إضاءات على ظلال طائفية...

عقاب يحيى

مراراَ كنت سأكتب الكثير عن بنية "التركيبة الأقلوية" عموماً، والمحسوبين على الطائفة العلوية بوجه الخصوص ..لأنها حالة مثقلة على الوعي والوقائع، وتطرح نفسها بقوة أكبر من كل محاولات تمريرها، أو التملّص منها..

ـ ورغم أني تناولت ـ عبر السنوات ـ هذا الجانب بكثير من التفصيح، والجرأة أحياناً، والنقد المحسوب أحاييناً أخرى.. وكتبت بشكل مبكر عن الطائفية والدين والمذاهب.. وعن تغلغلها فينا : تسريباً أم تنهيجاً...لكن الظاهرة ما زالت تحتاج المزيد من البحث بالنظر لتأثيرها، وقوتها، ومفاعلاتها الراهنة وفي مستقبل بلادنا..

*****

ـ دوما تواجهنا الحسابات والتحسبات.. خاصة وأننا لا نكتب عشقاً بالفذلكة والكتابة.. بل لهدف يجب أن يخدم القضية الكبرى.. لذلك أشعر وكأننا ندخل حقول الألغام.. فيمسكنا ذلك الخوف من تفجر لغم ما ـ مختلف الحجم ـ بوجهنا، أو بوجه الغاية التي نرمي إليها، فندور حول الموضوع، ونستخدم التعابير المرنة، أحيانأً، والعامة أحايين أخرى..وتواجهنا أيضاً إشكالية أخرى من وزن ثقيل تخصّ تاريخنا الذي عشناه. المبادئ التي آمنا بها. الحزب الذي انخرطنا به دهراً . التضحيات الجسام التي قدّمناها أجيالاً تحت شعارات الوطن والتقدّم والتوحيد.. والتثوير.. والكثير، والخوف المعمم من أن نكون" كالأطرش في الزفّة"، أو مثل الزوج المخدوع، أو الهائم في الطوفة..

والحقيقة أننا، وفي جلساتنا الخاصة، كثيراً ما كنت نتناقش في الذي جرى وخلفياته.. ولم نصل مرة إلى قناعات راسخة بأننا كنا ضحايا فعل أكبر منا، وكنا مجرد أدوات صغيرة وواجهات فيه، بالوقت الذي لم نستطع التوافق على حكم عملي لعديد الظواهر والأحداث التي كانت تقف في حلقوم التحليل الموضوعي.. كما أن نهج المؤامرة مرعب هنا، ونتائجه كارثية..لذلك بقيت هذه الأمور تدور في الاجتهادات والاختلافات ..

ـ حين أخذت الظاهرة الطائفية تظهر فجّة في حزب البعث، والسلطة المحسوبة عليه، أو بالأحرى : المحسوب هو عليها، والمجيّرة، واقعياً، لسلطة المؤسسة العسكرية وتماوجاتها.. وهو الذي يفترض، وفقاً لشعاراته العريضة الطويلة.. في وحدة الأمة.. وبناء الدولة الما فوق وطنية.. أن يكون الأبعد عنها، وعن التلوث بها .......

كانت الآراء مختلفة. متناقضة.. تبدو خجولة، ومترددة.. بين محاولات التفسير التحليلي للمسارات، وبنية الريف، وتاريخ البعث وما جرى له بعد الوحدة وانزياح عديد أبناء المدن عنه والتحاقهم بالحركات الناصرية والأحزاب التي نشأت بعد ذلك، والمؤسسة العسكرية بعد "نكبة فلسطين" وتوسعها لتشمل عديد الضباط من ابناء الريف الذين فتح لهم المجال واسعاً في الكليات الحربية، ثم بعد الوصول للحكم وتسريح أعداد كبيرة من الضباط المحسوبين على الانفصاليين، فالناصريين، والمستقلين.. فالتصفيات البعثية التي أخرجت ـ ايضاً ـ عديد الضباط من غير العلويين ـ لمنح ذلك التغول البارز لثقل علوي في الجيش على أنه طبيعي، ويستقيم مع البنى الطبقية، وإقبال أبناء الريف على التطوع في الجيش..وخاصة في أبناء الطائفة العلوية.. وفي المراتب الدنيا ـ جنود وصف ضباط ـ ثم في موقع الضباط.. لكن مثل تلك التفسيرات والتبريرات لم تجد من يوافق عليها تماماً، وحتى النهاية.. فحدث نوع من التداخل، والتناقض. بل والاختلاف بين المحكي رسمياً وذلك الذي يجري الحديث فيه ضمن الجلسات الخاصة"الموثوقة" أو عبر الهسيس.. وفي التحليل والتفسير..

هناك من ذهب باتجاه التركيز على قوة العلاقات القروية، العائلية، الطائفية، وهناك من توقف حول موقع "المظلومية"وأثرها في الاسترجاع والاستخدام، والثقافة المشتركة في توحيد الرؤى والمواقف السياسية بشكل عام، وهناك من أراد أن يحصرها بتصرفات فردية لبعض المسؤولين من كبار الضباط العلويين لتقوية نفوذهم ومواقعهم بجلب ابناء العائلة والقرية والمقربين والاستقواء بهم..وتشكيل ما يشبه التكتلات التي تخدم الرؤوس المغذية لها ..

ـ لكن وفي خضم توحش تلك الظاهرة، وعلنيتها الفجة في مرحلة الطاغية الأكبر، وبروزها موضعات لا يمكن تغطيتها بأي تحليل أو تبرير مما كان شائعاً من قبل، واستناد انقلابه التفحيحي، ثم علانيته الوقحة في طلاب الكلية العسكرية  اغلبية ساحقة من الطائفة العلوية ـ ، وفي المواقع التي ارتكز إليها في أجهزة الأمن، والقوات العسكرية المهمة.. وترشيح نفسه رئيساً للجمهورية، وفرض تسميته بالقائد.. وبقية المواصفات الخارقة...وتعميم الحالة الفئوية في مختلف الميادين، خاصة في البعثات التعليمية، والمناصب الحيوية.....

ـ في ذلك الخضم، وعلى قاعدة خيبات الأمل مما يدعى ب"الجيش العقائدي" الذي لم يحرك ساكناً حين قرر الطاغية دخول لبنان بتلك الصفقة المشبوهة لضرب تحالف الثورة الفلسطينية بالحركة الوطنية اللبنانية.. وما تلاها من مفردات مشينة لمعظم الضباط، ثم المشاركة في حفر الباطن مع القوات الأمريكية لضرب العراق، وفي ضرب الشعب السوري، وإقامة المجازر المتنقلة للمدن.. اثناء ما يعرف بالصدام مع " الحركة الدينية" وتتويجها في مجزرة حماة الشهيرة /شباط 1982/.. انتشرت تحليلات قوية تعيد تفسير تغلغل واستفحال الظاهرة الطائفية، وغزوها للبعث والحكم إلى وجود تنظيم سري داخل البعث.. يقوده عدد من العلويين، وهو تنظيم قديم، يخطط ويقرر، وينتشر مثل أي تنظيم هرمي من تحت لفوق.. وبالتالي فالأمور ليست عفوية، وهي نتاج فعل ذلك التنظيم وما يراه، ويعممه، وأن ذلك التنظيم المنتشر بقوة، والقديم بتاريخه.. ليس شرطاً انه يشمل الجميع، بل يكفي وجوده في المفاصل والمواقع الحيوية كي يحقق السيطرة، وكي تصبح قراراته مجسّدة..

ـ الكثير استنكر مثل هذا التفسير، خاصة من المعارضين للنظام في الطائفة العلوية، ومعهم عدد آخر وجدوا فيه ظلماً وتجنياً ومغالاة.. في حين أن وضع الطائفة العلوية، والتفافها المكين، بأغلبيتها الساحقة، حول النظام، وإقدام كثيرها على تنفيذ ما يقرره من أعمال مشينة، ومسيئة، وطائفية دموية وحاقدة، وخطيرة على الوحدة الوطنية، وعلى حاضر ومستقبل التعايش والمصير المشترك.. يفتح الشهية ـ من جديد ـ لإيجاد تفسير منطقي لهذه الحالة يتجاوز التبريرات الكثيرة التي سمعناها عن الخوف والتخوفات، أو وضع اللوم والحق على الاخرين وتطرفهم، أو موقع بعض التصريحات والأفعال المتشددة من هذا الوضع..أو كل ما يقال عن التطمين والاطمئنان.. ذلك أنه كان يفترض، والثورة السورية ما تزال سلمية، وشعاراتها موحدة تتجه إلى عموم الشعب السوري، ان يقوم اصحاب القرار في الطائفة بفعل يليق يخلص البلاد، ويخلصهم من شرور عائلة الأسد وكبار المجرمين في نظام يصرّ على القتل نهجاً وحيداً، والحل الأمني سبيلاً للتعامل مع مطالب الشعب السوري، وهو الأمر الذي لم يحدث.. والذي قيل فيه الكثير، وفتح المجال لمزيد الاتهامات والتفسيرات

****

والحق أتمنى لو أن عديد المحسوبين على الطائفة العلوية من المعارضين المنضوين بالثورة يتصدون هم لتقديم تحاليل واقعية، وتفاسير يمكن أن تشكل أرضية مشتركة لفهم هذه الوضعية.. بحثاًُ عن وسائل عملية للتعامل معها..