آذار وبحار الدم (الحلقة التاسعة)

المذبحة المبيتة

18 تموز 1963

بينما كانت تجري المحادثات في القاهرة بين عبد الناصر والوفد السوري. كان الناصريون - مدنيون وعسكريون - يعدون العدة للانقضاض على البعثيين مستهدفين حصنهم الحصين.. الجيش.

وكانت سلطات البعث على علم بكل تفاصيل خطط وتحركات الناصريين. (استطاع البعثيون اختراق الناصريين من خلال زرع أحد عناصرهم المقدم محمد نبهان - أحد منظري التحركات الناصرية - ليكون عينهم بين صفوف الناصريين، وكان يقدم المعلومات كاملة وتفصيلية عن خطط وتحركات الناصريين إلى أعضاء اللجنة العسكرية. مما أفشل كل تحركاتهم).

وفي 18 تموز في وضح النهار.. وفي الساعة الحادية عشرة صباحاً.. احتل ما يقرب من ألفين من المسلحين مواقعهم.. في الحدائق العامة المحيطة بمبنى القيادة العامة للأركان.. يقودها من العسكريين كل من: (اللواء راشد القطيني نائب رئيس الأركان السابق، والعقيد جاسم علوان - زعيم الحركة - واللواء محمد الجراح رئيس قوى الأمن الداخلي في عهد الوحدة، والمقدم أدهم مصطفى نائب عبد الحميد السراج رئيس الشعبة الثانية، والعقيد مروان السباعي رئيس الشعبة الثانية بعد السراج، والمقدم رائف المعرّي) ومن المدنيين: (جهاد ضاحي أحد قادة حركة القوميين العرب وزير المواصلات السابق، وعبد الصمد فتيّح أحد مسؤولي الجبهة العربية المتحدة ونائب رئيس المجلس السابق، وعبد الوهاب حومد أحد قادة الجبهة العربية المتحدة ووزير المالية السابق، ويوسف مزاحم أحد الوزراء السابقين في الجمهورية العربية المتحدة). وهاجموا الأركان من جبهتين في نفس الوقت، وكذلك مبنى الإذاعة، وحرس أركان القوات المسلحة. على أن ردّة فعل السلطات البعثية - العالمة مسبقاً بهذا التحرك الناصري - كانت أكثر عنفاً.. وكانت معركة من أكثر المعارك دموية تعرفها دمشق. وكانت نتيجتها مئات من القتلى وإعدام فوري لثمانية عسكريين واثنا عشر مدنياً. واحتل الجيش - الذي بات بعثياً - النقاط الاستراتيجية في العاصمة. وأخذ (الحرس القومي) – ميليشيا شكلها حزب البعث - يطارد الناصريين في كل أرجاء البلاد السورية.

فقد توزع هذا الحرس على شكل حواجز ثابتة وطيارة في العاصمة دمشق، وكان في مقدمة القائمين على هذه الحواجز اللواء أمين الحافظ وزير الداخلية والعديد من القيادات الحزبية المتقدمة، الذين كانوا يستفزون المواطنين ويتعاملون معهم بقسوة وفوقية وينظرون إلى الجميع كأنهم متهمون بالعمالة والخيانة ومتآمرون على الوطن، كما انتشرت فرق من هذا الحرس في كافة المدن السورية لملاحقة الناصريين ومؤيديهم.

وقد يتساءل البعض لماذا لم تقم السلطات البعثية في دمشق بإلقاء القبض على قادة الحركة.. طالما أنها تعرفهم بأسمائهم وتعرف خططهم قبل أن يقدموا على تنفيذ العملية؟ والجواب بسيط: لأن البعث يريد ان يرهب كل معارضيه.. كما كان يريد أن يقضي عسكرياً على تنظيمات الناصريين السرية وعلى عناصرهم الأكثر نشاطاً.. ويزيد بالتالي من شقة الخلاف وقطع الجسور نهائياً ما بين دمشق والقاهرة.

مهما يكن من أمر.. فإن هذه هي المرة الأولى التي تُقمع فيها حركة انقلابية في سورية بكثير من العنف وإسالة الدماء الغزيرة التي لا مبرر لها.. وهي المرة الأولى أيضاً منذ الاستقلال التي يدافع فيها نظام عن بقائه في الحكم بالسلاح وإسالة الدماء. وبذلك يكون البعثيون في سورية أول من استنّوا هذه السنة السيئة.. والتي تشبه إلى حد بعيد السنة التي استنها قابيل عندما قتل أخاه هابيل.

بعد كل هذه الأحداث خرج عبد الناصر عن صمته ليعلن الحرب ضد البعث السوري.. معلناً في نفس الوقت انسحاب القاهرة من (ميثاق 17 نيسان) حول الوحدة الاتحادية الثلاثية بين مصر وسورية والعراق. وأعلن عبد الناصر: (أن السلطات التي تحكم اليوم في سورية لا تمثل الشعب السوري. لهذا فإنني أعلن قطع العلاقات مع الحكومة الفاشية التي تقيم في دمشق).

أما البعث السوري فقد اعتبر أن نقض ميثاق 17 نيسان هو بمثابة جريمة ترتكب ضد الوحدة العربية.. وانعطاف تاريخي خطير لا يختلف في شيء عن 28 أيلول 1961م، عند وقوع الانفصال السوري.. ولكنه بنفس الوقت يعلن (تمسكه) الذي لا يحيد عنه بهذا الاتفاق ويطلب تطبيق بنوده في الوقت المحدد.

يتبع

وسوم: العدد 722