بين “الحرب الأهلية” و”الثورة”

تختلف مرجعية اصطلاح «الحرب الأهلية» في الخطاب السياسي العربي عنها في الخطاب السياسي الغربي. وينبع هذا الاختلاف -بطبيعة الحال- من سياق تأريخي، فقد كانت معظم الحروب الأهلية الغربية -كالأميركية والإسبانية واليونانية- حروبًا بين طرفَين واضحين، قلّ فيها تشرذم القوى السياسية واختلافها. أما الحرب الأهلية التي تهيمن على المخيلة العربية فهي الحرب الأهلية اللبنانية الممتدة من 1975 إلى 1990، وهي حرب تقلّبت فيها التحالفات والأدوار الدولية، وكثرت فيها الأطراف، بل وتغيرت خلالها الأهداف المعلنة للميليشيات المتقاتلة.

اليوم، يهيمن اصطلاح «الحرب الأهلية»، وصفًا في الإعلام والأدبيات السياسية عامةً لما يجري في سورية، ويدفع ذلك -بصورة غير مباشرة- لدى محاولة فهم الصراع الدائر واستشراف مستقبله، إلى استقاء التقاطعات التاريخية مع الحرب اللبنانية، وهي موجودة بطبيعة الحال، ولكنها في اعتقادنا لا تشكل قاعدةً تأريخية ملائمة لفهم الصراع.

لا شك أن للقضية السورية مكوّنات فريدة، تجعل تطبيق أنموذج تاريخي مُسبَق عليها مشروعًا غير علمي وغير تاريخي، كما أشار ياسين الحاج صالح سابقًا. فلا تصلح أي من الحروب السابقة -كما هي- لفهم ما يجري في البلاد، إذا ذهبنا إلى وصف الحرب الأهلية؛ ولا تصلح الثورة الفرنسية ولا البلشفية ولا الإيرانية لفهم الثورة السورية.

قبل فترة، ظهر أحد الصحافيين الحربيين لدى النظام، شادي حلوة، إلى جانب مقاتل من مقاتلي المعارضة المسلحة في حلب، وهو يدعوه إلى إعلان توقيت برنامج له، في لحظة تبدو سوريالية حقًا، يلف فيها الإعلامي «الوطني» ذراعه حول كتفي «الإرهابي» مع ابتسامة واسعة. أثار المقطع المصور سخريةً واسعة لدى الأوساط المناهضة للنظام، بعد نشره على الإنترنت. ويذكّر هذا المشهد بحادثة ينقلها الراحل إدوارد سعيد في كتابه بعد السماء الأخيرة After the Last Sky، عن لقاء إذاعي أجراه مراسل إسرائيلي مع مقاتل أسير من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ويروي سعيد أن المقابلة سُجِّلت على شريط كاسيت، وتناقلها اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات كشكل من أشكال الترفيه الكوميدي. في المقابلة، يسأل المذيع الإسرائيلي: «من أي حركة إرهابية أنت؟» فيجيب المقاتل: «الجبهة الشعبية لتحرير…» ثم يستدرك: «…عفوًا، لتخريب فلسطين». ويجيب على سؤال آخر حول الأنشطة الإرهابية التي يقوم بها: «بنخرّب… وين بنلاقي نساء وأطفال، بنفوت وبنخرب». يجري اللقاء على هذا المنوال. وبسخرية لاذعة، يطلق المقاتل على ياسر عرفات وصف «أكبر إرهابي في العالم» ويمتدح تعامل الجيش الإسرائيلي مع أسراه، فيما يتابع المذيع أسئلته بجدية كاملة، غير ملاحِظٍ لسخرية المقاتل.

وعلى الرغم من أن المقاتل الفلسطيني يبدو أكثر استرخاءً وأسرع بديهةً من نظيره السوري، تبدو هذه الحادثة مدخلًا مكثفًا لاستقراء التقاطعات الكبيرة بين تكوين الثورة السورية والثورة الفلسطينية، والتقاطعات الأكبر بين النظام السوري والاحتلال الإسرائيلي.

تتشابه الثورتان في انطلاقهما من أحداث بدت في حينها صغيرة ومحدودة، بل وعابرةً تاريخيًا، وفي توسعهما أفقيًا ثم عموديًا؛ نتيجة تراكم استياء شعبي واسع النطاق. وتتشابهان أيضًا في سرعة ظهور الحاجة إلى قيادة سياسية من خارج البلاد، لما يمكن أن تواجهه أي قيادة في الداخل من قمع وحشي واستهداف وقتل. في بعدهما المُسلّح، تتشابه الثورتان في تشرذم الفصائل المقاتلة، وغموض أسباب انقسامها، على الرغم من وحدة هدفها؛ واستخدام «العنف الثوري» -على صورة أفعال صادمة وقاسية ضد المدنيين أحيانًا- لفرض صوتها؛ والاقتتال الداخلي بين الفصائل والمجموعات المقاتلة؛ واستقطاب مقاتلين ومساعدين مؤمنين بإيديولوجيا جامعة؛ والاعتماد على التمويل من مصادر مشبوهة؛ وحضور التطرف تحت مسميات إيديولوجية، منها تلك الدينية (ولا يتضمن ذلك تنظيم «داعش»، فهو أبعد ما يكون عن الثورة وأهدافها وأحد أكبر أعدائها، والذي يجد مقابلًا أقل وحشية له في الثورة الفلسطينية، متمثلًا في الحركة التي قادها أبو نضال). ولعل التشابه الأهم يبرز لدى دراسة العلاقة بين القيادة السياسية والعسكرية من جهة، والقاعدة الشعبية من جهة أخرى، في كل من الثورتين؛ وجدلية الكفاح السلمي والمسلح أيضًا، وليس في المجال هنا مُتّسع لدراسة كهذه.

على الضفة الأخرى، تبدو التشابهات بين النظام السوري والاحتلال الإسرائيلي أكثر وضوحًا. فقد اتّبعت عصابة النظام السوري استراتيجية طورتها عصابة الاحتلال الإسرائيلي، من مواجهة أشكال الاحتجاج كافة -أيًا يكن شكلها- بعنف متصاعد، لا يعرف رادعًا قانونيًا ولا أخلاقيًا، ولا يقف في وجهه إلا مجموعات شعبية فقيرة التسليح، صوفية الشجاعة؛ إلى اغتيال أو تهجير أو محاولة تهميش القيادات الفكرية والسياسية القادرة على تنظيم القاعدة الشعبية على أسس أخلاقية واجتماعية لا لبسَ فيها، وتدمير البيئات التي توجد فيها المقاومة تدميرًا كاملًا، يخلق مزيدًا من التطرف، وبالتالي؛ مزيدًا من الشقاق بين البيئة المضيفة للمقاتلين والمقاتلين أنفسهم، والحصول على مظلة دولية عبر استخدام الفيتو في مجلس الأمن، من روسيا في حالة النظام السوري، ومن الولايات المتحدة في حالة الاحتلال الإسرائيلي. ولعل البعد المُهمَل من التشابه بين الاستراتيجيتين، هو بذل كل جهد ممكن لنزع الصفة الإنسانية عن الضحية، والاستناد إلى اقتناع النظام العالمي بتركز مصالحه مع الجلاد؛ ما يؤدي إلى توظيف آلة البروباغاندا العالمية؛ لتصوير الأمور بعكس حقيقتها، وإسكات الرأي العام العالمي، بعد إقناعه بالعجز إزاء الصراع الدائر.

للوهلة الأولى، تبدو مسألة الهوية خلافًا مهمًا بين الحالتين، السورية والفلسطينية. ونعني الفرق بين كون طرفي الصراع في سورية من هوية واحدة، وكون طرفي الصراع في المسألة الفلسطينية من هويتين مختلفتين. إلا أن النظام السوري سعى -بدأب- إلى تأسيس حدود واضحة لهوية من يقاومونه، تفصلهم -بأكبر قدر ممكن- عن بقية السوريين، فتبنى خطاب «نحن وهُم» منذ اللحظة الأولى، وخلط الأسس الطائفية بالأسس الإيديولوجية، وأخيرًا الجغرافية، لتعميق ذلك الفصل. ويبقى السؤال حول ما إذا كان النظام قد نجح في خلق هويتين سوريتين مختلفتين محل جدل، ولكن الذي لا ريب فيه هو أن ما يعرف بـ«المجتمع الدولي» قد اتّبع سعي النظام، بل وساهم فيه إعلاميًا واستخباراتيًا. وكما يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى تدمير الهوية الوطنية الفلسطينية -بما هي تجمعات سكانية ومؤسسات مدنية ونتاج فكري وثقافي وتراثي- من خلال سلسلة من الحروب والحملات العنيفة، يسعى النظام السوري إلى تدمير الهوية التي كان بحاجة إلى خلقها من قبل.

لقد تمثّل تلازم القضية السورية والقضية الفلسطينية في مأساة مخيم اليرموك، الذي ابتدع مجتمعًا فريدًا عابرًا للهويات المحلية والطائفية، والذي لا يوفر النظام جهدًا في مسعاه لتدميره، لا لأنه يشكل خطرًا عسكريًا يُعتدّ به، بل لأنه واحد من الرموز الأهم لتكافل ضحايا القمع والقتل والتشريد والإفقار، من سورية وفلسطين معًا.

وسوم: العدد 698