لماذا فشل مؤتمر باريس في تحريك المفاوضات مع اليهود؟

هنالك نقاط مرجعية تحكم الحراك السياسي حول قضية فلسطين، تتعلق بحالة أمريكا التي تكبّلها الانتخابات، وفسحة الحراك المحدودة للدول الأوروبية، وتعنّت نتنياهو ورؤيته الليكودية، لا شك أن فرنسا تدركها جيدا، ومع ذلك أصرت على رمي حجرها في بحيرة "السلام" الراكدة، من خلال عقد مؤتمر باريس حول المبادرة الفرنسية، استهدفت أن تحرك أمواجا إعلامية يتحرك معها حضور فرنسا العالمي. ولذلك حاولت إخراجه بصورة عالمية وبحضور أمريكا مع وزراء عرب وغربيين وممثلين عن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.

كان الرئيس الفرنسي قد شدد على أن المبادرة الفرنسية ترتكز على حل الدولتين، وتتكون من مرحلتين: عقد مؤتمر دولي للسلام، وتشكيل فرق عمل متعددة. أما كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات، فقد فصّل في لقائه مع فضائية الحدث في 4/6/2016، أن المبادرة تتضمن توزيع المهام السياسية لإقامة الدولة الفلسطينية على دول أوروبية، بينما تُبقى المهمة الأمنية بيد أمريكا، ومن المعروف أن أمريكا تعتبر "أمن إسرائيل من أمن أمريكا".

كانت المبادرة الفرنسية قد تولدت عن "مشروع القرار الفلسطيني - العربي" الذي تم تقديمه إلى الأمم المتحدة، وسقط عند التصويت نهاية العام 2014، وهو الذي استند إلى مبادرة السلام العربية، التي تُغري اليهود بالتطبيع الشامل مقابل دويلة فلسطينية. ثم راهنت فرنسا على تغيّر المشهد السياسي في كيان الاحتلال بعد الانتخابات اليهودية الأخيرة، ولكن رهانها تبخر مع استمرار نتنياهو في سدة الحكم، عبر حكومة أكثر تطرفا من سابقتها.

وكانت فرنسا قد وعدت بالاعتراف بدولة فلسطين إن لم تنجح مبادرتها، من أجل إعطاء فرصة للمشروع أمام الرفض اليهودي، ومع هذه العصا السياسية، كانت قد ألقت جزرة لنتنياهو بتضمين المشروع الاعتراف "بيهودية الدولة". ولكن نتنياهو يدرك أن العباءة الأمريكية جاهزة لتغطية كيانه في المحافل الدولية، ولم تغره الجزرة الفرنسية.

وأغلق نتنياهو الأفق السياسي أمام فرنسا، وظلت حكومته تتحدث عن تحريك المفاوضات الثنائية (الفارغة من أي مضمون فعلي) مع السلطة الفلسطينية، لتسحب البساط من تحت أرجل فرنسا، ولتفرّغ أي ضغط دولي يمكن أن يؤئر عليه، فرفض المبادرة الفرنسية، ودعا إلى إجراء مفاوضات مباشرة بدون شروط مسبقة بين الطرفين (بي بي سي عربي في 3/6/2016). بل وصلت صراحته حد "الوقاحة" السياسية في صد فرنسا، عندما قال المدير العام لوزارة الخارجية "نفضل عملية شرق أوسطية وليس عملية يحاول شخص ما خلقها في باريس".

أما أمريكا التي تقرّ بحالة "البطة العرجاء" خلال السنة الانتخابية، والتي تُقعدها عن أي حراك جاد في هذا الملف - غير الملحّ، على الأقل في المدى المنظور -، فقد حاولت قبل المؤتمر - وهي تتحسس من ارتفاع سخونة الدور الفرنسي - حرف الأنظار عنه، عندما أعلنت قبل شهر أنها "تدرس طرح رؤية لتسوية فلسطينية - إسرائيلية"، (وكالة معا 4/5/2016)، رغم أن أوباما قد دخل في حالة الإحباط الثانية من مشاكسات نتنياهو (بعد إحباطه الأول في رئاسته الأولى).

ولم تنجح فرنسا في استغلال مشاعر الإحباط الأمريكية، وكان الحضور الأمريكي لمؤتمر باريس بروتوكوليا، بينما أعلنت أمريكا قبيل انعقاد المؤتمر أنها "لن تأتي باقتراحات محددة في مؤتمر باريس"، (رويترز 2/6/2016). ثم شحّت التصريحات الأمريكية، أو كانت فارغة مثل تلك التي أعقبت اجتماع وزير الخارجية الأمريكي مع نظيره الفرنسي: "نرى ماذا سنفعل" (موقع فضائية الغد 4/6/2016). ولم تنجح محاولة فرنسا في اجتذاب أمريكا، عبر التذكير بأهمية تحرك عاجل لإنقاذ حل الدولتين الذي بات يتهدده "خطر جدي"، والتذكير بأن الوضع يقترب من نقطة "اللاعودة".

أمّا المتحدثون باسم أمريكا من عملائها الأعراب فقد شدّدوا على العودة إلى مبادرة السلام العربية (أمريكية المنشأ)، كما نُقل عن وزير الخارجية السعودية الجبير، أن المبادرة العربية تمثل أساسا قويا لحل النزاع الطويل.

وكما يرى بعض المحللين، فإن فرنسا لم تستطع أن تحشد أوروبا على مبادرتها: فبريطانيا لا تقبل أن تركب العربة الفرنسية. وألمانيا كانت منشغلة بملفات أخرى، وكانت قد انخرطت في قنوات اتصال أخرى مع غزة وحماس، قبل تصاعد الحديث الإعلامي عن المبادرة الفرنسية، وكان الأفق غائما بحراك أوروبي، مع حكومة غزة، تحرك فيه رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير، وتولد عن الزيارات المتكررة للوفود الأوروبية لغزة، وسُخرت فيه قطر كعراب إنجليزي، استغلالا للأجواء السياسية والحاجة لتجديد وتمديد اتفاق التهدئة في غزة، ومحاولة تحويله إلى اتفاق سياسي يتصف بالديمومة السياسية.

أما السلطة الفلسطينية التي اعتنق قادتها المفاوضات كعقيدة سياسية، فهم يستمرون باللهث خلف أي سراب تُبديه، ثم لا يلبثون أن يعلنوا عن إحباطهم، كما نُقل عن وزير الخارجية الفلسطيني اتهامه "لاعبين كبارا" بخفض مستوى توقعات البيان الختامي لمؤتمر باريس (حسب الجزيرة نت 4/6/2016).

إذن، من الواضح أن المشروع الفرنسي - كغيره من التحركات الدبلوماسية - سيظل متعثرا تحت وقع الرؤية الليكودية، مع الاستعلاء الأمريكي الذي لا يقبل تمرير الحلول تحت طاولة أمريكا. وما زال طفلها الليكودي مدللا يشاكسها، ويراهن على الانتخابات الأمريكية القادمة التي يأمل أن تفرز جمهوريين جددا، يتناغمون معه في الصدامية، وفي استخدام القوة الصلبة، على خلاف قوة أوباما الناعمة، وحزبه الديمقراطي.

أما من حيث الموقف، فإن المبادرة الفرنسية تهبط في التنازلات السياسية، ومنها موضوع اللاجئين، إضافة لخطورة طرْحها استجلاب قوات دولية تحت عنوان "الطرف الثالث" (وهو ما جاهر به رئيس السلطة سابقا)، مما يعني احتلالاً دولياً فوق الاحتلال اليهودي. ولا شك أن فلسطين التي انتزعت من الأمة بالقوة لن تعيدها نعومة الدبلوماسية، ولا مسار يجدي لخلع الاحتلال اليهودي من جذوره غير عسكرية الجيوش.

* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

وسوم: العدد 671