الخميني أنموذج صارخ للصفوي الصوفي

الخميني أنموذج صارخ

للصفوي الصوفي

علي الكاش

كاتب ومفكر عراقي

[email protected]

الكثير من العرب عرفوا الخميني كزعيم ديني وسياسي ومفجر للثورة الإيرانية ضد الشاه بمساعدة قوى الإستكبار العالمي، وقد تنكر لتلك القوى بعد نجاح الثورة! وهذا ديدنه مع كل من أحسن إليه، مثلما تنكر لحكومة العراق التي استضافته لعقدين من الزمان، وكذلك تنكره للأحزاب الإيرانية التي ساعدته علي الإطاحة بنظام الشاه، كعرب الأحواز ومجاهدي خلق والحزب الشيوعي الأيراني والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وغيرها.

من المعرف إن علماء المسلمين أجمعوا في المؤتمر الإسلامي الثالث في عام 1408هـ على تكفير الخميني، بسبب غلوه وطروحاته التي تتقاطع مع مباديء الإسلام ومثله السامية، مثل تكفيره لأبي بكر الصديق وعمر وعائشة رضي الله عنهم جميعا وسبهم ولعنهم. ويمكن الرجوع إلى قرارات المؤتمر التي جمعت ونشرت في كتيب حينها. لكن القليل من يعرف شيئا عن تصوفه، وهذا ما يمكن أن نلمسه بوضوح في كتاباته وإستخدامه نفس مصطلحات الصوفية، وأحيانا يستعير تعابيرهم السمجة وشطحاتهم الإلحادية كقوله في كتابه(الحكومة الاسلامية)" إن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل". وهو قول مأخوذ عن أحد شيوخ الصوفية " إن الله يقذف في سر خواص عباده ما لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل". (الطبقات الكبرى).

ونعزو قلة المعرفة بتصوف الخميني بسبب عدم ترجمة كتبه الصوفية ومنها (تعليقات على شرح فصوص الحكم) و(مصباح الانس) و(رسالة لقاء الله) و(الجهاد الأكبر جهاد النفس) الذي حذا فيه حذو المتصوفة بالإعتماد على حديث منسوب للنبي(ص) " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر". والجهاد الأكبر يقصد به جهاد النفس البشرية ضد نوازع الشر. إضافة إلى شعر الخميني العرفاني بالفارسية(ره عشق) و(باده عشق)، و(نقطة عطف)، و(منشور روحانيت). لكن بعد وفاة الخميني تُرجم واحد من كتبه الصوفية بعنوان(الفناء في الحب) وهو كتاب شعري- نثري يتضمن خلاصة الأفكار الصوفية للخميني، والحب يقصد به الله، والفناء كما هو معروف من أسس التصوف الذي يعني جعل الوجود واحدا. والغريب إنه باشر بتأليف كتابه هذا قبل وفاته بفترة قصيرة، أي عندما كان الشعب العراقي والإيراني يسددان فاتورة عنجهيته من دمائهم البريئة برفضه كل المساعي الدولية والاسلامية والعربية لوقف نزيف الحرب. ففي الوقت الذي كانت فيه جبهات القتال مشتعلة كان قلب روح الله الخميني مشتعل بالحب الوجداني! وفي الوقت الذي كانت السماء فيه تزعر من أصوات الطائرات والمدافع، كان لسان السيد يتحدث عن الأسرار والعشق السماوي! ولما إمتدت الحرب للمياه، كان السيد يفكر بالخمر والحانة والساقي!

يصف مقدم كتاب ديوان الخميني بأنه" أديب تصوف ودروشة وعرفان" وإنه توصل إلى معرفة الله من خلال الكشف القلبي والفيض العشقي الإلهي العلوي وليس من التبحر بالقراءة في القرآن وعلوم الدين! مضيفا بأن " تعابير الإمام العشقية والخمرية تماما كتعابير أعلام العرفان الكبار مثل محي الدين بن عربي ومولانا جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار، وعمر بن الفارض وعبد الله الأنصاري". وسبق أن إستعرضنا أفكار المذكورين وشطحاتهم ومروقهم عن الشريعة وزندقتهم. بهذا يكون الخميني نموذجا محدثا للصوفي الصفوي، ودليلا على أن الصوفية والصوفية وجهان لعملة واحدة. نظرا لعروق الخميني  الهندية، لذا  فقد كان للديانات الهندية القديمة أثرا في تكوينه الذهني وتوجهه الكهنوتي.

الحقيقة إن الخميني كما يخبرنا بنفسه قد تحسر في أواخر أيامه على تعلقه وانشغاله بحياة الدنيا على حساب الآخرة، وهو ما وصفه بـ(فخ ابليس) الذي وقع في حبائله ولم يسعفه الحظ ليصحح ما ارتكبه من جرائم بحق شعبه وبقية الشعوب، وقبل هذا وذاك بحق نفسه! فقد كان يُمني نفسه بإنتهاج طريق الصوفية- لكان بفعله ذاك أراح واستراح-  فقد جاء في رسالته لنجله الأكبر احمد الخميني الآتي" رسالة من والد هرم بال، أفنى عمره بحفنة ألفاظ ومفاهيم، مضيعا حياته في إناء الأنا(النرجسية). وهو يُصعد أنفاسه الأخيرة متأسفا على ماضيه، الى ولده الشاب الذي يمتلك فرصة ليفكر كعباد الله الصالحين بتحرير نفسه من التعلق بالدنيا التي هي فخ ابليس الخبيث". فهو إذن يعترف بأنه ضَيع حياته في النرجسية! وهي صفة ملازمة للغطرسة والعنجهية التي لا تليق برجل دين ولا بخلق الإسلام الذي عُرف بالتواضع والتسامح والسلم والأخاء.

من أهم الشخصيات الصوفية التي أثرت في الخميني: الحلاج وابو يزيد البسطامي وصدر المتألهين الشيرازي والفيض الكاشاني وصدر الدين القونوي الذي يعتبره خليفة ابن عربي. وجلال الدين الرومي وعبد الكريم الجيلي وفريد الدين العطار ونجم الدين كبري وشهاب الدين السهروردي وإبن عربي. و يلاحظ إن معظمهم من الفرس.

وللحلاج وفلسفته( أنا الحق) أثر كبير في فكر الخميني، فقبل وفاته كتب قصيدة صوفية يناجي فيها ربه ولا نعرف هل يقصد به ربٌ العباد أم رب آخر خاص به وبالصفويين! يقول فيها: يا حبيبي أسرني خال على شفيتك. وقد أبصرت عيونك النحيلة. فصرت مثلها نحيلا. فرغت من نفسي وصرخت أنا الحق. وطلبت الموت كمنصور الحلاج". يلاحظ إن أعجاب الخميني بالحلاج ينبع من مصدرين أولهما: أصوله الهندية حيث كان الهنود يمجدون شخصية الحلاج وينعتونه بـ(شهيد الحب) ويذكره الباتانيون في أمثالهم الشعبية، وتشير المستشرقة الالمانية آنا ماري شيمل بأنه" لا يوجد كتاب شعر صوفي باللغة السندية او السيراكي إلا وتضمن إشارات عديدة للحلاج".( الأبعاد الصوفية في الإسلام/87). والسبب الثاني: أن الحجاج فارسي الهوى رغم أصوله الهندية، ويعتبرونه الفرس وريث العقيدة الزرادشتية، لأنه تبنى فكرة الحلول التي يؤمن بها المجوس والصفويون من بعدهم. والفرس هم أول من أطلق على الحلاج لقب(العالم الرباني)-أطلقه عليه إبن الخفيف الشيرازي- ويعتبر فريد الدين العطار وجلال الدين الرومي من أبرز السائرين على خطه. وقد وصف إبن النديم الحلاج بأنه" كان رجلا محتالا مشعوذا، يتعاطى مذاهب الصوفية، وينتحل ألفاظهم ويدعي كل علم، وكان صفرا من ذلك كله. بل كان جاهلا مقداما متهورا جسورا على السلاطين، مرتكبا للعظائم، يروم أقلاب الدول، ويدعي الألوهية ويقول بالحلول. (الفهرست1/474). وذكر عنه ابن كثير"أجمع الفقهاء في زمانه على كفره وقتله" ومع كل هذه الصفات السيئة كان الخميني متأثرا بعقيدة الحلاج! لربما يصدق عليهما القول" شبيه الشيء منجذبا إليه".

يلاحظ إن كلمة الحلاج في القصيدة( أنا الحق) – بمعنى أنا الله- قد وردت في كتابه( الطواسين) ولها حكاية ملخصها: عندما طرق الحلاج باب بيت(الجنيد) فإستفسر الأخير عن هوية الطارق؟ أجابه الحلاج: أنا الحق! وقد إستعارها الخميني في شعره السابق إعجابا بها، وربما مستذكرا عبارة هندية مشهورة على غرارها (أنا براهما) الواردة في كتب الأبانيشاد الهندية. وكانت عبارة (أنا الحق) سببا لإتهام الحلاج بالزندقة وقتله بإجماع الفقهاء في عصره، ومن الغرابة ان يستعيرها الخميني وهو يدرك جيدا أبعادها الإلحادية! علاوة على قربها من عبارة فرعون(( فقال أنا ربكم الأعلى)) سورة النازعات/24. وقد أنكر السيد أحمد الرفاعي عبارة الحلاج بشدة، موضحا" لو كان الحلاج على الحق ما قال أنا الحق"(البرهان المؤيد/36). ويلاحظ ان الإمام الغزالي قد عاب جماعته المتصوفة بإنتساب طائفة من الزنادقة إليهم كالحلاج.

وقد ردٌ آية الله العظمى ابو الفضل البرقعي في كتابه(كسر الصنم) على المتصوفة ومنهم الشيخ الشبشتري وسندهم في أصل مبدأ (أنا الحق) كما جاء في سورة القصص/ 30(( فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أنْ يا موسى إنّي أنا الله رب العالمين)) بأنه ينبغي علينا هنا أن نوضح أن الشجرة لا شعور لها حتى تنطق، وهذه الشجرة ليست هي الله حتى تقول أنا الله، بل الله أوجد صوتاً في تلك البقعة المباركة في تلك الشجرة حتى تُسمع موسى وتأمره، كما قال يا موسى أنا الله رب العالمين، ولما عدّ الشيخ الشبستري الصوفي في كتابه ـ « غلشن راز/2) الشجرة ناطقة وجعلها محقة لإدعاء الألوهية: يقول لما صارت الشجرة إلهاً وقالت أنا الحق فيحق لكل مرشد  من باب أولى  أن يقول أنا الحق، ونحن رددنا على كفرياته في كتابنا (غلشن قدس) هو يقول شعراً بالفارسي ما ترجمته" يجوز قول أنا الحق من شجرة، فلماذا لا يجوز من بشر". هناك فرق بين الخالق والمخلوق. ومن يرى أنهما واحد فهو غارق في الكفر، والذي يقول عن نفسه أنا الحق كافر مطلقاً، وليس لأحد أن يقول أنا الحق إلا الحق.

يذكر الخميني "أيها المجلي الكامل لـ(أنا الحق) في العرش العلي العالمي". ويسمي الخميني شيخه الحلاج بالمنصوري كما يظهر بشعره" ما دمت المنصوري تظهر الطواف حول أنا الحق. مثيرا الضجيج والهيجان قبل أن ترى جمال الحبيب. دك جبل أنانيتك كموسى". لاحظ يحمل نفس نظرة عتاب الصوفية الذين عايشوا الحلاج كالشلبي والجنيد الذي عاتب الحلاج بقوله" إنك أفشيت أسرار الربوية فأذاقك طعم الحديد". حيث يتفق الخميني معهم بضرورة كتمان أسرار العقيدة، وهي فكرة صفوية بحته نسبوها للأئمة زورا. فهو يوصي أصدقائه الروحانيين بأن لا يفشوا إسرارهم لغير أهلها وذلك "لأن علم باطن الشريعة من النواميس الإلهية والأسرار الربوية، مطلوب ستره عن أيدي الأجانب وأنظارهم". بلا شك لا توجد عقيدة سرية وغير معلنة يمكن إعتبارها سليمة واخلاقية! وإلا ما الغاية من كتمانها؟ فالدرزية والنصيرية والماسونية أمثلة على ذلك. الحقيقة تحب العري، والكذب يحب الغطاء.

من الشخصيات المؤثرة في الفكر الصوفي للخميني القطب الكبير عبد الكريم الجيلي، ولعل ذلك بسبب تعاطفه من الفرس المجوس فهو صاحب المقولة" أما المجوس فإنهم عبدوا الله من حيث الأحدية، فكما إن الأحدية مفنية لجميع المراتب والأسماء والأوصاف، كذلك النار فإنها أقوى الإستقصاءات وأرفعها"! ويستمر في حديثه مادحا المجوس بقوله" لما إنشقت مشارم أرواح المجوس لعطر هذا المسك، زكمت عن شمه سواه. فعبدوا النار وهم ما عبدوا إلا الواحد القهار". ( الإنسان الكامل/126). أي أن الله هو النار! إنها العقيدة المجوسية تماما. وقد عرف عن الجيلي كثرة شطحاته في كتابه(الإنسان الكامل) وهو التعبير الذي استعاره الخميني في فلسفته الصوفية وغالبا ما يسبغه على شيوخه المتصوفة كما في كتابه(مصباح الهداية/153) حيث يذكر" قال شيخنا واستاذنا في المعارف الإلهية العارف الكامل شاه آبادي أدام الله ظله على رؤس مريديه لو ظهر علي(ع) قبل رسول الله لأظهر الشريعة كما أظهرها النبي، ولكان نبيا مرسلا، لإتحادهما في الروحانية والمقامات المعنوية والظاهرية". ويتبنى الخميني عقيدة مواطنه ابو يزيد البسطامي حول الإنسان الكامل معتبرا" الإنسان الكامل هو جميع سلسلة الوجود، وبه تستكمل دائرة الوجود، فهو الكتاب الكلي الإلهي".(شرح دعاء السحر/67). وهو نفس كلام عبد الكريم الجيلي" الإنسان الكامل هو الذي يستحق الأسماء الذاتية والإلهية. وهو مقابل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه".( الإنسان الكامل2/73).

ولجلال الدين الرومي تأثير واضح في فلسفة العشق الإلهي التي تنتهي بحالة الجذب التي ترتقي به لمرتبة الإنسان الكامل. وهذا ما يتضح جليا في شعره "المجذوبون لجمال الجميل، والعاشقون للحسن الأزلي، والسكارى من كأس المحبة، والمصعوقون من قدح الست، الذين فرغوا عن الكونين، وتعلقوا بعز قدس جمال الله".(سر الصلاة وصلاة لعارفين/157). "يوم أمسيتُ عاشقا لجمالك جُننِتُ بوجهك العديم المثال* رأيتت أن لم يكن في العالَمين سواك* فذُهلتُ عن نفسي و غرقتُ في كمالك"

يتبنى الخميني نفس المفاهيم الصوفية كما سيلاحظ في أشعار العرفان. فالسكر بمفهومه الصوفي له ركن مهم في فكر الخميني الذي يعتبره الكلاباذي منزلة أقل من الفناء، ويعني عدم القدرة على تمييز الأشياء. ويعرفه آخرون بأنه يعني غفلة يتعرض لها الصوفي بسبب تغلب العاطفة على العقل. حيث يذكر الشيخ العز ابن عبد السلام بأنه" إذا تمكن منك السكر أدهشك، وإذا أدهشك حيرك، وإذا دام تحيرك أخذك منك، وسلبك عنك"(حل الرموز ومفاتيح الكنوز/16). وقد قسم ابن عربي السكر إلى أنواع (الطبيعي للمؤمن) و(العقلي للعارف) و(الإلهي للكامل). (الفتوحات المكية2/544). ويلاحظ ان كلمة(السكر) بمفهومها التصوفي إستحدثها المتصوف الفارسي ابو يزيد طيفور سروشان البسطامي(كان جده سروشان مجوسيا). ويذكر عنه الهجويري في كتابه كشف المحجوب بأنه طريقته تتصف بالغلبة والسكر. والبسطامي يختلف منهجه عن الجنيد الذي يؤمن بالصحو حيث يرى ان السكر آفة ومشوش للأحوال ومبيد للصحة وضياع لزمام النفس. لكن نهج الخميني على نهج مواطنه البسطامي. فهو يخاطب الذات المقدسة بشعره" إفتح الدن أمام السكارى.  تخل عن عشق الأهواء. كالطفل الصبور في الكتاب. تقبل مني رمز السكر". ويذكر" أرفع الكأس ثم اقرأ همسا. على المعوزين والشاربين حتى السكر. يا نقطة عطف سر الوجود. أرفع عن المحب كأس السكر". وكذلك" أنا السكران من قدح خمرتي الصافية. أنا البعيد لأجل حبيبي الآسر". و" أنا في عصبة العشاق السكارى. متحرر من عار الصلح والعداء".ويضيف" في وسط الزهاد وشاربي الخمور. في مظهر العلماء سيئي المذهب". كذلك" ألا إنني سأسقط مغمى عليٌ بسببك. أنا هارب من الوعي وسكران من السكر". كما يستشهد بحبيته الساسانية شيرين متصورا نفسه فرهاد! " شيرين الشفة. شيرين الحاجب. شيرين المقال. فمن؟ مع هذا كله ليس فرهاد أمامك". وأخيرا" إنك لم ترى فرهاد وصرت شيرين".

لاحظ إن الخميني يستشهد بشيرين ويستعرض جمالها وهي كما معروف ملكة ساسانية مجوسية كانت زوجة(كسرى اوبريز الذي مزق كتاب النبي(ص) عندما دعاه للإسلام) وعشيقها فرهاد كان من كبار  قواد الملك الساساني وقد وعده بتزويجه من شيرين ثم نكث بعهده مدعيا إنها ماتت  فانتحر فرهاد بسببها. ويلاحظ ان سكر المتصوفة و(منهم الخميني) يوقعهم في شطحات تصل الى مستوى الكفر. لذلك حاول الامام الغزالي ان ينقذهم من هذه الورطة مدعيا" كلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يحكى". (المشكاة/117). ويذكر الخميني "المجذوبون لجمال الجميل، والعاشقون للحسن الأزلي، والسكارى من كأس المحبة، والمصعوقون من قدح الست، الذين فرغوا عن الكونين، وتعلقوا بعز قدس جمال الله".(سر الصلاة وصلاة لعارفين/157). وكأنه يردد قول الشيخ روزبهان" السكر هو كثرة شرب أقداح حسن التجلي" وقول السهروردي" السكر سانح قدسي للنفس يبطل النظام". ويزيد الخميني بقوله" إن إصحاب القلب وأهل الحق لايقفون عند حد الإيمان، بل إلى منزلة الكشف والشهود، وهو ما يحصل بالمجاهدة والخلوة مع الله، والعشق لله". وهذا ما أشار إليه ماسينيون بأن المتصوفة يمدحون الخمر التي حرمها الله في الدنيا ويتغنون بكأس المحبة التي يديرها ساقي الحانة (ترسابجه).

وترد كلمة دراويش كثيرا في شعر ونثر الخميني الصوفي بالرغم من موقفه المتناقض منهم! فهو مثلا يمجدهم في شعره ولكنه يحتقرهم في نثره! فمن مديحه" إذا لم تكن لك خصال الدرويش. تَمُت من فراق ساحر فؤادك". كذلك" ألا قل في أذن الدرويش وقلبه وروحه. قل عاليا بمائة لسان مكرر. يا نقطة عطف سر الوجود. ارفع عن المحب كأس السكر". وقوله" في حلقة السالكين الدراويش. المستهينين الصبورين البعيدي التفكير". لكنه في رسالته لإبنه أحمد ينتقص منهم وينصحه بالإبتعاد عن مسلكهم بقوله" لا تترك خدمة المجتمع وتعتزل فإن هذه صفات الجاهلين المتنسكين أو الدراويش أرباب الدكاكين"! كما يعجب الخميني بشيخه ابن عربي ويصفه بشيخ المتألهين العارفين، في حين يصفه شيخ المؤرخين شمس الدين الذهبي" كلام ابن عربي كفر وزندقة، كان يجتمع به آحاد الإتحادية، ولا يصرح بأمره لكل واحد، ولم تشتهر كتبه إلا بعد وفاته".(تأريخ الإسلام).

فكرة الفناء لم يتحدث عنها المتصوفة إلا في القرن الثالث الهجري، والفناء لغة يعني الزوال والتلاشي، عكسه البقاء، كما جاء في سورة الرحمن/26(( كل من عليها فان)). ولكن المتصوفة أخذوا الفكر من عقيدة النرفانا التي تعني فناء الوجود واتبعوها بالإتحاد بالذات الإلهية. وقسموا الفناء إلى(ذاتي، صفاتي، إرادي). والحقيقة أن أول من أدخل فكرة الفناء في العقيدة الصوفية هو أبو يزيد البسطامي(جده مجوسي). فقد جاء رجل الى ابي يزيد يسأل عنه فأجاب السائل: ليس في البيت غير الله! ويذكر الخميني" مَن ملك سبيل الحق، وخرج عن الأنانيه بقول مطلق، وفني ذاتاً وصفهً وفعلاً وشأناً في الرب المتعال، وسلّم مملكه وجوده إلى القيوم ذي الجلال، وأتى الله بقلبٍ سليم، ووصل إلى مقام العبوديه بالطريق المستقيم، وتحقق بحقيقه (لا موجود سوى الله، ولا هو إلاّ هو). ربّما شملته الرحمهُ الواسعه الإلهيه، والفيوضات الكامله والربوبيه، بإرجاعه إلى مملكته،  إبقائه بعد فنائه، فيصير عالَم الوجود مملكه وجوده، ومقرَّ سلطته ومسند أمارته". (التعليقه على الفوائد الرضويه للخميني /60). وذكر بأن الإنسان" إذا بلغ مرتبة، تُفنى فيه قواه وإرادته في إرادة الحق و تبدأ النتائج العظيمة" فيكون الإنسان الطبيعي إلهيا". (كتاب شرح دعاء السحر/ المقدمة).

ويوضح ابو سعيد الخراز الفناء بأنه في حال أناب الفرد للربٌ وانشد إليه، سينسى نفسه ويستذكر الله فقط، وإذا سئل من تكون؟ سيجيب الله! في حين يحدد الكلاباذي صفات الفاني بخسارة الحظ في الدنيا والآخرة، في الدنيا خسارة مطالبة الأعراض، والآخرة خسارة مطالبة الأعواض. والبعض يرونه متمثلا بفقدان الوعي أو الغفلة عما يحيط به أو عدم الشعور بالمحسوسات المادية. بمعنى تفنى روحه بالذات الإلهية المقدسة، وسيؤدي هذا التفاعل الغريب الى الحلول أو ما يسمى بالإتحاد أو كلاهما. وهي منزلة متقدمة للمتصوف كما يزعمون. وتفرع موقف شيوخ الصوفية الى فرعين متعارضين منهم من يؤيد حالة الحلول الناجمة عن الفناء كالبسطامي والحلاج وابن الفارض، ومنهم من يعارضها ويعتبرها تتنافى مع الشريعة كالجنيد والتستري والهجويري والطوسي الذين تبرأوا من الحلولية بل لعنهم الهجويري. وهذا الأمر يدفعنا لمزيد من التأمل في تبني الخميني عقيدة الفناء المؤدية إلى الحلول التي ابتكرها مواطنه البسطامي! ويذكر نيكلسون ان هذه العقيدة كانت شائعة في جميع أنحاء فارس سيما في العهد الساساني. فمثلا يصف الخميني الإمام علي(رض) بأنه" خليفة الرسول،القائم مقامه في الملك والملكوت، المتحد بحقيقته في حضرت الجبروت واللاهوت، أصل شجرة طوبى، وحقيقة سدرة المنتهى، الرفيق الأعلى في مقام أو أدنى، معلم الوحانيين، ومؤيد الأنبياء والمرسلين علي أمير المؤمنين" . (مصباح الهداية /1).

يؤمن الخميني بعقيدة (الحقيقة المحمدية) التي تعني ان النبي(ص) هو المجلى الأعظم لله، وأن جميع الأشياء تصدر منه وتعود إليه. ويلاحظ ان فكرة الحقيقة المحمدية يتفق فيها الصفويون والمتصوفة تماما، فالنور المحمدي عند الفريق الأول يتسلسل في الأئمة وعند الصوفية بالأولياء، حيث وصفهم ابن عربي" نورانيون انفلقوا عن أنوار محمد". (عنقاء مغب/42). ويلاحظ إن أول من تحدث بالفكرة من الصوفية هو الحلاج الفارسي حيث إعتبرها أزلية وجدت قبل الكون. فالنبي(ص) أخذ علومه عن العلم الإلهي قبل ظهور الأنبياء وهم إستمدوا العلم منه، اي تراجعي يعاكس الواقع! قائلا" برزت أنوار النبوة من نوره. وظهرت أنوارهم من نوره. وليس من الأنوار نور أنور وأظهر وأقدم من القدم سوى نور صاحب الكرم". (الطواسين/9). وهذا الكلام يصب في عقيدة وحدة الأديان على أساس وحدة المصدر. فيذكر" بالمشيئة الإلهية وهي إسم الله الأعظم ظهر الوجود، فهي الحبل المتين الذي يربط بين السماء الإلهية والأرض الخلقية، وبه فتح الله وبه يختم، فهو الحقيقة المحمدية والعلوية صلات الله عليه ومقام الواحدية المطلقة والإضافة الإشراقية". ( شروح دعاء السحر/110).

ويستخدم مصطلح العارف في كتاباته فمن أقواله" العارف، الأستاذ، الشيخ، الكامل، المريد، أمين ودائع الله، وكنز أسراره، ومعدن أنواره، ودليل رحمته على خلقه". كتاب(الآداب المعنوية للصلاة/178). ويمدح الشيخ ابن عربي بقوله" كلمات أهل المعرفة سيما الشيخ الكبير محي الدين إبن عربي مشحونة بأمثال ذلك، كقوله الحق خلق والخلق حق" .(مصباح الهداية). ويعتبر وصول العارف بالله" مقام التخلق بأخلاق الله يكون موردا للعنايات الخاصة". والعارف(الصوفي) كما يوضحه مصطفى العروسي مفرقا بينه وبين العالم. بأن العارف من أشهد الله تعالى ذاته وصفاته وأفعاله، إذ المعرفة حالة تحدث عن شهود، والعالم (العامة) من أطلعه الله على ذلك لا عن شهود بل عن يقين يستند إلى دليل وبرهان. وبشكل عام يأخذ الخميني بالنوع الأول من العارفين حسب تصنيف النفري في كتابه(المواقف/34) وهم" الذين عرفهم الله نفسه بنفسه عن فضله، فيستدلون بآثاره عليه، وقد يتفضل الحق(الله) بالرؤية والكرامة". اما النوع الثاني فهم الفلاسفة والحكماء ممن يستخدم العقل ويستدل بالأدلة. والنوع الأخير هم المجاهدون الذين يفنون أنفسهم بالذات الإلهية.

يلاحظ ان المتصوفة وضعوا درجات للعارف(التحير، الإفتقار، الإتصال ثم التحير من جديد) كإنها حلقة مفرغة. وهو ما يمكن استشفافه من كتابات الخميني. ففي هذا المقطع يتحير من المسجد والدرس، ثم يفتقر للزهد والرياء، ثم يتصل بالمرشد المخمور، ثم يتحير ثانية بإستذكار معبد الأصنام حيث يقول" فقد سئمت من المسجد والدرس. وخلعت لباس الزهد والرياء. ولبست زي الدليل إلى الحب. فصحوت. ضجرت من مواعظ فقهاء المدينة. واستغثت بالمرشد المخمور. دعوني أستذكر معبد الأصنام. فصنم الحانة هو من أيقظني". لاحظ ان حالة الإنسلاخ عند الخميني عن زهده تشبه حالة إنسلاخ البسطامي عن نفسه بقوله" انسلخت من نفسي، كما تنسلخ الحية من جلدها".(شطحات الصوفية لعبد الرحمن بدوي/100).

وحدة الوجود من العقائد الصوفية التي ظهرت بعد وفاة الحلاج. وأشهر من تحدث عنها هو قطبهم إبن عربي. ويؤمن الخميني بوحدة الوجود! حيث يذكر في هذا الصدد" جميع الموجودات أسماء إلهيه. وأن الأسماء والصفات الإلهية كاملة وبنفس الكمال، وأكمل الكمال هو الإسم الجامع لكل الكلمات(الله)". (شرح دعاء السحر/78). ويضيف" لنا مع الله حالات هو ونح نحن، وهو نحن، ونحن هو" (مصباح الهداية/114) وهو نفس قول الحلاج:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا     نحن روحان حللنا جسدا

فــــــإذا أبصرتني أبصرتــه    و!ذا أبصرته أبصرتنـــا

إن وحدة الوجود تعتبر من أخطر معتقدات الصوفية، لأنها تعتبر كل ما في الوجود هو الله، وكل ما تراه العين ويتلمسه اليد من أنس وجان وحيوانات وجماد هي أجزاء من الرب، لكنها تتخذ اشكالا مختلفة. فأنا وأنت والشمس والقمر والكلب والخنزير والبحر والشجر والملائكة والشياطين كلها الله -استغفر الله من هذيانهم-.

وكلام الخميني مستعار من الشيخ ابو الفيض المنوفي الذي ذكر إن الله هو النبع السامي لكل شيء، وليس شيء من الأشياء جميعها هو الله، على إعتبار ان- جلٌ جلاله- جميع الأشياء وليس شيء واحد فقط. ويلاحظ إن بعض المتصوفة يستخدمون(وحدة الشهود) بدلا من(وحدة الوجود) وكلاهما وجهان لعملة واحدة. فقد ذكر الشيخ إبراهيم بن عمر البقاعي" أخبرني بعض الصادقين من فضلاء أهل العلم أنه رأى شخصا ممن ينتحل هذه المقالة(وحدة الوجود) القبيحة بثغر الإسكندرية، وأن ذلك الشخص قال له: إن الله تعالى هو عين كل شيء، فمر بهما حمار، فقال: وهذا الحمار؟ فأجابه: وهذا الحمار! ثم رأى روثا فسأله: وهذا الروث؟ فقال: وهذا الروث". (مصرع التصوف/123). بربكم! هل هناك أشد من هذا الكفر؟

كما ذكرت مصادرهم " مرٌ شيخان منهم التلمساني والشيرازي على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم، فقال الشيرازي للتلمساني: هذا "يشير إلى جثة الكلب الميت الأجرب" أيضا هو ذات الله؟ فقال: بلى! وتصل الجرأة عند ابن عربي للتطاول على الذات الإلهية بتشبيهها كإمرأة في حالة جماع" لو تأمل الرجل الملتذ بالمرأة، لعلم أنه ليس مع امرأة، بل مع الإله الصوفي، وأنه ليس هو الملتذ، بل الإله الذي تعين فيه". وهذا من شعرابن الفارض في وحدة الأديان:

وإن عبد النار المجوس ومـا انطفت ... كما جاء في الأخبار من ألف حجة

فما عبدوا غيري، وإن كان قصدهم ... سواي، وإن لـم يعقــدوا عقــد نيتي

ولا نعرف كيف يُوفق المتصوفة ومنهم الخميني ما جاء في سورة الشورى/11(( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)) مع دعواتهم بوحدة الوجود. ولكن ما يجب التركيز عليه في هذه الفكرة هو خدمتها للديانة المجوسية من طرف خفي. لاحظ ما يذكره إبن عربي" الذين يعبدون الله في الشمس يرون الله شمسا، وان الذين يعبدونه في اشياء جامدة يرون الله شيئا جامدا. والعارف الحق لا يقيد نفسه ابدا بإحدى هذه الطرق ويحكم بخطأ سواها". (الفتوحات2/316). بمعنى ان المجوس الذين يعبدون النار هم يعبدون الله، لأن الله نار! ولا يجوز الحكم بتخطئتهم! وفكرة إبن عربي سبقه إليها الحجاج والشيخ التلمساني. ويرى محمد سعيد الجليند" هذا الأمر يمثل اتجاها عاما لدى متصوفة الفرس والحلوليين". (من قضايا التصوف/111). ولعل هذا يفسر تبني الخميني لفكرة وحدة الوجود وإيمانه المطلق بها..

الكشف في المعنى الصوفي" هو الإطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا". (بصائر ذوي التمييز/354). وقد أشار له الخميني في"منزلة الكشف والشهود". والكشف عند ابن عربي كما وضحه على خمسة اصناف(عقلي، قلبي، سري، روحي وخفي). (تحفة السفرة إلى حضرة البررة/84). ويذكر الكاشاني" المعرفة حال تحدث عن شهود". ويعتبر الغزالي الكشف كأهم مصادر المعرفة اليقينية وهو ليس من العلوم المكتسبة وإنما عطاء إلهي يهبه للعارف. وبهذا المعنى يتحدث الخميني في كتابه(الأربعون حديثاً) بقوله" نفسَ العلمِ حجاب غليظ، فإذا لم يُخرق هذا الحجاب بتوفيق من الله سبحانه في ظل التقوى الكامله والترويض المجهد والإنقطاع التام لله، والمناجاه الصادقه معه، لم تُشرِق في قلب السالك أنوار الجمال والجلال، ولم يشهَد قلبُ المُهاجر إلى الله المشاهداتِ الغيبيه، ولم يتمتع بالحضور العيني لتجلّيات الأسماء والصفات، فضلاً عن الحظوه بالتجلّيات الذاتيه". (الأربعون حديثاً/559).

كما يذكر الخميني" ألا فأرفع الحجاب عني! ارفعه. فأنا مفتضح بك". وقوله" أرفع الحجاب من بيننا حتى تجد عيني التائهة طريقا إلى وجهك". ويذكر في المحجة" إن إشتغال القلب بشهواته بمقتضى حواسه حجاب مرسل بينه وبين مطالعة اللوح الذي هو عالم الملكوت، فإذا هبت ريح حركت الحجاب وازاحته، تلألأ شيء من عالم الملكوت في مرآة القلب كالبرق السريع" (المحجة البيضاء8/314). وقد وضع الخميني نفس شروط من سبقوه من الصوفيه لهتك الحجابـ ومن أبرزها التقوى الكامله، والترويض المجهد للنفس،  الإنقطاع التام لله، ومناجاتُه الصادقه.

كما أن فكرة الخرقة الصوفية هي من العبارات التي يستخدمها الخميني في كتاباته الصوفية، ومن المعروف إن المتصوفة جعلوها أساسا لعقيدتهم ونسبوها للإمام علي(رض) والحقيقة إن الإمام علي لم يختص في لباس محدد وكذلك بقية الصحابة قبله وبعده. من المتصوفة الذين أكدوا ارتباط التصوف بخرقة الصوف، القشيري والهجويري. ويذكر الخميني بصددها " أنزع عني خرقتي، وأنقلب درويشا". كما يعرف الخميني الولاية بنفس تعابير المتصوفة فهي" القرب، أو المحبوبية، أو التصرف، أو الربوية، أو النيابة".(مصباح الهداية/57). ويعتبر معجزات الأئمة وكرامات الأولياء" فرع من إظهار الربوية والقدرة، وهم يأبون إظهارها إلا عند الضرورة" .(مصباح الهداية/90). أليس هذا شاهد قريب على العلاقة بين التصوف والتشيع؟

للحديث بقية بعون الله.