في ملابسات تغيير استراتيجية تركيا سورياً

ثمة تغيير جذري في رؤية الأتراك للأزمة السورية وطريقة التعامل معها. بات هذا معروفًا، لكن تحليل ملابساته يبقى مجالًا للدراسة. في بداية الثورة السورية، وعكسَ ما يعتقد كثيرون، أصر الأتراك على تجنب التدخل في شؤون المعارضة السورية إلى درجةٍ (مثالية)..

وهناك أحداث ووقائع ووثائق تؤكد هذه الحقيقة، عاشها كاتب هذه الكلمات، مع قيادات المجلس الوطني تحديدًا، بحكم العمل السياسي في المجلس تلك الفترة. مع بدء عسكرة الثورة، ثم نشوء الائتلاف،

وتصاعد التدخل الإقليمي والدولي، دخل الأتراك في المعادلة. لكن دخولهم ذاك لم يكن مُهيمِنًا ولا مدروسًا، وإنما كان جزئيًا، ويندرج دائمًا في سياق التعامل مع المداخلات المذكورة، وتجريب سيناريوهات متعددة، مع التأثر بتوافقات الداعمين حينا، وخلافاتهم أحيانًا. وبشكلٍ عام، كان يغلب على سياسة تركيا ردود الأفعال تجاه التغيرات السورية والإقليمية والدولية، ومحاولة الحركة بناءً عليها. لكن عام 2016 حمل أحداثًا قلبت الرؤية التركية رأسًا على عقب. تضمّنَ هذا همومًا داخلية اقتصادية وسياسية وأمنية، وتهديدات خارجية، وشكًا في المصداقية العملية للتنسيق مع الحلفاء العرب. وأهمُّ من هذا كله، خيبة أمل كاملة (والنهائية) تجاه جميع أطياف المعارضة السورية السياسية والعسكرية، فيما يتعلق بقدرتها على تحقيق أي إنجاز على المدى المنظور. من هنا، تشكلت لدى الأتراك رؤية إستراتيجية مغايرة فيما يتعلق بسوريا وثورتها، هنا بعض عناصرها. إن القضية السورية طويلة الأمد، واستمرار الوضع على ما كان عليه، بالمعطيات السابقة، لن ينفع السوريين حتمًا، وسيضرُّ بتركيًا قطعًا. أي أن نتائجه ستكون خسارة للجميع. بالمقابل، قد لا تُحقق الاستدارة الكاملة الحالية، خاصة تجاه روسيا، نتائجها الكاملة المرجوة، لكن أي نتائج سلبية لها لن تكون حتى قريبة من درجة سوء الوضع من دونها. هذا فضلًا عن أن الاستدارة نفسها يمكن أن تكون ورقة ضغط إستراتيجية لتصحيح العلاقة مع أوروبا والناتو وأمريكا على المدى المتوسط والبعيد، وقد تأتي زيارتا رئيستي وزراء بريطانيا وألمانيا لتركيا مؤخرًا في هذا السياق. ثمة قاعدة في علم التفاوض تؤكد بأنه فن التنازلات المتبادلة. وإذ يعلم الأتراك صعوبة حصولهم على كل ما يريدون، لكنهم يحاولون توظيف القاعدة من خلال ربط القضايا ببعضها، والقيام بمقايضات حالية ومستقبلية، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، بشكلٍ كبير ومعقد. من هذه المنطلقات، يبدو تعامل الأتراك مع فصائل المعارضة السورية السياسية والعسكرية، فيما يخص الروس والأستانة والمفاوضات، محكومًا بجملة عناصر.

يطرح الأتراك للفصائل أنهم حققوا لهم أهدافا أساسية كانت شبه مستحيلة، منها: اعتراف روسيا والنظام بهم، والإقرار العملي بأنهم الفاعلون على الأرض، وبالتالي فسيكون دورهم في العملية السياسية أساسيًا وليس تجميليًا، وستبقى مواقع سيطرتهم الجغرافية في حوزتهم بينما كان احتمال فقدانها مرجحًا في ظل استمرار الوضع السابق. إلى هذا، سيستخدم الأتراك موضوع المشاركة في الأستانة كعملية فرز نهائي أمام روسيا (وأوروبا وأمريكا) بين المعارضة المعتدلة وغير المعتدلة.

*كاتب سوري.

وسوم: العدد 706