شيء عن الجالية.. والانتخابات

لوحة تصويرية

عقاب يحيى

كان المنظر شديد التعبير بكل ما يحمله من دلالات ..

ـ سيارات كثيفة تراصفت على الطريق قرب السفارة.. لسوريين قدموا للتصويت بأعداد تبدو كبيرة .

ـ وجود حشود مرئية داخل السفارة من الواضح أنها لسوريين يصوتون..

ـ سيارات كثيرة للشرطة والأجهزة الأمنية تحيط بالمكان أمام السفارة، وفي الطرق الفرعية.

ـ تجمّعان متباعدان قليلاً، مختلفان بأعلامهما، والصور واليافطات والشعارات والصراخ، والنغمات.. وحتى رنّة الصوت، وما يخرج من الحناجر..

أمام السفارة اجتمع عدد من المناصرين يحملون صور القاتل بعدة قياسات والعلم المعهود، ويصرخون بالاتهامات، والتهديدات.. وبالإشادة بفضائل "القائد".. وبشيء من تحدي تبدو فيه عنجهية السلطة، والأمن واضحة..يقابله حشد المعارضين بأعلام الثورة، ويافطات واضحة عن "انتخابات الدم"، وبعض الصور الفاضحة لضحايا الطغمة، خاصة من الأطفال، وأغاني الثورة، وبعض الشعارات المعهودة : الإيمانية والوعيدية.. وقد ارتفعت وتيرة الحماس خاصة لدى بعض النساء الحضور، وبعض المفجوعين بعدد من ذويهم وأقربائهم، وقبل وصولي قيل لي أن الاشتباك بالأيدي كاد أن يحصل لولا تدخل الأمن الجزائري بقوة وتهديده الجميع بالطرد، وا لاعتقال، فتمترس كل فريق في حدوده..

ـ كنا أكثر عدداً، وحماساً، وكان عديد من يقوم بالتصويت يقف إما ليتفرج، او ربما ليكتب تقريراً، بينما بعض السيدات ـ في جمعنا ـ انفجرن في وجوه هؤلاء فرحن يرشقنهم بعبارات قاسية ومؤثرة، ك : إلى متى ستبقون عبيداً. ايها الأذلاء العبيد. يا أنصار المجرمين.. وغير ذلك من كلام كان هؤلاء يلوون رؤوسهم ويمضون.. بينما سعار المؤيدين يستمر، ويرد عليه تجمعناً بأغاني القاشوس، وعديد المحفوظ من الشعارات والأهازيج..

ـ "المنازلة" استمرت ما يزيد عن الساعة.. ثم تقرر إنهاء وقفتنا التي كان هدفها الرئيس إعلان صرخة رافضة لهذه المسخرة...

                                                          *****

محاولة للفهم :

لكن وأبعد من الحالة المظهرية، ومن موقف هؤلاء المؤيدين ودوافعهم، فإن هذه الوضعية العامة جديرة بالبحث والتوقف بما يتجاوز المعهود من التحليل المعمم، المشبع بالتصنيف والاتهام .

ـ الحقيقة التي يجب تسجيلها، ويقال أن عدد الجالية السورية تتجاوز ـ هنا ـ الثمانية آلاف ـ أننا في أفضل الأوضاع الإيجابية لم نستطع حشد أزيد من مائتين من المعارضين، بما فيهم الأسر والأطفال، وحتى في الفترات التي كان زخم الثورة فيها قوياً ظلّ العدد صغيراً، ثم أخذ ينقص تدريجياً لدرجة ملحوظة، بما يتخطى كل ما يقال عن تحميل"اللجنة المعنية" المسؤولية في هذا التراجع، لأنه يرتبط بجملة من الأسباب التي يجب وعيها ونقاشها موضوعياً، وهي حالة تكاد تكون عامة لا تخصّ الجالية السورية في الجزائر وحسب، بل يمكن سحبها على عموم الجاليات السورية، وأهمها :

1 ـ حالة الرعب المعممة في رأس ونفسية وتركيب السوري التي لم تنته تماماً، رغم أن الثورة حطمتها، ونجحت في تهشيمها، لكن آثارها ظلت قوية في حسابات وبنية الكثيرين، لدرجة أنها كالكابوس الذي يحتل شخصياتهم، والمترافقة مع الآثار الأخرى التي أورثها نظام الاستبداد والفئوية في تركيبة السوري وشخصيته : الخنوع، والانتهازية، والنفاق، والحذر، والشك..إلخ .

2 ـ موقع المصالح الخاصة في حسابات الأغلبية، آخذين بالاعتبار أن كثير هؤلاء قدم بهدف العمل إما برأسمال يملك، او تجارة متنوعة، أو بأعمال حرة، خاصة حفر الآبار الذين يشكل الأكراد أغلبية ساحقة فيهم، والحالة الكردية الخاصة الخاضعة لآلية داخلية من القرارات..

     هؤلاء ظلت علاقاتهم قوية مع أركان السفارة وامتداداتها، ومع شبكات الإمداد ومافياتها في الداخل، لذلك رجّح معظمهم تلك المصالح وتأمينها على أي شيء آخر.

3 ـ حاجات السوري الماسّة لتأمين مستلزمات الإقامة، والأسرة، وأمور عديدة من أوراق ضرورية لا يجد بديلاً للسفارة، التي ظلت الجهة الوحيدة القادة على ذلك، بما فيهم في الدول التي طردت السفير السوري لديها، وقبلت تعيين سفير للإئتلاف فيها لا يملك اية حقوق وصلاحيات في فعل شيء من ذلك.

4 ـ تعقّد الحالة السورية عبر مسار الثورة وما عرفته من تطورات أضعفت الأمل القريب بالنصر إلى درجة التغييب، ناهيك عن الممارسات السلبية والمشوّهة المحسوبة على الثورة، وغلبة الاتجاهات المتشددة وسيطرتها، والتي تمثل "داعش" صورتها الفاقعة، وانتعاش أوضاع النظام وإحرازه لعدد من النجاحات والتقدمات.. بما يؤدي إلى انزياحات واضحة في الحاضنة الشعبية، وتحول بعضها إلى السلبية، وإلى خنادق النظام، وتلازم ذلك مع ازدياد مطالبة الناس الذين يعانون الهجرة واللجوء والويلات بالأمن والأمان.. عن أي طريق جاء.. وهذا ما يمكن أن يجد تفسيره في إقدام عدد كبير ممن دمرت بيوتهم، أو فقدوا عدداً من أسرهم وذويهم على الانتخابات، وهو ما كان يحدثني به أحد الأصدقاء اليوم مستغرباً..وكيف يمكن وجود أعداد كبيرة من هؤلاء في عداد المصوتين ....

5 ـ وعلينا الإقرار أن "الكتلة الصامتة" هي اليوم اقرب للنظام مما كانت عليه قبل عام ويزيد، وحين نضيف إليها تلك المجاميع المحسوبة على النظام القاتل، وبما يتجاوز أبناء الطائفة العلوية إلى عموم الطوائف، نخرج بنسبة كبيرة ليست مع الثورة علنياً ـ على الأقل، وتبحث عن أي حل ينهي هذا الوضع، ولم يعد يلتفت عديدها للدور الإجرامي للنظام، ومسؤوليته الساس في التدمير وإيصال المور إلى ما هي عليه، آخذين بالاعتبار انتعاش كتلة المؤيدين والطائفيين، وزهوهم .

6 ـ وبوجود الموقف الرسمي الجزائري الذي هو في الحصيلة أقرب لتأييد النظام، وانعكاسات ذلك علة الساحة الجزائرية عموماً، رغم انه ـ وكشهادة حق ـ لم يمنع الجالية ولا مرة واحدة في وقفات الاحتجاج العديدة التي قامت بها، ولا في الشعارات واليافطات التي تؤديها وترفعها .

7 ـ ولا بدّ من الإشارة إلى الأخطاء المرتكبة في الممارسة من قبل لجنة الجالية، والتي سبق وتناولتها في أكثر من حديث مباشر، وبعض المقاطع، وهي التي تستلزم مراجعة هادئة لتحسين الأداء، وتغيير المضامين، وتفعيل عمل اللجنة ..

ـ في جميع الحالات.. فإن هذه الانتخابات تضيف مهزلة أخرى لتاريخ مشوّه صار مفروضاً، وتراكمياً في تقاليد، وتركيبة، وبلد عريق كسورية، أُخضع بقوة القهر والإجبار لعملية شاملة من المسخ والتزييف والمساخر لدرجة أن قاتلاً استثناء يجري انتخابه على ملأ السوريين، والعالم.. وهناك كثير من المؤيدين.. وكثير من المنتشين.. والذين لا يقتصر حصرهم لا بالطائفة العلوية ولا بجموع " الأقليات" الدينية والمذهبية.. بل بشرائح من مختلف التركيبات ..