى باعتبارها خطة للإصلاح الاقتصادي. وكانت الخطة ذات أهداف غير واقعية بشكل كبير في التخفيض الهائل لعجز الميزانية من حدّ متوقع بنسبة 12 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 10.9 في المائة في السنة المالية الحالية و 7.7 في المائة بحلول 2014/2015 . وكانت القضية الأكثر إثارة للجدل في الحزمة هي قضية إعانات الوقود، حيث خططت الحكومة لبدء التقنين في يوليو من عام 2013. وقد جاء هذا في سياق آخر، حيث وفقا لوزير النفط في ذلك الوقت، شهدت الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2013 بداية أزمة الديزل مع نقص الوقود وبلغت ذروتها في شهر مارس، في موسم الحصاد. أدى هذا النقص إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية بزيادات تتراوح بين 7 في المائة إلى 30 في المائة. وقد أدى هذا الحرمان إلى اشتباكات عنيفة في عدة محافظات مع طوابير طويلة من المواطنين تكافح من أجل الحصول على حصة من الكميات المحدودة المتاحة. وكان من المتوقع أن تكون لهذه الظروف عواقب اجتماعية واقتصادية خطيرة بالنظر لعدم وجود أي ضوابط للأسعار أو أي حماية اجتماعية.

وفيما يتعلق بضريبة الدخل، تم إجراء تغييرات طفيفة على التخلي عن السياسة الضريبية الكلاسيكية الجديدة المعتمدة في الخطة الجديدة برعاية صندوق النقد الدولي، لأنها تهدف للحد من عدد محدودي الدخل المعفيين من الضريبة ، وفرض معدل ضريبة متماثل على شريحة اجتماعية واسعة برغم التباين الكبير في مستويات الدخل. بدلا من تطبيق ضرائب تصاعدية على الفئات ذات الدخل المرتفع، ظل المعدل هو 25 في المائة فقط بالنسبة للأفراد في حين تم تحديد معدل موحد لجميع الشركات هو 25 في المائة. وهكذا، فإن الخطة نفسها كانت دالّة جدا على أن سياسة صندوق النقد الدولي الجديدة هي وصفات من الماضي تتألف من مجموعة من تدابير التقشف التي تهدف فقط إلى تحقيق خفض العجز وتجديد الاحتياطيات.

تخفيض الصندوق للعملة الوطنية مفتاح زيادة الأسعار والتضخم وتدمير الاقتصاد وإشعال الاحاجاجات الشعبية

__________________________________________________

تم تأجيل برنامج صندوق النقد الدولي هذا مرة أخرى ؛ هذه المرة بسبب عدم الاستقرار السياسي الذي أثاره الإعلان الدستوري للرئيس محمّد مرسي في نوفمبر تشرين الثاني عام 2012. وعلى الرغم من هذا التأجيل، فإن العديد من التدابير الاقتصادية المرتبطة بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي بقيت في مكانها ، مما أثار عددا قياسيا من الاحتجاجات والإضرابات في الأشهر التالية. على سبيل المثال، أذعن البنك المركزي المصري لضغوط صندوق النقد الدولي ولجأ إلى تخفيض قيمة العملة. وأدى ذلك إلى فقدان الجنيه المصري ما يقارب  من 10 في المائة من قيمته منذ مطلع كانون الثاني، وانعكس ذلك لاحقا في زيادة مفاجئة في أسعار السلع الأساسية. وفي حين أعلن البنك المركزي أن التضخم كان في حدود 8.7 في المائة في ذلك الوقت، فإن مسؤولين من قسم الأغذية في غرفة التجارة أشاروا إلى أن 17 في المائة كانت هي النسبة الأكثر دقّة للتضخم. مع مراعاة أن الوفورات قد انخفضت إلى حدّ 6.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي وأن 5،57%  من المصريين لا يحصلون على ما يكفيهم لتغطية احتياجاتهم الأساسية، فإن أزمة اجتماعية واقتصادية خطيرة كانت تختمر. حصلت تطورات سياسية هامة في مصر خلال الستة أشهر اللاحقة التي شهدت في نهاية المطاف عودة الحكم العسكري. بقي التزام صندوق النقد الدولي قويا كما هو موضح في تقرير صندوق النقد الدولي في أكتوبر 2013 ، حيث استلزمت الاستراتيجية المتوسطة الأجل : تعزيز دور القطاع الخاص لإطلاق الإمكانات الاقتصادية غير المستغلة في مصر واستعادة السيطرة على النفقات العامة، بما في ذلك إصلاح إعانات دعم الطاقة واحتواء فاتورة الأجور.

جاء التطور الكبير الآخر في عام 2014 عندما قرّر الرئيس المنتخب عبد الفتاح السيسي تنفيذ  إصلاح اقتصادي "راديكالي" أقرّه صندوق النقد الدولي في محاولة لبدء خفض  العجز المالي السنوي. شرع الرئيس السيسي خفض دعم البترول بنسبة 30.4 مليار جنيه ( 4.3 مليار دولار) في يوليو 2014 . تم الإعلان عن ارتفاع في أسعار الطاقة بعد أيام بعد الموافقة على الموازنة وقد قُدّرت الزيادات بحدود من 40 إلى 80 في المائة. وشملت هذه الزيادات في الأسعار أسعار البنزين وأسعار الديزل، وأسعار زيت الوقود، وأسعار الغاز الطبيعي، وزيادة في أسعار الكهرباء للأسر وللقطاع التجاري. هذه التدابير كانت بداية لخطة من قبل الحكومة للتحرير الكامل لأسعار الطاقة مع 2018/2019. وتضمنت الخطة أيضا استهداف تقليص الدعم للمواد الغذائية إلى نحو 3 مليارات جنيه (4،0 مليار دولار). الأثر المباشر لقطع الإعانات هذا كان زيادة التكاليف التشغيلية لصغار المزارعين وزيادة تكلفة وسائل النقل العام التي تُستخدم أساسا من قبل المصريين من الفئات الاجتماعية الاقتصادية الدنيا . الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أعلن أن أسعار الخضر زادت بنسبة 7.4 في المائة ، وأن أسعار وسائل النقل ارتفعت بنسبة  11.2 في المائة في يوليو، عندما انفجر رفع أسعار الطاقة. وعلاوة على ذلك، فإن الديزل هو أكثر المنتجات النفطية استهلاكا، و 80-85 في المائة منه يُستخدم من قبل قطاع السلع والخدمات . تدابير التعويض لخفض الدعم كان تأثيرها محدودا، خصوصا أنها كانت تدابير مخصصة التأثير، لا تكفي لحماية الأجور وتخفيف التضخم في الأسعار.

أشاد صندوق النقد الدولي بهذه التطورات مع مسعود أحمد الذي علق في مايو 2015 أن جهود الحكومة لخفض عجز الموازنة وتحفيز النمو الاقتصادي بدأت تؤتي ثمارها، وإن كانت هناك حاجة لتدابير أكثر. صندوق النقد الدولي نشر آخر تقرير عن المادة الرابعة الخاصة بمصر في فبراير عام 2015، أصبح من الواضح تماما أنه تم اعتماد نفس السياسة والنهج السابق في مرحلة ما قبل 2011. ووفقا لصندوق النقد الدولي، "فإن التدعيم المالي سوف يؤدي إلى تقليص العجز في الميزانية أقل من 8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في 2018/2019 ووضع الدين الحكومي على مسار تنازلي. التعديل تم تصميمه للحفاظ على النمو والشمولية. كان يمكن أن تكون هذه العبارة مقتطفة بسهولة من أي من تقارير المادة الرابعة في 2008 و 2009 أو 2010. . والواقع انه من اللافت للنظر أن كل التدابير المقترحة كانت تدور إلى حد كبير حول نمو القطاع الخاص، والتقشف المالي، والضرائب التراجعية وتحرير التجارة.

الصندوق يواصل تدمير الشعب المصري: تخفيض الأجور (البطالة) وميزانيات التعليم (الأمية) والصحة (المرض) والخبز (الجوع)

___________________________________________________

وآخر مظهر من تكرار سياسات إجماع واشنطن ما قبل 2011 بالدعم والتشجيع من قبل صندوق النقد الدولي في مصر يمكن أن تُستمد من أحدث ميزانية للدولة  لعام 2015/2016 التي أُعلنت في يوليو عام 2015. ومن الجدير بالذكر أن هذه الميزانية نجحت كالميزانية الأكثر تقشفا منذ ثورة يناير 2011 . في ميزانية الدولة لعام 2014/2015 ، ارتفع الإنفاق العام بنسبة أقل من 5 في المائة مقارنة بـ 17 و 24 في المائة في الميزانيتين الأخريين اللتين تمت الموافقة عليهما بعد انتفاضة 2011 على التوالي. وفقا لبيان نُشر على موقع وزارة المالية ، تهدف الموازنة الجديدة إلى تبني المزيد من السياسات الانكماشية عن طريق الحد من: (أ) الأجور في القطاعين العام بمقدار 10 مليار جنيه. (ب) ميزانية التعليم بمقدار 4 مليار جنيه مصري. (ج) ميزانية الصحة بمقدار 2 مليار جنيه. و (د) خفض الدعم عن الخبز وتقنين البضائع بمقدار 650 مليون جنيه.  وهذا يعني عمليا أن الأجور ومخصصات التعليم سترتفع بمعدل أقل من معدل التضخم الذي من المتوقع أن يتذبذب ما بين 10 و 11 في المائة وفقا لوزارة المالية (لاحظ أنه لشهر مايو بلغت نسبة التضخم 13.1 في المائة). والهدف من هذه التدابير التقشفية العنيفة هو ضبط الأوضاع المالية العامة لجعل عجز الموازنة دون ثمانية في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على النحو الموصى به من قبل صندوق النقد الدولي.

وكما يقول أحد الخبراء الاقتصاديين وهو يصف الحالة الراهنة للاقتصاد المصري:

"النموذج الاقتصادي نفسه الذي كان سائدا في ظل حسني مبارك أعيد إنشاؤه إلى حد كبير ...  تم تخفيض الإعانات عن عموم السكان ، بدون التعويض من خلال سياسات اجتماعية للتخفيف من ارتفاع الأسعار الذي يواجهه المصريون العاديون الآن. وقد أظهر النظام عدم القدرة أو عدم الرغبة العامة لإدخال الضريبة التصاعدية على أصحاب الممتلكات ورؤوس الأموال، مما يجعل من الممكن إعادة توزيع الدخل وتحسين نوعية الخدمات العامة في مجالات مثل الرعاية الصحية والتعليم. مع ذلك، فإن نفس أنماط التهميش الاقتصادي والاجتماعي التي كانت موجودة قبل ثورة عام 2011 تمّ إعادة أنتاجها الآن.

وأخيرا، فإن أي ذكر لسياسات توسعية / تقدمية للحدّ من عدم المساواة وللاستثمارات والتدابير التنظيمية لتطوير القطاعات الإنتاجية ونظام الرعاية الاجتماعية لم يحصل في تقارير صندوق النقد الدولي. وهذا ما يدحض بوضوح مزاعم صندوق النقد الدولي الخاصة بتغيير نهجه عن مرحلة ما قبل "2011.

صندوق النقد الذي دعم نظام مبارك يواصل مشروعه بعد الانتفاضة لدعم الإنتقال إلى الحرّية والديمقراطية!

_________________________________________

يقول الباحث "آدم هنيّة" في مقالته : "الديون و "الديمقراطية" في مصر: الإصلاحات الاقتصادية القاتلة لصندوق النقد الدولي" (الأبحاث العالمية، 31 مايو 2011) :

(على الرغم من أن التغطية الصحفية للأحداث في مصر قد أُسقطت من الصفحات الأولى، فإن مناقشة مرحلة ما بعد مبارك ما زالت تسيطر على الأخبار المالية.

خلال الأسابيع القليلة الماضية، كان الاتجاه الاقتصادي في الحكومة المصرية المؤقتة موضع نقاش حاد في البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير. خطاب مايو للرئيس الاميركي اوباما حول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خصص مساحة كبيرة لمسألة مستقبل مصر الاقتصادي - في الواقع، السياسة الملموسة الوحيدة المُقدمة في حديثه كانت عن العلاقات الاقتصادية الأمريكية مع مصر. اجتماع الثمانية الكبار الذي عُقد في فرنسا يومي 26 و 27 مايو واصل هذا الاتجاه، معلنا أن ما يصل إلى 20 مليار دولار أمريكي ستُعرض على مصر وتونس. وعندما يؤخذ الدعم من دول الخليج العربية مع هذه الأرقام، فإن مصر وحدها على ما يبدو على وشك تلقّي حوالي 15 مليار دولار من القروض والاستثمارات والمساعدات من الحكومات والمؤسسات المالية الدولية الرئيسية.

البيانات الصحفية المرافقة للإعلان عن هذه الحزم المالية تحدّثت بشكل رائع عن "الانتقال إلى الديمقراطية والحرية"، والتي، كما لاحظ العديد من المحللين، قامت بالتعتيم على الدعم السابق للحكومات الغربية للديكتاتورين السابقين المخلوعين في تونس ومصر. وترى هذه المقالة، مع ذلك، أن نقد هذه الحزم المالية يحتاج إلى أن يُنظر إليها على أنها أكثر بكثير من مجرد دليل آخر على النفاق الغربي. العدد الكبير من مبادرات المساعدات والاستثمارات التي تقدمت بها القوى الكبرى في الأيام الأخيرة يمثل محاولة واعية لتوطيد وتعزيز قوة الطبقة المسيطرة في مصر في وجه التعبئة الشعبية الجارية. هي ، بعبارة أخرى ، جزء من جهد متواصل لكبح جماح الثورة داخل حدود ما سُمّي بـ "الانتقال المنظم" - باستعارة العبارة الدقيقة التي تستخدمها حكومة الولايات المتحدة مرارا وتكرارا في أعقاب الإطاحة بالرئيس مبارك.

مواصلة سلب ثروات مصر تحت غطاء دعم الفقراء وتحقيق الديمقراطية

________________________________________

في صميم هذا التدخل المالي في مصر، هناك محاولة لتسريع البرنامج النيوليبرالي الذي سار عليه نظام مبارك. الحزم المالية للمؤسسات المالية الدولية تتظاهر بتعزيز تدابير مثل "خلق فرص العمل، وتوسيع البنية التحتية"، وغيرها من الأهداف التي تبدو جديرة بالثناء، ولكنها، في الواقع، ترتكز على سياسات الليبرالية الجديدة الكلاسيكية في الخصخصة، وإلغاء القيود والانفتاح على الاستثمار الأجنبي. وعلى الرغم من المطالبات بالتحول الديمقراطي، يجري تشكيل مؤسسات الدولة المصرية في هذه الحملة الليبرالية الجديدة باعتبارها آلية مساعدة لسياسة السوق المفتوحة. مصر، في نواح كثيرة، تُشكل كمختبر مثالي لما يُسمى ما بعد توافقات واشنطن، حيث يُستخدم خطاب ليبرالي رنّان "موالي للفقراء" – يُربط بصورة أساسية بالخطاب عن الديمقراطية - لتعميق مسار الليبرالية الجديدة الذي طُبق في عهد مبارك. وفي حال نجاحه، فإن النتيجة المحتملة لهذا - وخصوصا في مواجهة التعبئة السياسية المتزايدة والتوقعات التي لم تتحقق للشعب المصري - هو مجتمع في المستوى السطحي يمتلك بعض المظاهر المحدودة لشكل الديمقراطية الليبرالية، ولكن في واقع الأمر، يبقى دولة نيوليبرالية استبدادية بشكل كبير يُسيطر عليها من قبل تحالف النخب العسكرية والتجارية.

تسريع "الإصلاحات" الهيكلية الاقتصادية لصندوق النقد [الخصخصة وبيع القطاع العام وإلغاء الدعم ..إلخ] شرط تقديم القروض لمصر

______________________________________________

أهم نقطة تُلاحظ حول حزم المساعدات الموعودة لمصر هو أنها لا تمثل بأي حال من الأحوال خروجا عن المنطق الذي غلف الاستراتيجيات الاقتصادية السابقة للمنطقة. في تقرير إلى قمة الثمانية في 26-27 مايو، لخص صندوق النقد الدولي هذا المنطق بشكل واضح ، مشيرا إلى أن:

"التغلب على البطالة يتطلب زيادة كبيرة في وتيرة النمو ... تحقيق معدلات النمو الاقتصادية هذه يستوجب استثمارات إضافية وتحسين الإنتاجية. في حين أن بعض الزيادات في الاستثمارات العامة قد تكون مطلوبة، على سبيل المثال لتحسين جودة البنية التحتية والخدمات في المناطق الريفية الأقل نموا، فإن الدور الرئيسي يجب أن يُلعب من قبل القطاع الخاص، بما في ذلك من خلال جذب الاستثمار الأجنبي المباشر. وبالتالي، ينبغي للسياسات الحكومية دعم بيئة تمكينية يزدهر فيها القطاع الخاص".

والحجّة الأساسية الواردة في هذا البيان هي في جوهرها نفس الرسالة التي عمل من أجلها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على مدى عقود من التقارير عن الاقتصاد المصري والشرق الأوسط. مشاكل مصر تنبع من ضعف القطاع الخاص و"البحث الريعي" من قبل المسؤولين في الدولة. والحل هو فتح أسواق مصر أمام العالم الخارجي، ورفع القيود المفروضة على الاستثمار في القطاعات الرئيسية للاقتصاد، وتحرير قوانين الملكية، وإنهاء الإعانات المقدمة للفقراء لدعم الأغذية وغيرها من الضروريات، وزيادة المنافسة في السوق. ومن خلال السماح للأسواق غير المقيدة بالعمل بحرية، فإن القطاع الخاص سيكون هو المحرك الرئيسي للنمو، الذي - من خلال استغلال هذه المبادرة الريادية - سيؤدي إلى خلق فرص عمل وازدهار.

بالطبع هذه الأفكار هي مجرد إعادة صياغة للقواعد الأساسية لليبرالية الجديدة، ولكن لا بد من الاعتراف باستمراريتها مع الخطط السابقة - المساعدات الموعودة لمصر تهدف بوعي إلى تحقيق نتيجة محددة في إطار استراتيجية النيوليبرالية السابقة. وقد وردت آثار سياسية ملموسة أكثر وضوحا من هذا في تقرير البنك الدولي الأبرز الذي نُشر في عام 2009: "من الامتيازات إلى المنافسة: إطلاق نمو يقوده القطاع الخاص في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". يصف التقرير الخطوات التي ينبغي اتخاذها من قبل جميع الحكومات في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك "(1) فتح القطاعات المحمية مثل التجزئة والعقارات، والتي توجد فيها قيود أمام المستثمرين الأجانب ... (2) الحد من قيود الحواجز الجمركية وغير الجمركية. (3) إزالة الحماية عن الشركات المملوكة للدولة من خلال فرض قيود الميزانية الصلبة وتعريضها للمنافسة المفتوحة؛ و (4) القضاء على التحيزات المضادة للتصدير. "من أجل تشجيع الاستثمار الأجنبي، يجب على الحكومات القضاء على المتطلبات على رأس المال والقيود على الملكية الأجنبية ، وفي البلدان التي فيها بنوك مملوكة للدولة يجب الانخراط في خصخصة مفتوحة وشفافة".

 هذه هي أنواع السياسات التي يمكن أن نتوقع رؤيتها في مصر مع بدء تدفق هذه المساعدات - في الواقع، هي الشروط الأساسية المسبقة لتلقي هذا الدعم المالي. سوف تناقش آليات هذه الشروط لاحقا، في هذه المرحلة، من المهم أن نلاحظ أن هناك ارتباطا لا يمكن تعويضه بين المساعدات وتحقيق الإصلاحات النيوليبرالية. وكما لاحظ معهد التمويل الدولي، وهي منظمة سياسة ولوبي يجمع أكبر المؤسسات المالية في العالم، في أوائل شهر مايو: "في ظل التحديات الأمنية المصيرية الراهنة ، من الأهمية بمكان أن تعطي السلطات الانتقالية ... أولوية عالية لتعميق وتسريع الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية ... يجب على الحكومات الانتقالية واللاحقة التعبير عن إطار إصلاح موثوق على المدى المتوسط وإطار للاستقرار.. وبحاجة إلى التركيز على خلق البيئة القانونية والمؤسسية لتعزيز روح المبادرة والاستثمار ، والنمو القائم على السوق". وذهب معهد التمويل الدولي إلى التحديد بصراحة أن هذا التسارع في التكيف الهيكلي هو " السياق " الذي ستقدم ضمنه المساعدات لمصر.

"سيادة القانون" و"اللامركزية" و"الحكم الرشيد" و"الديمقراطية" لإلغاء أي دور للدولة في السوق

____________________________________________

وبالإضافة إلى هذه الوصفات النيوليبرالية القياسية، فإن العنصر الآخر لمنطق سياسة توجيه الدعم المالي للمؤسسات المالية الدولية يتعلق بالإصلاح المؤسسي. هذا يعكس تحولا أوسع في الاستراتيجية التنموية للمؤسسات المالية الدولية منذ التسعينات ، حيث تم وضع المزيد من التركيز على ربط وظيفة الأسواق بالحكم المؤسسي. وفي هذا السياق، أكد البنك الدولي وغيره من المؤسسات على مفاهيم مثل "سيادة القانون"، "اللامركزية"، "الحكم الرشيد"، "الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية" وهكذا دواليك، والتي من المفترض أن تهدف إلى الحد من سلوك البحث عن المنافع لدى موظفي الدولة وضمان قدر أكبر من الشفافية في الشؤون الاقتصادية.

هذا التركيز على الإصلاح المؤسسي يعكس جزئيا مشكلة الإدراك التي تواجهها المؤسسات المالية الدولية. تم تصميم تبنّي قضايا "الحكم" و "الديمقراطية" بشكل واضح لضمان شرعية أكبر لليبرالية الجديدة، لا سيما في أعقاب العقود الكارثية في الثمانينات والتسعينات حيث الدعوة المفتوحة للتكيف الهيكلي عاثت فسادا في الكثير من بلدان الجنوب. هذا التحول في السياسة، مع ذلك، لا يمثل بدوره نقطة تحوّل عن المنطق النيوليبرالي. بدلا من ذلك، فإنه يخدم في الواقع تعزيز هذا المنطق، من خلال تكييف المؤسسات العامّة لاحتياجات القطاع الخاص وإزالة أي قدرة للدولة على التدخل في السوق. في الشرق الأوسط، حيث الأنظمة الاستبدادية هي القاعدة، فإن هذه الدعوات للإصلاح المؤسسي يمكن أن تُصور بسهولة بأنها ديمقراطية (وفي الواقع، وُضعت هذه الدعوات صراحة داخل خطاب الديمقراطية). في الحقيقة هي مناهضة للديمقراطية بصورة عميقة. عن طريق تقييد الديمقراطية بالمجال "السياسي" فقط وتوسيع مفهوم الحرية ليشمل "الأسواق"، فأنها تعتّم على العلاقات اللازمة في السلطة داخل السوق، وتعيق صراحة قدرة الدول على تحديد كيفية استخدام الملكية وتوزيع مواردها الاقتصادية. الرقابة الديمقراطية على الاقتصاد ستعتبر بالتالي انتهاكا للـ "الحكم الرشيد".

الرقابة الديمقراطية على الاقتصاد انتهاك للحرية والحكم الرشيد

الصندوق الدولي: بوعزيز أحرق نفسه من اجل حرّية السوق

_______________________________

في حالة مصر، فإن خطاب الإصلاح المؤسسي سمح للتكيف الهيكلي الليبرالية الجديد بأن يُقدّم ليس فقط باعتباره ضرورة تكنوقراطية ، ولكن على أنه الاستجابة الفعلية للمطالب الملحة للانتفاضات. بهذا المعنى، تحاول أيديولوجية الليبرالية الجديدة إعادة استيعاب وتشكيل صورة المعارضة الخاصة، من خلال تقديم الانتفاضات في مصر ضمن الخطاب المؤيد للسوق. وقد تم التأكيد على هذه الرسالة الجوهرية بشكل متكرر من قبل الولايات المتحدة والمتحدثين الأوروبي خلال الأسابيع الماضية : كان هذا ليس تمردا ضد عدة عقود من الليبرالية الجديدة - وإنما هي حركة ضد دولة تدخلية عرقلت السعي وراء المصلحة الذاتية الفردية من خلال السوق.

ولعل أبلغ مثال على هذا التحول المفاجئ هو البيان الذي أدلى به رئيس البنك الدولي "روبرت زوليك" في افتتاح اجتماع البنك الدولي حول الشرق الأوسط في منتصف ابريل نيسان. في اشارة الى محمد البوعزيزي، البائع المتجول الشاب في السوق التونسي الذي أشعل النار في نفسه وأصبح محفزا للثورة في تونس، قال زوليك :

"النقطة الأساسية التي تم التأكيد عليها سابقا وأؤكد عليها في هذا الحديث هو أن المسالة ليست مجرد مسألة مال. إنها مسألة سياسة ... لنضع في اعتبارنا، أن الدافع الأأساسي وراء قيام المرحوم السيّد "البوعزيزي" بحرق نفسه حيّاً هو أنه تعرّض لمضايقات الروتين ... نقطة البداية الرئيسية هي إنهاء مضايقة هؤلاء الناس والسماح لهم بفرصة لبدء بعض الأعمال الصغيرة".

الصورة رقم (1) الشهيد محمد بو عزيزي الذي اشعل استشهاده انتفاضة تونس

الشهيد محمد بو عزيزي الذي أشعل انتفاضة تونس

في إعادة الصياغة الخطابية هذه فإن الانتفاضات والاحتجاجات الحاشدة التي أطاحت بحسني مبارك وزين العابدين بن علي وقعت بسبب غياب الرأسمالية بدلا من أن تكون نتيجة لعملها الطبيعي. بالمعنى الأيديولوجي، إعادة الصياغة هذه تصدم بصورة مباشرة التطلعات الشعبية التي نشأت من خلال مسار النضال في مصر.

المطالب السياسية التي تُسمع في شوارع مصر اليوم - لاستعادة الثروات التي سُرقت من الشعب، وتقديم الدعم الحكومي والخدمات للفقراء، وتأميم تلك الصناعات التي تم خصخصتها، وفرض القيود على الاستثمار الأجنبي - يمكن إما تجاهلها أو تصويرها كسلوك "معادٍ للديمقراطية". وعلى وجه التحديد، لأن انتفاضة مصر كانت واحدة من الانتفاضات التي التحمت فيها المطالب السياسية والاقتصادية بصورة لا يمكن فصلها، فإن هذا الجهد الذي يهدف إلى إعادة صياغة النضال بكونه "مؤيّد للسوق" ، هو بالمعنى الحقيقي جدا ، محاولة مباشرة في تقويض وإضعاف التعبئة الجارية في البلاد.

برامج صندوق النقد للتكيف الهيكلي وقروضه ستنقل الثروة من مصر إلى البنوك الغربية ؛ ديون مصر 35 مليار دولار تدفع 3 مليارات دولار سنويا كفوائد عنها

______________________________________________

هذا الفهم للمنطق الأساسي المفترض في الحزم المالية للمؤسسات المالية الدولية يسمح لنا أن ننتقل إلى الآليات الدقيقة التي من خلالها يتكشف برنامج التكيف الهيكلي. هناك نوعان من العناصر المشتركة في كل الدعم المالي المقدم لمصر حتى الآن - تراكم القروض (أي زيادة الديون الخارجية لمصر) ، والاستثمار الموعود في ما يُسمى بالشراكات بين القطاعين العام والخاص. كلا العنصرين مرتبطان بتنفيذ مصر للتكيف الهيكلي. استراتيجيا، يبدو أن التركيز الأولي لهذا التعديل الهيكلي سيكون على خصخصة البنية التحتية في مصر وفتح الاقتصاد أمام الاستثمار الأجنبي والتجارة من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص (وهذه ستناقش أدناه). بالإضافة إلى حكومة الولايات المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، فإن الممثل المؤسسي الرئيسي الآخر في هذه العملية هو البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير [وهو مؤسسة استعمارية مالية أخرى مطابقة للبنك والصندوق لكن هذا من أوروبا وتلك من واشنطن].

وبعبارة أخرى، وخلافا للاعتقاد السائد، فإن المزيد من المال سوف يتدفق من مصر إلى المُقرضين الغربيين وليس العكس. ... القروض الغربية تعمل على استخراج الثروة من الفقراء في مصر لتعيد توزيعها على البنوك الغنية في أمريكا الشمالية وأوروبا.

حاليا تبلغ الديون الخارجية لمصر حوالي 35 مليار دولار أمريكي. وعلى مدى العقد الماضي دفعت مصر نحو 3 مليارات دولار سنويا لخدمة الديون. من عام 2000 إلى عام 2009، ارتفع مستوى ديون مصر بنحو 15٪، على الرغم من أن البلاد دفعت ما مجموعه 24.6 مليار دولار في تسديد الديون خلال الفترة نفسها. وصل صافي التحويلات في مصر على الديون طويلة الأجل بين عامي 2000 و 2009، والذي يقيس اجمالي الفرق بين القروض وتسديد القروض 3.4 مايار دولار. وبعبارة أخرى، وخلافا للاعتقاد السائد، فإن المزيد من المال يتدفق في الواقع من مصر إلى المقرضين الغربيين وليس العكس. هذه الأرقام تظهر الحقيقة الصادمة عن العلاقة المالية بين مصر والاقتصاد العالمي - القروض الغربية تعمل على استخراج الثروة من الفقراء في مصر وإعادة توزيعها على أغنى البنوك في أمريكا الشمالية وأوروبا.

قروض الصندوق والبنك الدولي يستفيد منها الفاسدون ويدفعها فقراء مصر

_________________________________

وبطبيعة الحال، فإن قرار اقتراض هذا المال والدخول في "فخ الديون" هذا لم يصدر من قبل الفقراء في مصر. الغالبية العظمى من هذه الديون هي ديون عامة أو مضمونة علنا (حوالي 85٪)، بمعنى أنها ديون تم اتخاذها بقرار من قبل حكومة حسني مبارك وبتشجيع مفتوح من المؤسسات المالية الدولية. النخبة الحاكمة في مصر - تتمحور حول مبارك وأقرب زمرته - استفادت بشكل هائل من هذه المعاملات (المقدرة بالعديد من المليارات). هذا يدل على حقيقة أن الكثير من الديون المصرية هي من النوع الذي يسميه خبراء التنمية "الدين الكريه" - الديون التي تم بناؤها من قبل النظام الدكتاتوري دون أي اعتبار لاحتياجات السكان. مبارك لا يتحمل المسؤولية الكاملة عن هذه العملية. فقد واصل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والعديد من المقرضين الآخرين تشجيع هذا الاقتراض (والثناء على الاتجاه الاقتصادي في مصر في عهد مبارك) على وجه التحديد لأن هذا الاقتراض  كان يمثل مؤسسة ربحية.

هذا هو سياق الخلفية الأساسية في المناقشات حول الديون الخارجية لمصر. في خطابه في 19 مايو، قدم الرئيس الأمريكي باراك أوباما الكثير من الوعود لتخفيف ديون مصر لتصل التزامات ديونها إلى 1 مليار دولار. ووَصَفَ أوباما هذا الأمر بأنه محاولة من الحكومة الأمريكية لدعم "التغيير الإيجابي في المنطقة ... من خلال جهودنا لدفع عجلة التنمية الاقتصادية في الدول التي يتم فيها الانتقال إلى الديمقراطية". وبالإضافة إلى هذا الدعم النقدي، وعد أوباما أيضا بحثّ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ودول أخرى للمساعدة في "تحقيق الاستقرار وتحديث مصر" و "تلبية احتياجاتها المالية على المدى القريب".

أوباما : القروض يجب أن تُستخدم بموافقة الحكومة الأمريكية

__________________________________

إذا وضعنا جانبا الغطرسة الواضحة في هذا الكلام، فإن عرض أوباما يحتاج إلى أن يُفهم بدقة. وعلى العكس مما تم تصويره على نطاق واسع في وسائل الإعلام، فإن هذا لم يكن تسامحا في الديون المصرية. هو في الواقع مبادلة الديون - وعد للحد من خدمة الدين في مصر بمقدار مليار دولار، شريطة أن يُستخدم المال بالطريقة التي توافق عليها الحكومة الأمريكية. مبادلة الديون هذه تؤكد العلاقة بالسلطة التي هي متأصلة في العلاقات المالية الحديثة. الولايات المتحدة قادرة على استخدام مديونية مصر كوسيلة لإجبار الدولة على اعتماد أنواع السياسات الاقتصادية المذكورة أعلاه. كان أوباما واضحا جدا حول ما يعنيه ذلك - مبينا أن "الهدف يجب أن يكون نموذجا فيه تخلي الحمائية الطريق للانفتاح وعهود من التجارة تمر من القلة إلى الكثرة، والاقتصاد يخلق فرص عمل للشباب. وبالتالي سوف يستند دعم أميركا للديمقراطية على ضمان الاستقرار المالي، وتعزيز الإصلاح، ودمج الأسواق التنافسية مع بعضها البعض ومع الاقتصاد العالمي".

لقد تمت بلورة هذه اللغة السياسة نفسها بشكل واضح إلى جانب القروض الموعودة لمصر من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. يوم 12 مايو، أعلنت "كارولين اتكينسون" ، مديرة إدارة العلاقات الخارجية في صندوق النقد الدولي (IMF)، أن صندوق النقد الدولي كان يدرس طلبا من الحكومة المصرية لقرض بمقدار 3-4 مليار دولار، وأنها "ستزور القاهرة قريبا لبدء مناقشات مع السلطات المصرية حول الترتيبات". ومبينة إن هذه القروض سوف تأتي مع شروط ، أشارت أتكينسون أن "حجم ونطاق الدعم المُقدّم من الصندوق سيتحدّد مع التقدم في المناقشات". وأكد مستشار وزير المالية المصري هذا الموقف، معلنا أن موضوع "كيف سيتم إنفاق الأموال سيخضع لعملية التفاوض". وفي 24 مايو تم تعيين هذه الشروط في أعقاب اعلان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أنه سيقدم 4،5 مليار دولار لمصر خلال عامين. ومشيرا إلى أن "الإصلاحات لا تقل أهمية عن المال"، قال رئيس البنك الدولي روبرت زوليك أن المليار دولار الأول مرتبط بشكل واضح "باصلاحات الحكم والانفتاح مع مليار أضافي يُتاح في العام المقبل اعتمادا على التقدم". أما الـ 2.5 مليار دولار فسيتم استثمارها في مشاريع التنمية وقروض القطاع الخاص (أنظر أدناه).

ما لم يتم رفض هذه القروض وأنكار الديون القائمة، ستجد مصر نفسها في طريق مسدود لن تستطيع الخلاص منه أبدا. الديون الخارجية ليست شكل محايد من «المساعدات» وإنما هي علاقة اجتماعية استغلالية أقيمت بين المؤسسات المالية في الشمال وبلدان الجنوب. ومحصورةً في هذه العلاقة، تصبح البلدان معتمدة على تدفق مستمر من القروض الجديدة من أجل الخدمة المتراكمة سابقا للديون طويلة الأجل. إنها وسيلة لتعميق استخراج الثروات من مصر و- على وجه التحديد بسبب استمرار الاعتماد على التدفقات المالية الأجنبية - تعمل على تقييد مصر بالمزيد من تدابير برامج التكيف الهيكلي. تتم معاقبة الشعب المصري لمديونية لم يكن سببا فيها ، وتتضمن العقوبة حبسه في مديونية أكبر من قبل المؤسسات التي كانت هي السبب في وضعه في هذا الحال في المقام الأول.

مؤسسات التدمير الاقتصادي تتكاثر كرؤوس الشياطين وكلها تريد نهب ثروة مصر : مؤسسة أوبيك الأمريكية

_____________________________________________

في خطابه في 19 مايو أيضا، تعهد أوباما بمليار دولار للاستثمارات من خلال مؤسسة الولايات المتحدة المعروفة باسم مؤسسة الاستثمار الخاص لما وراء البحار (أوبيك). ومهمة أوبيك هي دعم الاستثمار في الأعمال التجارية الأمريكية في ما يسمى الأسواق الناشئة؛ إنها توفر ضمانات للقروض (خاصة في حالة المشروعات الكبيرة) أو قروض مباشرة للمشاريع التي لديها نسبة كبيرة من مشاركة رجال الأعمال من الولايات المتحدة ومن المحتمل أن تواجه هذه المشاريع مخاطر سياسية. ربما يكون أفضل تعبير عن أنشطة أوبيك هو أول استثمار لها في أفغانستان بعد وقت قصير من غزو هذا البلد من قبل قوات يقودها حلف شمال الاطلسي في عام 2001 – وهو فندق حياة Hyatt Hotel الجديد في كابول الذي من شأنه أن يُستخدم "منبرا لرجال الأعمال" الذين يزورون البلاد. كان أوبيك أيضا شريكا أساسيا في تشجيع أيديولوجية السوق الحرة التي تقوم عليها السياسة الاقتصادية لسلطة الائتلاف المؤقتة (CPA) في العراق في أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق في عام 2003 . الحكومة الأمريكية تؤكد صراحة على الصلة بين أوبيك وأهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة . هذه الصلة مغلفة بشكل جيد في شعار المنظمة : "دعم الاستثمار الأمريكي في الأسواق الناشئة في جميع أنحاء العالم، وتعزيز التنمية ونمو الأسواق الحرة".

لأن استثمار أوبيك يعتمد على خفض الحواجز أمام رأس المال الأجنبي وتسريع خصخصة الشركات المملوكة للدولة، فإن أنشطته تستند إلى ، وتساعد على، تعزيز وتوسيع برنامج الليبرالية الجديدة المذكورة أعلاه. في حالة مصر، فإن من المرجح أن يحصل هذا في المقام الأول من خلال استخدام أموال الحكومة الأمريكية لإقامة الشراكات بين القطاعين العام والخاص. هذه الشراكات هي وسيلة لتشجيع الاستعانة بمصادر خارجية لإدارة المرافق والخدمات المملوكة من قبل للدولة إلى شركات خاصة. توفر الشركة الخاصة الخدمة من خلال عقد مع الحكومة - وعادة، يشمل هذا أنشطة مثل تشغيل المستشفيات أو المدارس، أو بناء البنية التحتية مثل الطرق السريعة أو محطات الطاقة. لهذا، فإنهم يتلقون مدفوعات من الحكومة أو من خلال المواطنين من مستخدمي الخدمة (مثل رسوم الطرق السريعة). هذه الشراكات ، بالتالي، هي شكل من أشكال الخصخصة، والتي، على حد تعبير أحد الباحثين ، ايمانويل سافاس، هو "تعبير مُلطّف ومفيد لأنه يتجنب التأثير الإلتهابي للـ "الخصخصة" على أولئك الذين يعارضون هذه الايديولوجيا".

تدخُّل أوبيك في مصر ارتبط بشكل واضح بتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص. وأشار بيان صحفي لأوبيك، على سبيل المثال، نُشر مباشرة بعد خطاب أوباما، أن المليار دولار التي وعدت بها الحكومة الأمريكية سوف يُستخدم "لتحديد الشركات المملوكة للحكومة المصرية التي ستدخل في الاستثمار في الشراكات بين القطاعين العام والخاص من أجل تعزيز النمو في القطاعات المتفق عليها بصورة متبادلة في الاقتصاد المصري".

رأس شيطان آخر يريد نهب ثروة مصر: البنك الأوروبي لإنشاء والتعمير

_________________________________________

لكن التركيز على الشراكات بين القطاعين العام والخاص طُرح بصورة أكثر وضوحا في الاستثمار الذي وعدت به مؤسسة مالية دولية أخرى، هي البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير. أنشئ المصرف في وقت سقوط الاتحاد السوفياتي، بهدف الانتقال بأوروبا الشرقية إلى الاقتصاد الرأسمالي. وكما قال رئيس المصرف "توماس ميرو" في افتتاح مناقشات البنك حول مصر: "تم إنشاء المصرف في عام 1991 لتعزيز الديمقراطية واقتصاد السوق، والتطورات التاريخية في مصر تضرب على وتر حساس عميق في هذا البنك".

هذا المصرف تمّ تشكيله ليكون واحدا من الوكلاء الرئيسيين لمشروع الليبرالية الجديدة في مصر. يوم 21 مايو، وافق المساهمون في المصرف الأوروبي على تقديم ما يصل إلى 3.5 مليار دولار لمنطقة الشرق الأوسط، مع كون مصر أول دولة تُخصص لاستلام القروض في النصف الأول من عام 2012. وستكون هذه هي المرة الأولى منذ إنشائه التي يقرض فيها المصرف بلدان الشرق الأوسط. كاثرين أشتون، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، قالت أن المصرف يمكن أن يقدم 1 مليار يورو سنويا لمصر، والتي من شأنها أن تعطي المؤسسة وزنا هائلا في الاقتصاد المصري - وكنقطة للمقارنة، فإن قيمة الاستثمارات الإجمالية لجميع مشروعات المشاركة بين القطاع العام والخاص في مصر في الفترة من 1990-2008 كانت 16.6 مليار دولار.

ان أي شخص لديه أي أوهام حول أهداف استثمار هذا المصرف في مصر سيحسن صنعا لو قرأ بعناية تقرير الانتقال للبنك الأوروبي لعام 2010، حيث يقدم التقرير تقييما مفصلا لأوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ويقيس التقدم على مجموعة مفصلة من المؤشرات. هذه المؤشرات كاشفة للغاية: (1) حصة القطاع الخاص من الناتج المحلي الإجمالي. (2) الخصخصة على نطاق واسع؛ (3) الخصخصة على نطاق صغير. (4) الحكم وإعادة هيكلة المشاريع. (5) تحرير الأسعار. (6) نظام التجارة ونظام النقد الأجنبي؛ (7) سياسة المنافسة (8) إصلاح القطاع المصرفي وتحرير سعر الفائدة. (9) أسواق الأوراق المالية والمؤسسات المالية غير المصرفية. (10) إصلاح البنية التحتية الكلي. وفقط البلدان التي تسجل نتائج بشكل جيد على هذه المؤشرات مؤهلة للحصول على قروض البنك الأوروبي. معهد الأبحاث الذي يتابع نشاط المصرف وهو بنك وتش Bank Watch، لاحظ في عام 2008 أن البلد لا يمكن أن يحقق أعلى الدرجات في تقييم المصرف الأوروبي دون تنفيذ الشراكات بين القطاعين العام والخاص في قطاعي المياه والطرق.

تدخّل المصرف يبشر بتسارع هائل في تطبيق عملية الخصخصة في مصر، وعلى الأرجح تحت توسيع مشروعات المشاركة بين القطاع العام والخاص. منحت الحكومة المصرية الحالية موافقتها المفتوحة على هذه العملية. في الواقع، في الاجتماع السنوي للجمعية العمومية للمصرف في 20-21 مايو حيث وعدت مصر بالأموال، قال المتحدث باسم الحكومة المصرية : "لا تزال الحكومة الانتقالية الحالية ملتزمة بنهج السوق المفتوحة، والذي سوف تزيد مصر تطبيقه بمعدل متسارع بعد الانتخابات المقبلة". واشار البيان الى "أن الشراكات بين القطاعين العام والخاص لديها الكثير من الإمكانات باعتبارها طريقة فعالة لتصميم وتنفيذ مشاريع التنمية، ولا سيما في قطاعات البنية التحتية والخدمات (النقل، والصحة، وما إلى ذلك). لذلك سوف نشجع مبادرات الشراكة هذه". وعلاوة على ذلك، وباحتضانها التام للخطاب الإيديولوجي المؤيد للسوق الذي نوقش أعلاه، وعدت الحكومة المصرية بتخفيف السيطرة على الاستثمارات الأجنبية من خلال التعهّد " بالتغلب على أوجه القصور السابقة في مركزية الحكومة المفرطة. وبالإضافة إلى ذلك، سوف نبني على المبادرات القائمة لتحقيق مستوى أكبر من اللامركزية، ولا سيما من حيث التخطيط المحلي والإدارة المالية".

استنتاج: برامج صندوق النقد ستجهض إنجازات الانتفاضة المصرية

_______________________________________

المشاريع والاستثمارات المذكورة أعلاه ليست هي الجوانب الوحيدة لمشروع الليبرالية الجديدة المدعومة من قبل المؤسسات المالية الدولية في مصر. لكن على المستوى الأكثر أساسية، هذه المساعدات المالية تؤكد التدخل الواعي والمقصود من قبل الحكومات الغربية في العملية الثورية في مصر. في المدى القصير جدا، قد تخلق مشاريع البنية التحتية الكبيرة ومشاريع اقتصادية أخرى بعض فرص العمل والسكن والتعليم والتدريب وربما ظهور عودة الاستقرار نظرا للشعور السائد بوجود "أزمة". هذا الاستثمار، مع ذلك، يقوم على أساس التحرير العميق في الاقتصاد المصري. وسوف يُنفّذ فقط بالترافق مع تدابير مثل تعميق الخصخصة وتعميق (وبلا شك من خلال مشروعات المشاركة بين القطاع العام والخاص) ورفع القيود (المرجح في البداية أن تكون متصلة بفتح المزيد من القطاعات أمام الاستثمار الأجنبي)، والحد من الحواجز التجارية (متصلة بالوصول إلى أسواق الولايات المتحدة وأوروبا)، والتوسع في القطاع غير الرسمي (تحت راية القضاء على 'الروتين"). وسوف تنطوي بالضرورة، علاوة على ذلك ، على التوسع السريع في المديونية العامة في مصر - وربط البلاد بقوة وأكثر من أي وقت مضى بحزم التكيف الهيكلي في المستقبل.

إذا لم تتم مقاومة هذه العملية، فأنها تهدد بإلغاء إنجازات الانتفاضة المصرية. إن عقودا من التجربة المصرية الليبرالية الجديدة توضح بجلاء، إن هذه التدابير سوف تقوم بتعميق الفقر، والعوز، وتآكل مستويات المعيشة للغالبية العظمى من الشعب. في الوقت نفسه، فإن التدفقات المالية ستساعد على تعزيز وتوطيد سيطرة النخب التجارية والعسكرية المصرية الضيقة بصفتها الطبقة الوحيدة في المجتمع المستفيدة من المزيد من تحرير الاقتصاد. التوسع في الشراكات بين القطاعين العام والخاص، على سبيل المثال، سوف يوفر فرصا هائلة لأكبر المجموعات التجارية في البلاد لشراء حصص الملكية في مشاريع البنية التحتية الكبرى وغيرها من قطاعات الخدمات المخصخصة. جنبا إلى جنب مع المستثمرين الأجانب، فإن هذه الجماعات ستستفيد من رفع القيود عن أسواق العمل، وتحرير الأرض وأنشطة التجزئة، واحتمال الوصول إلى أسواق التصدير في الولايات المتحدة وأوروبا.

رأس المال الخليجي يشارك في خطة التدمير وتصفية القطاع العام في مصر

___________________________________________

سوف تسفر هذه التدابير عن أثر إقليمي أيضا. سيكون المستفيد الرئيسي الآخر هو دول مجلس التعاون الخليجي (السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة والبحرين وقطر وسلطنة عمان) الذين يلعبون دورا بارزا للغاية ومكملا جنبا إلى جنب مع المؤسسات المالية الدولية. لقد تعهدت السعودية باستثمار 4 ملياردولار في مصر - يتجاوز هذا المبالغ التي وعدت بها الولايات المتحدة والمصرف الأوروبي. أعلنت الهيئة الكويتية العامة للاستثمار في ابريل نيسان أنها بصدد إنشاء صندوق ثروة سيادية بمليار دولار سوف يُستثمر في الشركات المصرية. أعلنت مجموعة الخرافي الكويتية، التي كانت قد فازت بعقود المشاركة بين القطاع العام والخاص في قطاع الطاقة في مصر في عام 2010، وتشير التقديرات إلى أنها تستثمر 7 مليار دولار في مصر، أنها ستقدم قرضا بـ 80 مليون دولار للاستثمار في مصر. قطر تفكر أيضا في استثمار ما يصل إلى 10 مليار دولار، وفقا لسفيرها في مصر.

كما هو الحال مع الاستثمارات من الدول الغربية، هذه التدفقات المالية من دول مجلس التعاون الخليجي تعتمد على المزيد من تحرير الاقتصاد المصري، وعلى الأرجح من خلال آليات الشراكة بين القطاع العام والخاص. في الواقع، رئيس الوزراء المؤقت في مصر، ووزير المالية، سافرا مرّات كثيرة إلى دول مجلس التعاون الخليجي على مدى الأشهر الأخيرة بهدف تسويق مشاريع الشراكة، وخاصة في مجال المياه والصرف الصحي، والطرق، والتعليم، والرعاية الصحية، والطاقة . وأحد الدلائل التي تدل على اتجاه هذه الجهود هو إعلان بورصة دبي ومصر بالسماح للإدراج المزدوج للأسهم في البورصات الخاصة بكل منها. وسيساهم هذا الإجراء في السماح للشركات المخصخصة أو الأدوات الاستثمارية بإدراجها معا في كلا السوقين، وبالتالي تسهيل زيادة تدفقات رؤوس الأموال الخليجية إلى مصر.

إن المبادرات المالية التي أُعلنت خلال الأسابيع الأخيرة تمثل ، في جوهرها ، محاولة لربط الطبقات الاجتماعية مثل - النخب العسكرية والتجارية في مصر، والأسر الحاكمة والتكتلات الكبيرة من دول مجلس التعاون الخليجي، وهكذا دواليك – أكثر من أي وقت مضى وبصورة أكثر إحكاما بالدول الغربية. العملية الثورية في مصر تمثل هجوما ضد هذه العناصر من العالم العربي. لا يمكن أن تُختزل الانتفاضة إلى مسألة "التحول الديمقراطي" لأن الشكل السياسي للدولة المصرية في عهد مبارك كان انعكاسا مباشرا للطبيعة الرأسمالية في البلاد، والانتفاضة تعني ضمنا تحديا لموقف هذه النخب . التعبئات المُلهمة التي لا تزال تجري في الشوارع المصرية تؤكد أن هذه الطموحات ما زالت موجودة وبقوة. تحتاج المساعدات المالية الغربية إلى أن تُفهم على أنها تدخّل ماكر في هذا الصراع الدائر ، وأنها محاولة للاستفادة من الشعور بـ "الأزمة الاقتصادية" لإعادة تشكيل المجتمع المصري ضد مصالح الأغلبية في مصر، وتحويل الثورة من الأهداف التي ما زال عليها تحقيقها .

مصادر حلقات سلسلة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ستذكر في الحلقة الأخيرة 

وسوم: العدد 671