مدائح هوليوودية لأبي جهل الأمريكي

بعد السماح باقتراف كبرى الخطايا، يسقط الحق في الامتعاض من الأخطاء الناجمة عن الخطيئة الأصلية. هكذا أفهم مسألة قرار «الشخص الساعي للجلوس في أجلّ مقعد في بلادنا»، كما أشارت إليه الممثلة الشامخة مريل ستريب، تعيين صهره مستشارا في البيت الأبيض. وعدم تسمية مريل ستريب الرجل بالاسم دليل على أنها تدرك أن التسمية ليست أمرا اعتباطيا بل إنها اعتراف بالمسمى، سواء بمعنى الإقرار له بالقيمة أو التقرير بأن لوجوده دلالة. ذلك أن آية تحقق وجود الأشياء في بدء الخليقة إنما كانت في التسمية وبالتسمية، فعجز الملائكة عن الإنباء «بأسماء هؤلاء» علامة على أن هذه الأشياء كانت ما تزال بالنسبة لها في طور سابق على طور الوجود بالفعل، علما بأن الفيلسوف المجتهد طه عبد الرحمن، أمده الله بموفور الصحة، يذهب إلى أن هذه الأسماء التي علمها الله سبحانه لآدم لم تكن تتعلق بالأشياء وإنما بالكليات: مثل الصدق، والحق، والعدل، الخ.

ولطالما عجبت من عدم انتباه الكثيرين لهذه الحقيقة المبدئية: أن التسمية لا تحقّ إلا لمن هو جدير بالاحترام، أما من هو جدير بالاحتقار فإن ذكره بالاسم يعني التنعّم عليه بالاعتراف، بل وبالتقدير. والأحرى أن يذكر الجدير بالاحتقار غفلا من الاسم، أو أن يكنّى بأبرز مواصفات شخصيته، تماما مثلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع «أحد العمرين»، فكنّاه «أبا جهل». وإذا كانت مريل ستريب ذكرت أبا جهل الأمريكي بما هو أهل له من الاشمئزاز فذلك لأن هذه السيدة المتألقة، التي تومض في فنها لمع من أجمل ما أنتجت الثقافة الأمريكية، قد أصدرت حكم الضمير الإنساني على رجل هو من أبذأ ما أنتجت هذه الثقافة! 

ورغم أن المزاعم في قصة الملف الاستخباري الروسي المحرج، سواء صحت أم لم تصح، تبدو هي الأغرب والأشذّ والأدعى إلى بث شعور الندم والعار لدى من انتخبوا هذا الرجل الفاحش الثراء، فإن هذه المزاعم تتعلق بماضيه الشخصي. أما إقدامه على تعيين صهره مستشارا رئاسيا فإنه شذوذ يتعلق بسلوكه السياسي الحالي وبأخلاقياته الرئاسية المستقبلية. أي أنه علامة على أن هذا النيويوركي لا يزال سابحا في فلك ما قبل الحداثة: «أنا وأخي على ابن عمي…» و«الأقربون أولى» بالمناصب والامتيازات والترقيات.

وليست محاباة الأقارب سوى لون من ألوان ذهنية سائدة لدى كثير من مسؤولي الدول والإدارات والمؤسسات، هي ذهنية تقديم الولاء على الكفاءة. وعادة ما تزدهر هذه الذهنية في الدول والمؤسسات التي يكون صاحب القرار الأول فيها، أي الحاكم أو الوزير أو المدير، هو نفسه مفتقرا إلى الكفاءة، فيكون من المريح له نفسيا أن يحيط ذاته المهزوزة بأفراد مضموني الولاء إما لقرابة بيولوجية (أي عائلية) أو إيديولوجية (أي مصلحية) أو لسابق فضله عليهم بالتوظيف والتوزير والتزوير. وهذه الذهنية مستشرية في بلاد العرب، وقد تفاقمت في العقود القليلة الماضية، حتى لا تكاد الآن تظفر في بعض المؤسسات بموظف كفء إلا على سبيل الخطأ (!) غير المقصود في سياسة التوظيف القائمة على انتقاء الأجهل فالأجهل.

الجيّد في الديمقراطيات أن التعيينات بالولاء بدل الكفاءة سرعان ما تنكشف وتعود على صاحبها بالفضيحة. فقد سارع بعض نواب الكونغرس من الحزب الديمقراطي إلى مطالبة وزارة العدل ومكتب الأخلاقيات الحكومية بالتحقيق في إمكانية وجود «مشكلات قانونية» ناجمة عن تضارب المصالح. ولكن الرئيس القادم موقن أنه لم يفعل شيئا منكرا. إذ الواقع أنه منسجم مع نفسه وأن أقواله وقراراته وتعييناته متسقة مع فهمه للدنيا. ولهذا فإن في محاولة إلزامه بالمعايير الأخلاقية الديمقراطية نوعا من التجني عليه! ذلك أن أمريكا قد دخلت الآن طورا جديدا لم تعد تنطبق فيه على حكامها مقاييس المسؤولية والنزاهة لأنها تحولت، باختيارها، من نظام ديمقراطي إلى نظام شعبوي. وما هي الشعبوية؟ إنها حالة الشعب متروكا لغرائزه يدغدغها السفهاء دون تدخل تصحيحي للقيم والمثل ولمن يحمل همها ويتحمل عبئها من الزعماء.

لم يعد إذن للطبقة السياسية الأمريكية، بعد أن سمح نظامها الانتخابي (الذي يتخذ المال إلها) للشعب باقتراف أشنع الخطايا (اختيار «أبي جهل» رئيسا)، أيّ حق في الامتعاض من مسلسل الأخطاء التي استتبعتها الخطيئة «الديمقراطية» الأصلية.

٭ كاتب تونسي

وسوم: العدد 703