الإسلاميون والثورة السورية: ست سنوات استثنائية

في ربيع العام 2011، عندما كانت مجموعات من الشباب السوري تتواصل لتحديد موعد انطلاق المظاهرات ضد النظام، قبل أن تحدث حركة التلاميذ في درعا، كان لافتاً رفض "حزب التحرير الإسلامي" المشاركة في هذا الحراك. لم يختلف موقف الحزب حتى مع توسع المظاهرات لاحقاً، وتحولها إلى ثورة شعبية بكل معنى الكلمة، إذ تمسك بموقفه الرافض لأي حراك يمكن أن "يتسبب بالفوضى وسفك الدماء"، مدللاً على صحة موقفه بالتعامل الدموي للنظام مع هذه الانتفاضة، قبل أن يبدأ الحزب نشاطاً محموماً بعد سيطرة الجيش الحر على مساحات واسعة من الشمال خلال العام 2012.

"حزب التحرير الإسلامي" كحركة سياسية ينادي بعودة الخلافة منذ خمسينيات القرن الماضي، هو حالة فريدة من نوعها بين التيارات الإسلامية السياسية. بل هو من هذا الجانب، يشبه التيارات السلفية التقليدية "المستكينة" سياسياً، والتي يقوم الكثير منها على أساسات أهمها؛ رفض الخروج على الحاكم ما دام يقيم الصلاة، وتحريم المظاهرات باعتبارها بدعة، بل وتجنب مزاحمة "أولياء الأمر" على العمل السياسي بالمطلق، والتركيز على اصلاح المجتمع، وفق قاعدة "أن الدولة الإسلامية الحقيقية، هي نتاج مجتمع إسلامي حقيقي وليس العكس".

لكن هذه التيارات، ومع ذلك، لم تتوانَ عن الانخراط في الثورة السورية لاحقاً، بشكل أو بآخر، وهو تطور يتداخل في الدفع نحوه كما هو واضح، السياسي مع المذهبي، خاصة وأن من أيد الانتفاضة ضد النظام في سوريا من رموز هذه التيارات، كان قد عارض وبشكل حازم الثورتين في تونس ومصر قبله.، ولعل أبرز مثال على ذلك، موقف عضو هيئة كبار العلماء في السعودية الشيخ صالح اللحيدان، الذي كان قد وصف المظاهرات ابان الانتفاضتين الشعبيتين ضد الرئيسين الحليفين للمملكلة العربية السعودية، زين العابدين بن علي وحسني مبارك، بأنها "من الفتن غير المحمودة شرعاً"، لكنه أكد على ضرورة دعم الثورة السورية، ودعا السوريين عام 2012 إلى "مواصلة الجهاد ضد نظام بشار الأسد حتى اسقاطه، مهما كلف ذلك من تضحيات".

يعكس المثال السابق اضطراب الموقف السلفي في مواجهة الربيع العربي بشكل عام، وهو الاضطراب الذي كانت صورته جلية مع سلفيي مصر، بينما لم يكن له أصداء واسعة في ما يتعلق بالسلفيين السوريين، الذين قاطع أكثرهم في البداية، مثل "حزب التحرير" المظاهرات، باعتبارها لا تدعو بشكل صريح إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، ولم ينخرطوا في الثورة إلا بعد تحولها إلى السلاح، باستثناء مؤيدي السلفية الجهادية منهم، الذين كانوا وعلى محدودية عددهم، يمتلكون قراراً واضحاً بالمشاركة في الحراك، ووفق استراتيجية مدروسة، تقضي بعدم الإعلان عن انتمائهم وأهدافهم في البداية.

يؤمن السلفيون الجهاديون، بضرورة استخدام العنف المسلح لإسقاط الأنظمة في البلدان العربية والإسلامية، باعتبارها أنظمة "طاغوتية كافرة" غالباً. ويعتقدون بشكل قاطع، أن "الدولة الإسلامية الحقيقية، هي من يصنع المجتمع الإسلامي الصحيح"، كما يعتقدون بأن الجماهير "العوام" غير قادرة ولا مستأمنة على القيام بهذا الدور، الذي هو شأن النخبة التي يمثلها التيار. وهذا ما طبقه تنظيم "الدولة الإسلامية" حرفياً، حين أعلن "دولة الخلافة" وفرض فيها رؤيته الدينية على المجتمع بالقوة.

ومثل السلفية الجهادية، يرى "الاخوان المسلمون" أن الوصول إلى الحكم، هو الطريق الوحيد لتحقيق الدولة الإسلامية المنشودة، وإن كانوا أقل تصلباً من ناحية النخبوية، بينما تطورت رؤيتهم لطرق الوصول إلى السلطة، من العنف وحده، إلى ممارسة السياسة بكافة أدواتها، ومن بينها بالطبع المظاهرات والحراك الجماهيري.

ولم يتردد الكثير من مؤيدي "الاخوان المسلمين"، وهم على الأغلب من بقايا عوائل وأقارب جيل سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين من الجماعة، الذين عاشوا بعد هزيمة آبائهم ظروفاً صعبة فرضها عليهم النظام، بسبب العلاقة التي تربطهم بذلك الجيل الذي حاربه من "الاخوان". فلم يترددوا على عكس ما بدت عليه قيادة الجماعة في الخارج، في المشاركة في المظاهرات منذ بدايتها في آذار 2011، ولكن من دون اظهار أي انتماء سياسي أو تنظيمي أيضاً.

غموض موقف قيادة "الاخوان المسلمين" خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عمر الثورة السورية، كان أحد أهم أوراق خصوم الجماعة في اتهامها بركوب الثورة ومحاولة استغلالها. بينما دافع "الاخوان" باستمرار، مثلهم مثل السلفيون الجهاديون، عن عدم إعلان موقفهم الصريح من الحراك الشعبي منذ انطلاقته، بهدف حماية هذا الحراك، وعدم منح النظام فرصة تصنيفه وتأليب العالم ضده.

وعند الحديث عن السلفية وحضورها في الثورة السورية، فنحن أمام طيف كامل من تيارات هذه المدرسة، وليس فقط التيار السلفي الجهادي، على الرغم مما يشكله ذلك من مفارقة بالنسبة لأغلب هذه التيارات، ممن عرف بالانتماء للسلفية التقليدية العازفة عن السياسة.

بالنسبة إلى "جيش الإسلام" الذي كان نواته "لواء الإسلام"، فقد تأسس كما هو معروف على يد الناشط السلفي الذي كان معتقلاً في سجن صيدنايا، زهران علوش، والذي ينتمي كمعظم أفراد أسرته الدومانية في ريف دمشق، إلى السلفية العلمية المحسوبة على المحدث ناصر الدين الألباني، والذي اشتهر بموقفه السلبي من العمل السياسي القائل: "إن من السياسة تجنب السياسة".

ومثل السلفية العلمية، لا ترى السلفية الدعوية في العمل السياسي أي اهتمام، لكن ومع ذلك، فإن "لواء التوحيد" الذي ظل ولأربع سنوات متتالية من عمر الثورة، أكبر فصائل المعارضة في حلب والشمال، فقد كان أبرز مؤسسيه وقائده العسكري المعروف عبد القادر الصالح، من اتباع هذا التيار وناشطيه الفاعلين قبل الثورة.

حالة لم يكن من الممكن تفهمها بهذه السهولة، بالنسبة لتيارين تقليديين عريقين داخل المدرسة السلفية في القطيعة مع السياسة، والتركيز على نشر الدعوة السلفية والاصلاح الاجتماعي. لكن هذا لم يمنع الكثير من اتباعهما في سوريا، من الانخراط في الحرب في العراق بعد الاحتلال الاميركي في العام 2003. تشجيع النظام للسلفيين على التوجه للقتال هناك، ثم اعتقال العائدين منهم، كما حدث مع العديد من قادة ومؤسسي "حركة أحرار الشام الإسلامية"، وغيرها من الجماعات السلفية الحركية الأخرى التي كانت صغيرة خلال سنوات الثورة الأولى، ثم ذابت لاحقاً في الجماعات الأكبر، ساهم في جعل السلفيين السوريين بكافة انتماءاتهم حالة خاصة، ما منحهم مرونة أكبر على الفاعلية السياسية.

ولعل "حركة أحرار الشام" وهذه الجماعات السلفية المقاتلة الصغيرة، تمثل وجهاً آخر من وجوه الانقسام السلفي وعدم اليقين السياسي داخل هذه المدرسة. إذ كان بالإمكان على الساحة السورية إحصاء عدد كبير منها، بعضها لم يكن يزيد مجموع العناصر فيها على العشرات، ومع ذلك فقد سعت بكل جهدها لتبقى مستقلة، قبل أن تجبرها الظروف العاصفة على القبول بالاندماج مع الجماعة الأكبر الأقرب إليها من التنظيمات السلفية الحركية الأخرى.

ولعل أوضح الأمثلة على ذلك هو آخرها؛ عن "لواء جند الأقصى"، الذي عقد اتفاقية مع "هيئة تحرير الشام" في شباط/فبراير، تمكن بموجبها من الخروج إلى مناطق سيطرة "تنظيم الدولة الإسلامية". من دون أن ننسى بالطبع أسماء مجموعات أخرى كانت فاعلة رغم صغر حجمها، مثل "الكتيبة الخضراء" و"صقور العز" و"أنصار الخلافة" و"شام الإسلام" و"فجر الشام"، وغيرها من الكتائب والمجموعات التي انضم أكثرها إلى "جبهة النصرة-فتح الشام"، وبعضها إلى "حركة أحرار الشام".

و"الحركة" التي تمثل أول تجربة عملية للمدرسة "السرورية" حسب المعطيات، رغم عدم اعتراف "أحرار الشام" رسمياً بذلك، نجحت بالفعل في أن تجسد فكرة مؤسس هذه المدرسة، الشيخ محمد سرور زين العابدين، في الجمع بين التعاليم السلفية والحركية الاخوانية، قبل أن تمارس انفتاحاً أكبر تجاه قوى التدين الشعبي، على حساب النخبوية السلفية-الاخوانية. وهو الأمر الذي منحها توسعاً أفقياً كبيراً، لكن هذا التوسع كان على حساب هويتها وتماسكها.

وحدها قوى التدين الشعبي ومدارسها الاسلامية التقليدية، الأشعرية غالباً والصوفية كذلك، نجت من التصنيف والاتهام على الصعيد الفقهي، حتى وهي تنقسم في موقفها تجاه الثورة والنظام.

فلا القسم الذي أيد الانتفاضة الشعبية ضد النظام مثل "جماعة زيد" في دمشق ومشايخ حمص ودرعا واتباع "المدرسة الخزنوية" الكردية، اتهم بالخروج عن ثوابته بسبب هذا الموقف، ولا القسم الذي عارض الثورة في المقابل، مثل اتباع محمد رمضان البوطي ومدرسة أحمد كفتارو في دمشق، كان بالإمكان محاصرته فقهياً، حتى وإن أمكن اتهامه من زوايا أخرى طبعاً، سياسية وأخلاقية. وكذلك فإن من التزم الصمت من تيار التدين المحلي، مثل أتباع المدرستين "الكلتاوية" و"الشعبانية" في حلب، كان بإمكانه التدليل على صحة موقفه بأدلة من النصوص الدينية.

استطاعت جماعات الإسلام التقليدي الشامي أن تمارس موقفها السياسي من قضية الثورة، وهي متخففة تماماً، وعلى عكس التيارات السلفية التقليدية، من حِمل المواقف القطعية المسبقة سلفاً من السياسة والسلطان. إذ مثل هذا التيار باختلاف مواقفه في النهاية، ليس فقط تباين المزاج الشعبي السني من الثورة، بل وأيضاً تعدد الاجتهادات الفقهية من قضية العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام. ولم يكن لأي من هذه الجماعات مسبقاً موقفاً محدداً من قضية الثورة والخروج على الحاكم يمكن محاسبتها عليه، كما هو الحال مع الجماعات السلفية، بل استخدم كل منها ما يتوافق وموقفها من نصوص التراث الإسلامي الثري بهذا الخصوص.

لا يمكن طبعاً الإحاطة بسهولة بمواقف التيارات الإسلامية السنية الحديثة من الثورة والسياسة بالمجمل، لكن يمكن تتبع مسارات تفاعلها مع الحراك الشعبي، في ما يتعلق بثورات الربيع العربي بشكل عام، والثورة السورية بشكل خاص، والتي مثلت فضاء فريداً من نوعه بكل معنى الكلمة، لتطور سريع لا يزال مستمراً ومرشحاً لمزيد من السيولة والديناميكية.

فخلال ست سنوات من الثورة والحرب بين المعارضة والنظام، ومن الصراعات والمنافسات بين القوى والتيارات الإسلامية المعارضة نفسها، انتجت التجربة السورية اطواراً جديدة من أنماط التفكير والفعالية السياسية الإسلامية، التي كسرت قوالب ظلت صامدة لعقود. فدخلت السلفيات غير السياسية مجال السياسة من أوسع أبوابه، وشهدت السلفية الجهادية انشطاراً لم يكن متوقعاً، تجلت صورته الكبرى بانفصال تنظيم "الدولة الإسلامية" عن تنظيم "القاعدة"، التي عاشت هي الأخرى عبر "جبهة النصرة-فتح الشام"، في حدث استثنائي جداً، تجربة لافتة وغير منتهية على ما يبدو.

كما أعاد "الاخوان المسلمين" الذين كانوا الأكثر نشاطاً وتجريباً في مختلف مجالات الثورة، السياسة والعسكرية والخدمية، صياغة الذات بشكل غير مسبوق، وفرضت قوى جديدة من التيار الإسلامي الشعبي نفسها ضمن المعادلة، وإن كان بشكل أولي وغير ناضج، وهي كلها معطيات ستظل مفتوحة على الدراسة، طالما بقيت المعركة مفتوحة بهذا الشكل.

وسوم: العدد 712